كلما جلست صباحا في ركن مقهاي المعتاد إلا و ركزت على عمل النادلة و هي تمسح بمنشفة النسيان فضلات الأحاديث الباقية فوق الطاولة من ليلة البارحة، ثم أتساءل مع نفسي ككل الفارغين الذي يملؤون الطاولات ليُضحوا بغلاء الوقت مقابل صكوك الفراغ. لا يمكن لهذا الكم الهائل من مرتادي المقاهي ألا يهتموا بنادل المقهى و لا يكتبوا عنه فهو بات فردا ضروريا لا غنى عنه من العائلة، حتى لتَظُن أن القانون و العُرف سيُوِرثُه.
دعونا نجعلها نادلة اسمها نادية ، لأن عدد زبائنها أكثر- و أنا من هذه الأكثرية- و بالتالي فحِكَايَاتُها مثيرة للإهتمام. ليست فقط سيرتها الذاتية بل القصص الإنسانية التي تمر على مسامعها و التي أحسدها عليها. لأني مقتنع أن كل شخص فينا يطمح و يطمع في سماع سيناريوهات حياة الآخرين. فحياة واحدة لا تكفيه لإشباع النهم الكامن في رغبته معرفة حيوات أخرى متعددة لا يستطيع الحصول عليها، مادام روحا واحدة و عمرا وحيدا، لهذا يحاول اكتساب أخرى عبر استراق النظرلحياة الآخرين. لا ننسى هنا أن أكبر نسب المشاهدات على الأنترنيت هي التي تحصل عليها فضائح و تفاصيل الأشخاص الخاصة اليومية كانوا عاديين أو مشهورين أو حتى عاديين صاروا مشهورين بين روتين يومي و آخر بقدرة لايف أو vlog سريع.
نادية كانت مثلي مشدودة لهذا الأمر، دون وعي منها طبعا، أمر واحد كان يُنغِصُ عليها حلاوة هذا التجسس الحلال على حياة الناس الذين يُفرغون جعبة مشاكلهم و هواجسهم القابعة داخل منازلهم في المقهى لا البيت، فلا يمكن لهذا الأخير أن يكون مسرح الجريمة و المحكمة في نفس الوقت. هذا الأمر أو لنقل العيب في عملها هو أنها كانت تسمع مصائب و قصص الناس بشكل ناقص، مجرد مقتطفات مقتلعة من انسايبية الحديث المتواصل، فقد كانت مضطرة لترك الحديث في منتصفه بين زبونين لخدمة زبون آخر؛ ثم من هذا لآخر كان تعلم بحكم الخبرة أنه يفاوض أو يراود نفسه الكئيبة على مرآى سواد قهوته. أتعلمون الآن لم يستهلك الناس عندنا القهوة السوداء بكثرة؟ ثم يتفننون في تدليعها بمسميات عدة كأنها لا تعبر فقط عن الظلمة التي تغشى رؤوسنا و تعشش في الكراسي تحتنا.
لذلك كثيرا ما تمنت نادية تمزيق ثوب النادلة لارتداء وزرة الطبيب النفسي في جلسة علاجية كاملة، لعلها تشبع الجوع و لو لمرة في سماع قصة تامة بكل تفاصيلها و أركانها. كان هذا حلا مستحيلا لأن الطب يقتضي ثماني سنوات مليحات من تعرق العقل. قالت مع نفسها أنها قضت أربعة عشر سنة في هذا المهنة ضِعف مدة دراسة الطب، فيُجيبها فرويد من بعيد : ليست المسألة بالسنوات بل بعدد خصلات الشعر المعرضة للشيب أو الصلع من فرض التحديق في الحروف و التدقيق في الأرقام.
هذه الحقيقة لم تكن لتسمح لنادية بالإستسلام، فاختارت مهنة كاتبة لكي تُكمل من عِندياتها فصول القصص التي تسمعها يوميا في المقهى و قد كان خيارا موفقا : لأن منسوب التخيل سيبدو عاليا عندها مقارنة بالطبيب النفسي و بالتالي فمستوى التأليف سيغدو مرتفعا في إمكانيات تتمة قصص الناس الذين تصادفهم في المقهى. علينا أن نستوعب جيدا. غرضها كان رغبة إنسانية دفينة في مشاركة الآخرين مشاعر العطف و المواساة و الحزن التي يمرون منها مفضلين مشاطرتها مع الغرباء العابرين. و لنتذكر هنا واقعة ملأت على نادية نفسها تاركة آثارا ديناصورية في فؤاد امرأة لا يمكنها أن تكون محايدة و تتجاهل ما يدور في خواطر زبنائها بنفس القدر الذي تستجيب فيه لبكاء رضيعها في الساعة الثالثة فجرا. هي سنة الإنسان إذن حين يتسنى له أن يكون في زمرة النساء.
لقد تراءى إلى مسمعها يوما قصة حارس السجن الذي كان مقربا جدا من ابنه الوحيد الذي يبلغ الثامنة عشرة و يستعد للحصول على شهادة الباكلوريا، فوق ذلك كان فتى مهذبا رياضيا ذكيا. نموذج من الفِتيان الذين يمنحون الرغبة لأعتى العُزاب في الإنجاب. في ليلة من الليالي كان راجعا من الدروس الخصوصية قاطعا منطقة خالية و مُقفرة إلا من الظلام و أصحابه تعرض للطعن الذي أفضى إلى الموت بعد أن قاوم محاولة سرقة لهاتفه تحت التهديد بالسلاح.
إلى اليوم لم يتناهى خبر يقين إلى نادية عن مصير الأب : فهناك من يقول إنه نُقل من سجن المدينة مخافة الإنتقام من قتلة ابنه و كل من يعرفهم. آخرون يقولون أنه استبدل المقهى التي كان يرتادها بخمارة و لا يفيق فيها من السكر حتى بات غير مؤهل لوظيفته فتم طرده. أما نادية فقد تخيلته, كلا هي متأكدة من خيالها أن الأب يقبع الآن رفقة وحدته الكئيبة في ركن المقهى؛ شِبه مصلوب لا هو حي ولا هو ميت، يُحدقُ بفراغ في السقف كأنه كظيم لا يرى شيئا من آثار الحزن. أما أنا و نادية فكنا نراه بوضوح، نعلم ما يمر به و نعرف ما هو عليه.