قبل مغيب الشمس بقليل ويتلاشى وهجها، أنهت الأسرة أكل عجينة البصّيلة، فنهضت الأمّ ورفعت من أمامهم العريضة الخشبيّة وحملتها إلى الجهة المسقوفة قرب كسر الأنبوب، ألقت فضلة الطعام هناك ونفضت العريضة بضربات خفيفة بيدها، ثمّ مسحتها بالخرقة الداكنة المنشورة على الأنبوب، ثمّ عادت وأعادت تثبيت اللوحة على القطع الجذور المسطّحة الثلاث التي اعتادت الأسرة الجلوس حولها إلى أن يتمدد الظلام في الداخل ويسطع ضوء القمر في الخارج، عندئذ يتركون الظلمة ويتمشّون بحذر في النواحي القريبة. في تلك اللحظة قال بلقاسم وهو يهمّ بالوقوف ومغادرة الخيمة بحثا عن الطعام: ”خير لي أن أذهب الآن.“، حدّقت فيه الأمّ وطلبت منه أن يصطحب الصبي معه كي يلهو ويمرح ويكون له عونا. أبدى بلقاسم انزعاجه وتبرّمه، اعترض على طلبها، مفترضا أنّ رفقته لن تكون مفيدة له، ستكون بمثابة أصفاد تقيّد حركته وتعطّل بحثه عن نبات العنصل، ”لا أحتاج مساعدته، فأنا لا أعرف المكان الذي سأتوغّل فيه هذه الليلة، سأبتعد وقد أتأخّر في العودة، دعي الأمر إلى ليلة أخرى.“، قالها بتصميم، وأوضح لها أنّ الجوّ بائس كئيب والمخاطر جمّة، ومن الممكن أن ينشغل عن رعايته أثناء بحثه عن البصّيلة فلا يستطيع العناية به وحمايته، إذ أنّ امكانية وقوعه لقمة للطيور الجارحة أو الحيوانات المفترسة أو الزواحف اللادغة غير مرجّحة بالمرّة في تصوّر بلقاسم، فتلك الكائنات هي سلالات هبط عددها مع الأيّام ببطء إلى حدّ الصفر، في السنوات العشر الأخيرة، التي تغيّر فيها كلّ شيء، انقرضت ولم يعد لها من وجود، ولربّما غارت في الأرض تلتمس في أعماقها النّجاة والسّلامة، بعيدا عن القشرة الحارّة المميتة، لكن افتراض أن تزلّ به قدمه إلى جوف خندق على التلال، أو أن يسقط في فجوات جرف هار، افتراض من الممكن حدوثه لشخص ضعيف البنية رخو العضلات كهذا الصبيّ الذي لم تصقله الشمس بما فيه الكفاية كما صقلت أخته ليلى، ولو تجري الأمور على النحو الذي فكّر فيه وتخيّله فسيسقط هو في متاهة عويصة يصعب الافلات منها، ولو يقع للصبيّ ما تمثّله في خياله من أخطار محتملة، فلا يدري ماذا يصنع لإنقاذه؟ وكيف سيتصرّف؟ فهل يتركه هناك للموت ويعود؟ أم يحمله فوق ظهره ويمضي به إلى البيت، مع احتمال أن تدركهما الشمس قبل بلوغ الغاية فتقضي عليهما معا؟ أو أنه يبقى برفقته فيهلكان معا؟ لم تقتنع الأمّ بتلك الحجج، وظلّت تلاحقه مصرّة على طلبها، ألحّت عليه وترجّته، قالت في محاولة أخيرة لاقناعه: ” عيش ولدي، خذه معك، منذ قدومه إلى هنا لم يفارق هذه المنطقة، والحركة تعزّز صحّته“، فتردد بلقاسم للحظات، ثمّ توجّه إلى الصبي وسأله في لهجة جافّة وباردة، بعد تبرّم وامتعاض: ”هل ترغب في مرافقتي؟“، كان يأمل رفضه، بل يتمنّاه في سرّه، أن يبدي عدم رغبته فتعتقه أمّه وتمنحه السلام، لكنّ الصبيّ لم يردّ، واستوى واقفا على قدميه، ارتدى حذاءه الجلدي بسرعة ودنا منه. كان بلقاسم يتطوّق بحزام فوق سروال قاتم فضفاض، ويرتدي بوطا رماديا مليئا بثقوب توزعت عشوائيا كأنها مسارب الديدان في البطاطس، فقال بلهجة حامضة: ”هيّا! لنمش!“ وخطا بعيدا خطوات سريعة غاضبة.
