العين نافذة أو شرفة تطل على جمال الحياة، وعلى فتنة وسحر الطبيعة. لها ما للعقل من قدرة الإدراك، وما للقلب من قوة الإحساس، وما للروح من قوة الجذب والانجذاب. وقد يصل الأثر إليها قبل وصوله الى مركز الإحساس (القلب) كما أن لها القدرة على إيصال رسائلها الموجية بطرق مختلفة الى الآخر: إشعاعية، شعورية، أثيرية، وثمة من يبرع في التأثير على الآخر بوساطتها، وقدرتها غير المحدودة. فهي وسيلة بعض ممن يبرع في التنويم المغناطيسي، ومن يبرع في التأثير على الدماغ، ومن يبرع في شرح ما في دخيلة نفسه باستخدام لغتها الصامتة الأثيرية، وبها يمكن أن نرى ردة أفعال مختلفة مثل الخوف، والتعجب، والحب، والدهشة.. إلخ.
هي إذن ترى كل ذلك وترينا أكثر من ذلك ولا غرابة إن سخّر الشعراء على مر العصور صورها المختلفة لخدمة صورهم الشعرية في الإرسال والاستلام وقد جرى هذا على وفق المراحل التاريخية التي مر بالشعر والبشر في آن واحد، وأكاد أجزم أن العين هي أـداة الغزل والوصف الكبرى فهي الفاعل والمفعول به على حد سواء. ترتكز العين على واقع طبيعي، ولكنها في الفن تشتغل على عرض ذلك الواقع انطلاقا من الحقائق التي تراها وعلى سبر أغوار الجمال في ذلك الواقع وعليه فان عين الفنان مدربة على رؤية الطبيعة بشكل مختلف وتشكّلها في اللوحة بشكل مختلف أيضاً وهذا هو الفرق بين النظرتين: نظرة العين المجردة ونظرة العين المدربة.
في الماضي، في أيام الكلاسيك الشعري اعتمدت العين على التوصيف الحسي الظاهري لكل ما يدهشها، أو يثير فيها حافز التغني بالجمال والسحر والفتنة، ولكنها لم تلامس بعد ما وراء المحسوس والملموس ولم تستبطن الدواخل، وفي مرحلة شعرية لاحقة أظهر الشعراء قدرتها على رصد تلك الدواخل وكأنها تعمل كما تعمل الأشعة الراديوغرافية (X ray (التي تخترق جسم الإنسان لتصور ما في داخل جسمه من الأعضاء التي لا تدركها العين المجردة. وهي هنا اللاعب الأساس في تصوير ما لم تره العين المحدودة الرؤية والتي لم تشتغل بعد على الحياة الداخلية في الطبيعتين البشرية والبيئية. وبقليل من الصبر والمقارنة، بين الحالتين، نكتشف الآتي:
1- إن أجمل ما في العين حَوَرُها، ولنا في قول الشاعر جرير مثالاً واضحاً
إن العيون التي في طرفها حَوَرٌ…. قتلننا ثم لم يحينا قتلانا
والحَوَرُ هنا هو ما يسمى طبياً بـ(الحول الكاذب) وتتصف العينان فيه بشدة البياض وشدة السواد وقد نجح الرسامون، والمصورون، وـكثر من الشعراء في نقل هذا التأثير السحري الذي يحسه المتلقي عندما يقرأ تلك العيون، ولنا في ذلك عالمياً نظرة الجوكوندا في لوحة دافينشي الشهيرة (الموناليزا) ونظرتها التي حيرت المحللين والمفسرين، ومحلياً نظرة المرأة في بورتريهات الفنانة سعاد هندي وسنتناولها بتفصيل أدق.
2- إنها أداة الوصف والتوصيف وبمعنى آخر هي الفاعل والمفعول به كما في القصيدة المنسوبة للحطيئة:
أرى لي وجها شوّه الله خلقه… فقبح من وجه وقبح حامله
عين الشاعر هنا هي التي رأت (الفاعل) وهي التي وصفت (المفعول به) أي أنها قامت بالاثنين معاً وهذه قدرة فريدة.
