يوم من أيام العمل العادية ساقني إلى مدينة وجدة. أنهيت المهام في الثالثة كالمعتاد. مررت على بعض الأسواق كمن يريد تسجيل مروره بالمدينة. لم أحدث الكثير من الجلبة حتى أتفادى عتاب الأهل والأصدقاء. بعد آخر فنجان قهوة، ركبت مهرتي 301 وغادرت المدينة على الساعة الخامسة مساء أو يزيد بنصف ساعة. كالعادة، رن هاتفي ليسألني أخي عن الأحوال وليتأكد أنني قفلت راجعا من وجدة. حين دخلت الطريق السيار وكالعادة أحسست بالرضى بكونه يمكنني أن أختصر الزمن. كما تنتابني الحسرة كونه أصبح عذري كي لا أتوقف لرؤية الأصدقاء على طول الطريق الرابطة بين وجدة وتماره. واصلت الطريق يصاحبني المذياع والشوق إلى دفئ الأسرة، المدن تمر أمامي بسرعة، العيون، تاوريرت، گرسيف، تازة، كلما مررت بجوار إحداها لا أستطيع أن أمنع نفسي من التفكير في كل معارفي هناك. أواصل السير وكأن شيئا خفيا يمنعني من الوقوف. على مشارف فاس وفي إحدى المحطات أقف لآخذ نفَسي ولكي ألتزم بالوعد الذي قطعته مع زوجتي بأن آخذ وقتا للراحة من عناء السياقة. أغتنم الفرصة لإجراء بعض الاتصالات الهاتفية. أشرب قهوتي وأواصل المسير، أمر بجوار فاس، فاس التاريخ، فاس الصمود. تعود بي الذاكرة إلى أيام الجامعة، أتذكر الرهبة التي انتابتني وأنا أدخل “دهر المهراز” لأول مرة. رغم ذلك لا أدري لم كانت مكناس تجذبني أكثر. لم يبق الآن سوى كيلومترات عن وصول مكناس. أخبر بذلك أخي (خاي)، أحس الآن وكأن السيارة تعرف طريقها، موقف الأداء، تنعطف السيارة يمينا، عند تقاطع الطريق تميل لليسار، بعد كلومترات قليلة تميل ثانية لليمين، أنسى المقود لأنني على بعد أمتار من المنزل.
كنت قد أخبرت أخي أنني سأواصل السفر إلى تمارة. حين دخلت المنزل وجدتها في المطبخ تجمع لي الذخيرة، زيتون أبيض لا يعرفه إلا من زارها وتذوقه، زيتون أسود أعدته بطريقتها الخاصة، “شرمولة” هي الوحيدة التي تعرف سرها، قارورة من لهريسة (الفلفل الحار) لا يعلى عليها وتأسر كل من تذوقها، مزهرية تحتوي على أغراس سهرت على العناية بها لمدة طويلة بالإضافة لتفاحة من هنا، وموزة من هناك. كانت “الصريراة” مرتبة ترتيبا محكما. لم أكن أنا الوحيد المعني بهذا الكنز. ففي أغلب الأحيان لست سوى رسولا بين أمي وأفراد مملكتها المنتشرين هنا وهناك، كانت هذه “الصريراة” هي حبل الود والمحبة التي جمعت الكثيرين بأمي عائشة. وكنت أنا منتشيا بهذه المهمة محبا لها. بل أكثر من ذلك أبحث عنها.
كلما سلمتني كيسا كلما صاحبته تعليمات صارمة ودقيقة حول المحتوى والمكونات وطريقة الصيانة وكيفية التخزين. احيانا أظهر تمنعي من حمل هذه الأشياء، كنت أعشق معاكستها أبحث عن تلك النظرة الغاضبة في عينيها وهي تنعتني بأكبر “معگاز” على وجه الأرض.
قبلت رأسها، عاكستها للمرة الأخيرة، هددتني بحب، شربنا كأسا من الشاي، وبحنانها المعتاد طلبت مني أن أقوم للعودة إلى تمارة. حنوها على أحفادها كان أكبر من غريزة الأم فيها. غادرت مكناس إلى تمارة حاملا معي أكياس الحب، “صريراة” السخاء، حبال المودة، العشرة الحسنة ونسيت أن أقول لها أن هذه اللحظة رغم قصرها هي الطاقة التي أسير بها. أن هذا الوقت رغم قصرة، هو من يعطي للحياة المعنى.