حين كانا يتّجهان إلى فتحة الخروج، غمغمت ليلى بسخرية: ”احذر أن تضيع، يا بوهالي.“
تبدو بشعة بشعرها المنفوش ووجهها المليء بالبثور، وصوتها الضعيف الذي رفسه صوت أبيها العالي وهو ينصح ابنه بالقول: ”لا تغفل عيناك عن الغشّير، بني.“
لم يكلّف نفسه عناء الردّ، خطواته كانت مجنّحة تطير به، لم يستطع الصبيّ مجاراته فيها. كان ضعيفا يتنفّس بصعوبة يهز نفسه كما لو كان يحاول التخلص من شيء عالق بقدميه، أجبره على الهرولة خلفه لفترة قصيرة دون أن يلتفت إليه ثمّ توقفّ فجأة، استدار ببطء ونظر من فوق كتفه، رآه لاهثا متعرّقا ففرك جبهته عند مفرق شعره وغمغم بنبرة جافّة وباردة: “بما أنك على استعداد لمرافقتي، لن تمانع في رؤية الجحيم”. وبشكل مفاجئ حدّق في الماضي وراءه، لحظة العثور على الصبيّ في تلّة المنابذة، لقد تحوّل الجسد الأبيض إلى سمرة فاتحة، غيّرته الأسابيع القليلة التي عاش أيّامها معهم، ولكنها لم تفسد مظهره الجميل، لم تسلخه وتذهب بأنسجته كما ذهبت السنوات الأخيرة بجلودهم، هم عائلة الفقراوي، وبالحياة على وجه الأرض، كان كل شيء في الطبيعة ميتا أو محتضرا، ولم تكن العاطفة من سمات الإنسان المعاصر وطبيعته. في السنوات التي تلت نفاد الطعام المغلف بإشعاع القنابل وتشوّه المرء ونبتت له مخالب، اكتشف بلقاسم أنّ الحياة لا تستحق هذا الكم الهائل من البلاء، فاعتاد على العيش بلا إحساس، لا شيء في داخله غير الفراغ قائما على قدميه، حتّى الشعور بالجمال تسلّل إلى قاع خندق الموت وجحوره وتلاشى، لم يختف تماما، أي نعم، لكنّه تقلّص إلى الحدّ الذي أصبح من الصعب تمييزه. في الواقع كان ذلك متوقّعا حدوثه، نتيجة حتمية لشرور البشر وطنين جهالتهم، وعلامة ساطعة لنهاية الجنس البشري على الأرض. قبل عامين، عندما مسّهم الجوع ويأس بلقاسم وأسرته من العثور على منتجات المصانع الغذائية في أنقاض الأكشاك والمساحات التجارية المدمّرة، حرصوا على القيام برحلة بعيدا عن مجرى النفايات بحثا عن ملاذ آمن في مدينة الأبراج، مدينة كالمغناطيس مظلّلة بحجاب منسوج من الأفكار المبهجة تشدّ إليها الرّحال كمصر زمن القحط الذي تنبّأ به يوسف العزيز لفرعون، لكنّ تلك المدينة أوصدت في وجوههم أبوابها، لم تتصدّق عليهم بمثقال كيل يسير، بل ضاعفت حول مداخلها السدود والأقفال، ولمّا ازداد ألم الجوع أدركوا أنّه لم يكن من الصواب الهجرة إليها، ووجدوا أنفسهم يتساءلون ماذا سيحل بهم، وفي يوم من الأيام تاهت العائلة في تلّة المنابذة فعثروا هناك على منّهم وسلواهم، اكتشفوا حقل البصّيلة التي خبرته الأمّ في صغرها علفا للحمير، خبزته لهم فطيرة طعموا منها وشبعوا، كانوا قد افترضوا أنّه سوف يكون طعامهم ليوم واحد أو لأسبوع أو حتى أكثر قليلا، إلى أن يتدبروا أمرهم، لكن قطعا ليس لعامين، مرت أيّامهما ببطء، لكنها مرت وبقوا على قيد الحياة، لذلك لم يكن من الصواب أن يقضوا السنوات القادمة من عمرهم مشرّدين، ليس من الذكاء التحرك يوميا أميالا بعيدا عن الديار مقيّدين بزمن محدّد، ومتى؟ الليل كلّه، إذا تخطّوا المدّة بشبر واحد عرّضوا أنفسهم للهلاك. قيد مروّع ومزري، أكثر قساوة من المدّة الزمنية التي منحتها الساحرة الطيّبة لفتاة الرماد للاستمتاع بحياة منعّمة بعد معاناة، كانت سندريلا محظوظة، فهي لديها أصدقاء أوفياء؛ عصافير وفئران، ولديها ثوب أنيق غير ملوّث بالرماد، وحذاء زجاجي جميل، وأمل بحياة أفضل. نالت سندريلا مكافأتها، نهاية سعيدة، وانهار الظلم من حولها، أمّا هم فلا أمل لهم بالمستقبل، ولا فئران مزعجة ولا طيور تجوب الفضاء. أمّا الحذاء، نظر بلقاسم إلى أقدام الصبيّ ثمّ دحرج شفقة في قلبه دخلت عن طريق الخطأ لتحلّ محلّ وتركها تسقط بين شفتيه التي نمت عليهما ابتسامة قاتمة:
– ما خطبك؟ هل الملابس التي ترتديها قاسية عليك؟
تمتم الصبي بشيء، ثم صمت.
