النص :
أحلام متواضعة
محمد البنا
…………
” ياحماده يا مدرسة، لعب وفن وهندسة ” هتافهم الذي لم يهدأ منذ أن أطلق الحكم صفارته، أجج مشاعري، وأشعلني حماسة، أتلقى تمريرة زميلي، أراوغ خصومي واحدًا تلو آخر، والكرة عاشقةٌ تأبى مفارقة قلب حبيبها، يتقدم حارس المرمى مذعورًا لملاقاتي، أهمس لها، تضحك، أمررها بقوةٍ من فوق رأسه، تشق طريقها إلى المرمي، تتلقفها شباكه، تنتظرني مبتسمة، أعدو إليها، أضمّها إلى صدري عائدًا بها إلى نقطة البداية.. يرتج الملعب تحت زئير هتافهم ” بص شوف حماده بيعمل إيه”.
يقذف أحدهم الكرة، تطيش، تكاد ترتطم بوجهي، أعترضها بكفيَّ وأدفعها بعيدًا، تقع عيناي مصادفةً على لوحةٍ خشبية ( حافظوا على سلامة حديقتكم)، هممت أن أوبخ الصبية، إلا أنني تراجعت، إذ كيف ألومهم أنا الذي كنت منذ أقل من دقيقة أشاركهم لهوهم بالكرة!.. أشرت لخادمي أن أدفع الكرسي المتحرك ذا العجلات المعدنية صوب سيارتي الخاصة..انتبهت فجأةً، فالرجل الذي أرقبه منذ دقائق ألقى سيجارته ونهض مبتعدًا، دون أن يطأها بحذائه مثلما فعل من سبقوه من مرتادي الحديقة، سارعت بالتقاط العقب المشتعل، وجلست على المقعد الخشبي واضعًا إحدى ساقيَّ العاريتين على الأخري، ونفثت دخانه حلقاتٍ دائرية إلى أعلى منتشيًا في زهو، وهتافات الجماهير لا يزال صداها يحتل مداخل أذني، والكرسي المتحرك يقترب من العربة، وأقراني من الصبية يتبادلون ركل الكرة.
…القاهرة في ١٣ مارس ٢٠٢٠
—–
القراءة
الحلم وفق فرويد هو ذهان، له كل ما للذهان من هذيانات وأوهام، لكنه ذهان يستمر مدة قصيرة فقط، وهو غير مُضر، بل قد يؤدي وظيفة مفيدة تتم برضا الشخص وتنتهي بعمل يصدر عن إرادته. (سيجموند فرويد، معالم التحليل النفسي، ترجمة: محمد عثمان نجاتي، دار الشروق، ط 5، ص 87).
اذن نحن أمام نص لحظي مشهدي، ارتأى صاحبه اقحامنا في متاهات ايحاءاته ورموزه.
** في البنية السردية للنص :
عتبات النص الرئيسية هي مفاتيحه التي تظهر لنا كنه خزائنه، بدءا بالعنوان : أحلام متواضعة
أحلام جمع لكلمة حلم، والمغزى المراد هو أن النص ليس متمنى واحد وفريد، بل مجموعة متجانسة أو مختلفة من الأماني التي يتطلع البطل لتحقيقها أو كان يأمل بتحقيقها.. هي مجرد أحلام صبي يعشق الكرة منذ الصغر، ويرجو أن تجد أحلامه بمزاولتها، بطولات وإنجازات تتغنى بها الجماهير، منشدة ومرددة اسمه بالملاعب العالمية.