3- إنها ترى المحسوس الظاهر وتضع له وصفاً يماثله ظاهرياً كما في قصيدة الشاعر علي بن الجهم:
عيون المها بين الرصافة والجسر… جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
إنها ترى ما وراء الظاهر المحسوس بمعنى الاستبطان والاكتشاف كما في قصيدة الشاعر غازي القصيبي:
مــلء روحـــي هـذا الصفـاء العميــــق… يــــا عيــــونـــاً من ســـحرها لا أفيــــــق
إنها ترى مالا حدود له وما له من العمق مالا يحد بحدود معينة من الناحية الكمية على أقل تقدير، ولنا في قصيدة بدر السيّاب (أنشودة المطر) خير مثال على هذا. يقول في مطلعها:
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
ولك أن تتخيل غابة أو بستانا من بساتين العراق في ذلك الوقت من الليل ودرجة سواد الظلمة التي قد تنعدم فيها الرؤيا نظرا لشدة سوادها وكثافة كتلته وجماله السحري الأخاذ من حيث تأثيره النفسي على الرائي وعلى فاعلية خياله، وتنشيطه لتلك الفاعلية. والسيّاب لم يضرب لنا مثلا للعين بطريقة عابرة كما فعل الشعراء من قبله، بل انه سخّر القصيدة من أولها الى آخرها لوصف عيون المطر ولا أدلّ على هذا من الوشيجة المتلائمة بين ابتسامة عيونها وبين اخضرار الشجر:
عيناك حين تبسمان تورق الكروم
وترقص الأضواء… كالأقمار في نهر
وهذا وصف عابر للمحسوس، وغائر في الإحساس الداخلي لعين الشاعر التي ترى أبعد مما يظهر أمامها فالصور هنا تجاوزت الملموس الى غير الملموس مشكلة لوحة فنية يتلألأ من خلالها ضوء القمر وتشرق بالبهجة أوراق الكروم. وتتحول هذه الرؤية الى مهرجان للمطر، وسحر للعيون، العيون التي ترى وتتناغم مقارباتها وتنصهر صورها في بوتقة الروح، روح الشعر والجمال والحقيقة مشكلة عالما يضاهي في جماله أجمل اللوحات التشكيلية. السياب في مطلع قصيدته يصف العين (عيناك غابتا نخيل) أو (شرفتان) ومن المطلع يخرج الى فعل العين وتأثير ذلك الفعل في موجودات الطبيعة (عيناك حين تبسمان تورق الكروم وترقص الأضواء) وهكذا تتفاعل عين السياب مع الأشياء وما ورائها فترى ما لم يره الشعراء من قبل.
عند هذه النقطة ومنها ننتقل الى ما رأته الفنانة سعاد هندي في لوحاتها أو في عيون شخصياتها المختلفة التي تختلف في شكلها الخارجي داخل اللوحة وتتشابه في نظرتها خارج اللوحة. فما الذي يميز تلك اللوحات في مجال موضوعة العيون التي نحن بصدد تناولها؟ سؤال معقد بعض الشيء، وصعب أيضا لأن كلامنا مهما كان دقيقاً، وتحليلنا مهما بلغ من النجاح لا يستطيع أن يأتي أكله من دون أن نرى عيون تلك الشخصيات فهي عصية على الوصف، وصعبة على التحليل. ألم يقال عن الجوكوندا (La Gioconda) إنها حيّرت المفسرين والمحللين على الرغم مما لهم من القدرة على وصفها لغوياً؟ إذن سأحاول وآمل أن تنجح محاولتي المتواضعة في تحليل لوحتين من لوحاتها المائية (اللوحة الأولى واللوحة الثانية) وربما أكثر حسب مقتضيات الموضوع انطلاقا من المسلمات الآتية:
1- اعتماد سعاد هندي على حَوَر العيون كقيمة جمالية كبرى.
2- امتداد أثر العيون من داخل اللوحة الى خارجها.
3- تأثيرها في الفعل القائم وظهور ذلك التأثير بهيئة مشاعر تختفي خلف بريق العيون.
4- اعتمادها على استخدام طاقة العين في استجلاء الأثر البعيد بطريقة أثيرية عابرة لحدود المرئي.