– هل تشعر بعدم الارتياح من نعلك؟
لوّح برأسه نافيا.
– ما رأيك لو أباعد قدميك عن الأرض بوضع قطعتي خشب تحت الحذاء وأقوم بربطهما بخيط على كاحليك.
أجابه هذه المرّة بهدوء دون أن يرفع رأسه:
– وكيف أتسلق بهما الصخور؟
فترنّح بلقاسم من الضحك.
– ولكن سندريلا استطاعت بفردتي حذاء بلّوريّة أن تشقّ طريقها إلى قاعة الرقص عبر المدرج.
لم يعلّق الصبيّ، لقد كانت مجرد فكرة حمقاء، فالشخصيات في الحكايات الخرافية يمكنها إذا رغبت أن تعيش في تنّور ولا تحترق. لم يفكر في النظر إلى وجه بلقاسم المزلوع المصهود، وأبقى عينيه على حذائه الذي بدا له كدبّابة مهشّمة، وأصدر صوتا خافتا:
– ألا تملك حذاء مناسبا؟
كان بلقاسم قد التقط أفكار الصبي.
– هذا يناسبني جدا.
– أعتقد أن السير حافي القدمين أكثر راحة من السير بهذا الحذاء.
– أنت مخطئ، هذا يبدو لي عمليًا أكثر.
قال ذلك وسلّ ساقا مغلّفة بقطعة قماش قذرة من فردة بوطه اليمنى وأشار إلى بطانة سميكة داخلها كانت مقصوصة بشكل جيّد وقد التحمت مع عجينة المطاط حتّى كوّنت معها قطعة صلبة متينة عازلة للحرارة. ثمّ أضاف:
– الحاجة أُمّ الاختراع. لم يعد المطاط متاحا في الأمكنة التي لسعتها أشعّة الشمس انصهرت كلّها في الطبيعة. لقد وجدت ذات مرّة بوطا مثله في قدمي أحد الهلكى حديثا حاولت نزعه منه فنزعت معه الجلد بدمه.
اتّسعت عينا الصبي حتّى صارتا في حجم بصّيلة، ورفع كلا حاجبيه، فأكمل بلقاسم:
– من وقتها لم أعد أفكّر في تجريد الموتى من ملابسهم، أو أنتظر تحلّل جثثهم كي أرث ما يرتدونه، فلن يكون وقتها ذا فائدة. على أيّة حال، احرص من الآن على أن تطيل عمر قمصانك فالموتى بحتفظون بملابسهم لأنفسهم.
قال جملته الأخيرة وهو يعيد قلقا وضع البوط في قدمه.
– اسمع! وقتنا ضيّق، فلا تمش في خوف ورهبة، بهذه الخطوة البطيئة لن نعود.
استمرّا في السير لوقت طويل نحو الشمال خارج حدود المدينة على أرض محروقة لا شيء يعلوها. الحقول البور يصّاعد من قلب ترابها الأسود وهج حار يلفح وجهيهما، داسا بأقدامهما حصى كأنّها فحم حرقته الشمس، ابتعدا كثيرا نحو سلاسل التلال الرمادية، قطعا بعض المرتفعات والمنحدرات وأخاديد ومجاري وديان صغيرة جافّة لا حياة فيها، إلى أن اختفت الأبراج واختفى الساحل وبدا بعيدا عن الأرض العارية من الأشجار التي يقفون عليها، وعند كلّ قمّة تلّة يصلان إليها يتوقّف بلقاسم ويسأل الصبيّ إن كان يشعر بالتعب، فيشير إليه بإيماءة من رأسه نافيا.