– الأحداث والفضاء :
مباشرة بعد العنوان، نستشف روحا ايجابية، وشغفا توهجيا للبطل وهو يداعب بقدميه الكرة بعشق وتماهي ( والكرة تأبى مفارقة قلب حبيبها)، فالحب الأبدي متبادل بين الطرفين، وهذا جوهر الحياة الانسانية برمتها، فالنجاح رهين بالارتباط الوجداني بين الذات و الوجود، فلا يمكن تصور أي نجاح بدون الاخلاص والتفاني والوفاء. فهاهو بطلنا يحرز الأهداف بكل انسيابة وسهولة لا لشيء سوى اخلاصه فيما يتقنه و الحضوة التي يكنها للعبة وللكرة. يعود منشيا بعد التسجيل، لنفاجأ بانتكاسة في صميم ذروة القصة. وهو الفضاء : فضاء او المسرح الذي تجرى على أرضيته المباراة : حديقة عمومية ! وليس أحد الملاعب العالمية كما توهمنا( لوحة خشبية : حافظوا على سلامة حديقتكم) وأن المقابلة ليس بين فريقين عالميين، بل بين صبية يدحرجون الكرة، وسط حديقة ! وان البطل شخص كسيح يستعمل كرسيا متحركا بعجلات معدنية، وكادت تصيبه كرة طائشة على وجهه، فيكتفي من المشاهدة، بأن يطالب خادمه بدفع الكرسي المتحرك اتجاه سيارته الخاصة. لكن وقبل الاقدام على الفعل، ينتبه لسلوك شاد لأحد المدخنين الذين يرمون أعقاب سجائرهم دون سحقها، فيقرر أخده ( عقب السيجارة الذي كان مازال متوهجا) وهنا المفارقة العجيبة: ليس لتصحيح السلوك المتهور، ورميه بسلة المهملات، بل للانتشاء و تدخين ماتبقى واضعا ساقيه واحدة فوق الأخرى، مزهوا بانتصاراته الوهمية…
* في البنية الرمزية
نص بحمولة نفسية، غاية في الدهاء، من كاتب عبقري استطاع جرنا بمهارة فائقة لمجاراة الحبكة المتصاعدة للنص، بدءا :
1. رمز البطل :
الهتافات والتصفيقات التشجيعية، باسم ” حمادة ” وهي عبارات كانت ترددها جماهير الزمالك، المهووسة بحب اللاعب حمادة امام، الذي تحفظ له ذاكرة القدم المصرية والعربية بأدائه الرائع ولعبه الأنيق.
2. رمز الطفولة :
صبية يركضون وراء الكرة، يرمون بكرة طائشة كادت أن تصيب وجه زميلهم ( اذا كيف ألومهم انا الذي كنت منذ أقل من دقيقة، أشاركهم لهوهم ).
3. رمز الكسيح :
هل هو فعلا كسيح؟ أم هي مجرد هلوسات الكبر وخرف الشيخوخة!! اذ لو كان فعلا كسيح لما استطاع ان يضع رجلا على رجل، وان ينحني ليحمل عقب السيجارة؟ وبالتالي يمكن القول أن البطل يستعمل الكرسي المتحرك فقط لعدم قدرته على التحرك بحكم شيخوخته.
خاتمة : نكاد نجزم أن الكاتب بذكائه المعهود، أحالنا على وضعيات اجتماعية- نفسية لثلاث شخصيات بشغف واحد وأحلام وحيدة ومتفردة، هي الشهرة والنجومية. ليس لهم غايات ومرامي مستحيلة :
– الحلم الاول يتجلى في التشبه بالنجم حمادة امام وبمسيرته الرياضية الرائعة.
– الحلم الثاني : طفل كسيح، ثري يملك كل شيء، خدم وسيارة خاصة . لكن لا يستطيع مشاركة أقرانه اللعب.
الحلم الثالث: حلم الفقير الجانح الذي يراقب مرتادي الحديقة الذين يدخنون ، ويمني النفس بأن ينتشي مثلهم، لذلك يسارع الى خطف عقب سيجارة ويتلذذ بتدخينه واضعا ساقيه العاريتين واحدة فوق الأخرى وهذا يظهر بالواضح أنه انسان معدم، فقير يتابع بلهفة مخلفات سجائر الاخرين لكي يتسنى له تدخينها.
النص بكل رموزه وايحاءاته النفسية يسلط الضوء على تشكيله متباينة من الأحلام البسيطة لثلاث شخصيات يجمعهم الشغف بالكرة، وهنا يستحضرني فيلم ” الحريف” من تأليف واخراج محمد خان وبطولة عادل امام، وهو مقتبس من قصة حقيقية لبطل يعشق الكرة حتى أنه أهمل زوجته وابنه، من أجلها.