5- اعتمادها على ملكة تشكيلية مزدانة بالشاعرية.
6- اعتمادها على لغة العيون الصامتة الموحية والمعبرة عن أسرار الشخصية دون كشفها أو البوح بها كما يفعل الشعراء فللحرف حرية لا تضاهيها حرية الحروف التشكيلية في البوح عن طريق اللون والضوء. واللغة هنا أي في اللوحات الأشد صمتاً منها في القصائد، واعقد في البوح.
في لوحات سعاد ثمة اشتغال على مفردة مشتركة واحدة في بعض لوحاتها فهي تنويعات شبه موسيقية على وتر واحد. ولا بد من إعادة وتدقيق النظر الى لوحتين اخترناهما من مجموعة لوحات لوجوه نسائية هن شبيهات لبعضهن من جوانب عدة ومشتركات في النظرة نفسها. وبتأمل العينين في اللوحتين نجد ميلاً واضحاً للبؤبؤيين نحو الزاوية اليسرى التي تمنحهما جمالاً أتفق على تسميته بـ(الحول الكاذب) أو كما يوصف شعبياً فيقال حول الحسن (حولة حسن) ولم تكتف سعاد بمنح العيون هذه الميزة الجمالية حسب، بل أضافت عليها سحراً غلّفها بسر عميق يمتد من العينين الى خارجهما (خارج اللوحة) وهذا الخروج جعل أمر التركيز عليه قائما في نفس المتلقي الذي حفزه للتدقيق والغور فيهما أملاً في معرفة السر، وبيان حقيقته المغيبة بقصدٍ من قبل الفنانة نفسها. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا لماذا الانغلاق على هذه السرية الغامضة؟ ولماذا جعلت سعاد من لغة العيون صعبة بما يكفي لتواري السر في أعماقه الأيدلوجية؟ حقيقة لم أصل الى تفسير محدد ولم يساعدني الشبه بين الشفتين والأنف والحاجبين والملامح الأخرى في استبطان مكنونه الغامض الغائر في نفسيّ الشخصيتين. والاهم من هذا أن الحافز يبتعد بنا الى أبعد من هذه الحدود لنسأل أنفسنا ما الذي تريده سعاد من وراء ذلك؟ وماذا أرادت أن تقول؟ اعتقد أن القصدية هنا تكمن وراء التفسير غير المحدد له، وبمعنى آخر تركت الفنانة الحبل على الغارب لنفسر ما شاء لنا التفسير. ترى هل تتعلق لغة التصميت المقصودة بشخص ما أم انه لا يتعلق إلا بمبتكرة التحفة الفنية؟ وهذا استنتاج ما بعد الفحص والتدقيق في أوجه الشبه بين الوجوه المرسومة ووجه مبتدعتها فالشفتان في اللوحتين الأولى والثانية هما نفسهما بالضبط والأنفان متشابهان والحاجبان أيضاً هما نفس حاجبي الفنانة سعاد. ولم يردْ هذا بمحض الصدفة، بل هو انعكاس غير محسوس لما يختزنه عقلها الباطن، وأرادت التعتيم عليه بحقيقة أنها استلهمته وهي تتأمل وجه حفيدة لها. ولم تنكر في الوقت ذاته حقيقة الشبه بينها وبين رسوماتها وبينها وبين حفيدتها، ومما يزيد الحل تعقيدا استخدام سعاد للألوان المائية بطريقة محدثة مشكلة بقعا مائية فضفاضة تستر ما وراءها وتعتم على أسرارها أو إنها تتستر على المسكوت عنه لغاية في نفسها كما يقال فهي خجولة بطبعها (كما عرفتها سابقاً) وعلى درجة عالية من الحياء تمنعها من التصريح المباشر لسانياً أو لونياً.
إن ما أردنا الوصول إليه هنا هو انطواء الوجوه على سر وضعته سعاد في لوحاتها بغية اكتشافنا له كمتلقين أو محللين إن استطعنا الى ذلك سبيلا. وأردنا أيضا إلقاء أضوائنا على سحر العيون في الشعر العربي وفي فن الرسم الذي هو أحد فروع القائمة التشكيلية والفنون الجميلة.