كان الناس يسمعون عن صواريخ سكود في إذاعة البي بي سي إبان حرب أكتوبر، على انها صواريخ من صنع الاتحاد السوفياتي، وأنها بعيدة المدى، وتُحدث دمارا كبيرا. ثم نسي الناس هذه الصواريخ حتى غزا صدام حسين الكويت. وعندما حاصر الغرب بقيادة أمريكا العراق، أطلق صدام بعض من هذه الصواريخ على إسرائيل. وقد زاد ذلك من حب الناس له خاصة في الأحياء الشعبية. أخيرا صواريخ سكود تسقط في تل أبيب، وتُحدث الهلع بين سكانها. هذه الصواريخ لم تكن دقيقة بعض شظاياها أصابت منازل فلسطينية.
السكارى في هوامش المدن المغربية كان لهم مزاج خاص بعيد عن أهوال الحروب. اطلقوا اسم سكود على صواريخ من نوع مختلف. الخمر الأحمر المعلب في قنينة من البلاستيك رقيقة وطويلة، سعة لترين. كلما قدُم النبيذ داخلها كلما ارتفعت نسبة الكحول به. ويزداد حموضة، ويصبح مُسكرا أكثر خاصة مع ارتفاع درجات الحرارة في فصل الصيف. ويصل ثمنه بعد منتصف الليل إلى الضعف في السوق السوداء.
هذه الصواريخ من الخمر لا تصيب الأعداء في الدول القريبة أو البعيدة، بل تصيب الرؤوس الصلبة في الأحياء الشعبية، وتلعب بها إلى درجة أن البعض إذا شربها لا تخرج ليلته بخير. فإما أن يُزهق روحا، أو يعمل على الأقل خناقة تنتهي به في السجن.
إبراهيم اللص ولد كبور بائع القنب الهندي، لم يمض أسبوع على خروجه من السجن. دخل إلى مقهى الحي. تناول وجبة خفيفة، وأشعل سيجارة. بدأ يملأ كأسا صغيرا إلى النصف، ويشربه خفية عن صاحب المقهى. صاحب المقهى طلب من الله أن تمر هذه اللحظات بخير، رغم أنه كان يشك في ذلك. لا يستطيع أن يمنعه من تناول الكحول داخل المقهى. إبراهيم شاب قوي وجريء ومزاجي. يمكن أن يقلب المقهى رأسا على عقب، ويطرد حتى صاحبها، ويعربد فيها ثلاث أو أربع ساعات. الشرطة لا تستجيب لنداء سكان الأحياء الشعبية، ولا تتدخل إلا في الحالات الحرجة. لم يكن هناك أنترنيت، ولا هواتف نقالة. لا بد أن تُقبّل رأس شخص مهم في الحي يتوفر على هاتف ثابت. عندما يتصل بالشرطة يسأله من يستقبل المكالمات:
ـ هل سقطت روح؟
يجيب بالنفي:
ـ لا سيدي!
يتعرض للشتم:
ـ لا تتصل حتى تسقط الروح، يا ولد الفاعلة.
لذلك يتحاشى الناس الاتصال بالقسم قبل أن تسقط الروح.
بعد أربعة كؤوس من سكود، أخرج إبراهيم القنينة من حزامه، وثبتها أمامه على الطاولة، ووضع بجانبها السكين، ثم حزم رأسه بقطعة قماش، فبدا مثل مقاتل من الهنود الحمر. نادى على النادل باسمه:
ـ طيطيف* هات البيض والملح والكمون.
يضع عبد اللطيف أمامه ثلاث بيضات مسلوقة، وصحن صغير من الملح والكمون، وفرائصه ترتعد. لا يعود إلى (الكونتوار) حتى تكاد تزهق روحه. زبائن المقهى انسلوا واحدا واحدا من غير أن يشعر بهم.
أخذ يتفوه بكلام ناب، ويبعث برسائل مشفرة إلى النادل وصاحب المقهى. كلما انتهى من دور الشرب، أشعل سيجارة، وردد في تحدّ:
ـ (السكّاتة ياتا)*
ساعة واحدة تمر مثل سنة على النادل وصاحب المقهى. لا بد أن يسكتا كما أمر ولد كبور. ولن يتنفسا الصعداء، ويحمدا الله حتى يُفرغ آخر كأس من سكود في جوفه، ويرمى بالقنينة البلاستيكية بعد أن أصبحت عديمة النفع.
شُرب لترين نبيذ احمر من قنينة سكود في ساعة بمفردك، واثناء فصل الصيف، يشبه صاروخ سكود إذا انفجر في منطقة آهلة بالسكان. خرج إبراهيم ولد كبور من المقهى شاهرا سكينه، ويتبادل الشتائم مع كائنات غير مرئية. يترنح يمينا وشمالا، والناس تُخلي له الطريق، وتهرب بعيدا. من يدري قد يطعن أحدهم، ويُرسله إلى المستعجلات.
عندما وصل السوق أحدث الهلع بين المارة. وقع ما كان يبحث عنه. إبراهيم ولد كبور لا يحتمل رؤية رجال الأمن سواء كانوا شرطة، أو قوة مساعدة وهو سكران. الآن اعترض سبيله جماعة من (المخازنية)*. لم يتمكنوا من القبض عليه، وتوثيق يديه وراء ظهره، حتى أصاب ثلاثة منهم بجروح متفاوتة الخطورة.
ولد كبور لا يستطع التكيف مع الحياة خارج السجن أكثر من عشرة أيام. يتغنى دائما في الحي بأنه يلعب (البينو)* بعدد السنوات التي يقضيها وراء القضبان.
المعجم :
ـ طيطيف: تصغير لاسم عبد اللطيف.
ـ السكّاتة: رضاعة وهمية تُقدم للطفل يمتصها فيكف عن البكاء، ويسكت.
ـ ياتا: لفظة استعملت كقافية وهي تحيل على اسم مؤنث. وقد يعني بها المرضعة التي تُعنى بتربية الطفل.
ـ المخازنية: وصف شعبي يطلق على القوة المساعدة.
ـ البينو: قطع مستديرة وصغيرة تُحزم من الوسط وتُصنع من هوائي الدراجة العادية. يلعب بها الأطفال في فصل الشتاء تحت سقيفة الدرب. يضربها اللاعب إلى أعلى بوجه رجله، ولا يتركها تسقط إلى الأرض، ويحصي عدد الضربات. ويتفوق من حصل على أكبر عدد من الضربات.
مراكش 29 غشت 2023