ولكن هذه المرّة، بدأ يبطئ في السير ويجرّ قدميه، كانت كل عظامه وعضلاته تؤلمه كأنّه قد تعرّض للضرب، وعيناه تصطكّان إحساسا بالعذاب من الإجهاد، فقد احتاجت لكل قوّتها لتمييز الأجسام المعتّمة والتكيّف مع الظلام، ومع ذلك فهو لم يشكو عندما سأله بلقاسم إن كان يحسّ بالتعب، ولم يكسّر الصمت المطلق الذي يسود المكان، اكتفى بالقول: ”الرمال في الساحل لا تبعث هذا القدر من الحرارة.“
فردّ بلقاسم باقتضاب: ”ستنخفض بمرور الوقت.“
استردّا النفس وقبل أن يستئنفا المشي من جديد ويضربا الأرض بخطوات متكسرة في ليل هادئ غابت فيه الريح كلّيا، سمع الصبيّ صوت خشخشة صدره من ضيق تنفّسه، كان بلقاسم يجاهد ليتنفس فاتحا فاه مطلقا صفيرا مكبوتا من داخل حلقه، بمشقة كبيرة يحمل الهواء الى رئتيه المخبّأة تحت الأسمال الخفيفة البالية، فسأله: ”هل وجب علينا قطع كل هذه المسافة؟“
– ”أجل. علينا أن نبتعد أكثر في بحثنا، ودون لفت الأنظار.“
– ”ممَّ نخاف؟“
– ”الجوع كافر. علينا أن نحترس حتّى لا تُنتزع الكسرةُ من أيدينا.“
– كيف ينتزعونه وهم لا يعرفون قيمته؟
– كل ما تحمله معك سيكون محل استغرابهم، مع القليل من “النسنسة” سيعرفون فائدته.
– وإذا ما افتكّ منّا أفلن نجد طعاما نأكله؟
– لن يفتكّه أحد منّا.
– وإن فعلوا؟
– سوف نقاتلهم.
– وإن تمكنوا منا؟
– لدينا احتياطات مخزنة تكفينا لبضعة أيّام.
القمر كان عاليا والليل هادئ لا صوت ولا حركة غير وقع الأحذية ولهاث رفعتها الرئات المحترقة تكسّر الصمت الطويل، نظرا قدّامهما على الأرض كان ضوء القمر وبعض الظلال والألوان المشوّهة قد تجسّدت في لون واحد. كان بلقاسم معتادًا على التعامل مع التغييرات التي حدثت، يستمتع دائما بهذه الجولات في بحثه عن الطعام، البحث عن الطعام من المشكلات التي أوكلت إليه حلّها عند تقسيم المهمات، قال:
– هل كنت تعرف البصيّلة قبل قدومك إلينا؟
– لا.
– قبل أن نتعود على تلك العجبنة كنّا نسدّ أنوفنا بأصابعنا من رائحتها الكريهة ونغمض أعيننا من مرارتها ونحن نبتلع اللقمة. كانت أمّي تقول لنا احمدوا الله على أنّ الناس ما يزالون يكرهون أكل لحم بعضهم بعضا. لكنك أنت لم تصنع صنيعنا كـأنّك معتاد عليها.
– لم أجد مطعمها يختلف عن حساء الضريع الذي كانوا يمدّوننا به.
– من؟ أسرتك؟
– لا.
– هل عشت في ميتم؟
– لا.
وصلا إلى موضع لم تطأه أقدام بلقاسم من قبل، هناك انحنى، حدّق في الأرض التي أنضجتها الشمس وبدأ يتحسس التربة. الأرض المحترقة يشبه بعضها بعضا، لا أخضر طالع ولا أصفر باق. لاشيء يختلف في هذه الأراضي عن غيرها في الجهات الأخرى غير المرتفعات والمنخفضات. الطبيعة عارية عن كل زينة، كأنها، في جلبابها الأسود، على حافة التقشف، والشمس التي كانت تدفّئ الإنسان صارت لعنته، حرارتها تزداد عاما بعد عام، لم يحدث مثل هذا من قبل، تقوّضت الروابط الموجودة بينها وبين الهواء والتراب والماء والنباتات والبشر، انحلّت في سنوات قليلة، ففقدت الأرض رئتها التي تتنفّس بها وماتت، والفتنة أصابت الكل.
وقف بلقاسم فجأة وقال:
– لنذهب بعيدا.
فسأله الصبيّ:
– لماذا لا نبحث هنا؟ هل تعتقد أنّنا لن نجد فيه بصل العنصل؟
– أظنّ ذلك.
– يعني هناك من سبقنا إليه؟
– بالطبع لا.. أشكّ في وجود غيرنا يبحث عنه.
– كيف عرفت إذا؟
– انظر إلى هذا الأثر! التربة هنا ممزوجة بالردم. لا يمكن له أن ينبت فيها. يبدو أن هذه الأرض البيضاء كانت أحياء سكنيّة في الماضي وأظنّني قد مسحت المكان من قبل.
– سيأتي يوما ونبتعد كثيرا عن البيت.
– نعم سيأتي ذلك اليوم.
– عندئذ سننتقل إلى مكان آخر حتى يتسنى لنا العودة في الليلة ذاتها.
– يوما ما سنضطرّ إلى الترحال، من الأفضل أن نكون بالقرب من مصدر الطعام. ولكن الأمر سيستغرق عدّة أشهر قبل أن يحدث ذلك.
مصدر الحرارة لا يأتي من الخارج فقط، من قرص الشمس، بل ينبعث أيضا من الداخل بسبب الهواء المضغوط. الغازات الثقيلة تنكمش وتنزل ببطء من السماء فتضغط على الأرض، لن تجد الأكسجين في الهواء ليتحد معها ويرفعها بعيدا نحو قبّة السماء العميقة.
في رحلة بحثهما عن الطعام، لاحظ الصبيّ أنّ بلقاسم يتجنّب السير نحو بنايات مهدّمة تلوح لهما من حين لآخر. كانت تلك الصورة الظليلة لأطلال تقف في الليل مثل الطواطم تجذب اهتمامه، أخبره أنّه لن يجد البصيلة هناك، فهي لا تنبت حيث بنى البشر أعشاشهم، والمكان مغمور بالظلمة، وقد يخفي خطرا داهما. ليس من الطيور الجارحة ولا من الحيوانات المفترسة التي انقرضت منذ أمد بعيد، وإنّما من الإنسان، ربما ما تزال تلك الأمكنة مأهولة فعليهم ان يبقوا اعينهم مفتوحة وان يكونوا على مسافة آمنة بينهم وبينها. كانت مجرد آثار أكواخ صغيرة. وكان الصبيّ يودّ أن يجد فيها أشياء لم تحرقها الشمس، لكنّ بلقاسم كان يصرخ في كلّ مرّة: “لنعدّل مسارنا”، حتّى بلغ موضعا توقّف فيه، فكّ عقدة منديل كان قد جعلها عصابة على رأسه على مستوى جبهته، وجفّف بها طبقة العرق النازّ من وجهه الشاحب، ثمّ قال وهو يرى دلائل جذامير نامية تحت التربة: حسنا لنبحث هنا.
جلس على عقب رجله وشرع في الحفر بحذر شديد، ينفث أنفاسه حتّى تعرّق وجهه المحروق والتهبت جلدته المتقشّرة، يجاهد أن لا يصيب الجذمور.
سأله الصبيّ وهو يجثو بالقرب منه:
– كيف عرفت أن هذه البقعة حقل من بصل العنصل؟
نظر بلقاسم هنا وهناك وأشار إلى الفضاء حوله:
– أنظر إلى تلك العروق القرمزية في حضن الأرض المظلم، تبدو في أشعّة الضوء مثل نقش من الياقوت الأحمر على الرخام.
لم يلحظ الصبيّ الفرق يبدو أنّ عينيه لم تتعوّدا بعد على التمييز جيّدا في الظلام.
– لكن قل لي، قال بلقاسم، أخبرني كيف لم يظهر عليك أثر السفر عندما وجدناك منبوذا في تلّة المنابذة. هل قدمت إلينا محمولا؟
منذ مجيء التايب إليهم كان هذا السؤال يدور في ذهن بلقاسم، وعندما أخبره أنّه جيء به من الأبراج على متن زحّافة، لم يصدّقه. قال له يبدو أنّك تعيد على مسامعي الكذبة التي زرعتها الأمّ في عقل أختي لتغلق فمها عن طرح الأسئلة، صدّقتها أنت وأخذت منها بطرف، فانكمش الصبيّ كمن يتجنّب لعنة ولم يعقّب.