قصّة من وحي الحرب على غزّة مهداة إلى الأديب الفلسطيني توفيق فيّاض.
هذه القصة لم يروها أحد، ولا أنا استطعت أن أحكيها، فالقلم ليس له جناح ليتبع خيوط أحداثها الأليمة وكثرة أبطالها، والذاكرة عندي رخوة جدّا، ضعيفة مثقوبة بإبر الحياكة كالغربال، لا يمكنها أن تختزن المشاهد الكئيبة وتعيد تركيبها أو تصويرها بشكل واضح.
كنت ممدّدا على الأرض، عاري القدمين، مقيّدا في مكان غير آمن، أعانق الأسمال البالية على صدرى بكلتا ذراعيّ، قطعة قماش ملوّثة بالدماء تشبه في لونها الأزياء الزرقاء المائلة للخضرة لأطبّاء الجراحة العاملين في المشفى، ربما هي مزق منها لجأ إليها أعوان الإدارة على عجل حينما قاموا بنقلي، ومن معي، من الغرفة الدافئة التي نسف الانتقام والكراهية بعض جُدُرِها إلى قاعة مختنقة بالناس. كان الممرّض الذي حملني قد أسرع بي ركضا إلى منزلي هذا بالمشفى، وخلفه آخرون، كان يقطر عرقًا، يغطيه الغبار، وهو يتمتم: “أولاد الكلب يخوضون معاركهم في المشافي ضد المرضى والطاقم الطبّي، وجدوا فينا نحن الأهداف السهلة للقصف بعد أن عجزوا عن مواجهة الرجال”. كان يرتجف غضبا وكنت أتأرجح بخفّة على يديه المطلوقتين أمامه، أراقب البقعة الحمراء الساطعة على جبينه، وعندما لمح نظراتي مشدودة إلى وجهه جفل وقال: “لا تخف إنّه لا شيء .. مجرّد جرح”، أمّا الطبيبة التي كانت بانتظارنا فقد صاحت: “ضعوهم هنا على هذا المفرش القطني، واكتبوا أسماءهم على زنودهم أو على صدورهم ليٌعرفوا عند وفاتهم”.
تساءل الممرّض وهو يضعني على ظهري ويخرج قلما من جيبه: “لقد كتبنا اسمه على القماش دكتورة، ألا يكفي هذا؟” ردّت بحزم: “لا، لا يكفي، فالمشفى تحت النار، والنار مهلكة لا شيء يصمد أمامها، وإذا ما احترقت الأقمشة لن تُعرف جثامينهم”.
بقلمه الأحمر نحت اسمي على زندي، وسّمني متبرّما من المكان، يقول إنه ليس مكانًا مناسبًا للخنازير، ناهيك عن البشر، لكن الطبيبة لم ترد، اقتربت مني لتجسّ نبضي فتراجع الممرض بضع خطوات إلى الوراء، وذراعاه متقاطعتان، وهو ينظر إلى القتلى والمحتضرين الذين تناثروا حولنا، وعلى وجهه تعبيرة عن الألم، رائحتهم تخرق الأنبوب اللاصق بوجهي وكذلك أصوات المدافع والصواريخ وأزيز الطائرات.
عندما حدّثت نفسي عن جدوى أجهزة توصيل التغذية بدون وقود الحياة، سمعته يقول: “الوضع صعب، دكتورة، هذه الجثث يجب أن تدفن اليوم قبل الغد، يوم آخر ويتعفّن المكان”.
خيم ظل من الألم على وجهها الجميل، وأجابت: “قد لا نعيش إلى الغد، إن لم يأتنا الموت من الداخل فسوف يأتينا من هؤلاء الهمج خارج المشفى المحاصر”، ثمّ دغدغتني بأناملها الرقيقة حتى ضحكت، وقالت: “أفترض يا قطّي الصغير أن هذا المكان يعجبك كثيرًا، استمرّ في الضحك وكن سعيدا لأنك لم تبلغ السن الكافي لتفهم.”
منذ ولادتي في هذا المنزل لم أعرف لي أمّا ولا أبا ولا إخوة، لم يكن لديّ أحد لأخسره، سوى هذه العائلة حيث وجوه رجالها صارمة وأعين نسائها قاتمة من الحزن، ولكنّي لم أكن مثلهم عديم الإحساس بالبهجة، فأنا رغم أنّ البرد يقتلني في هذا البيت الواسع، ورغم أنّ الجوع يخمش أمعائي، إلّا أنّي لا أبدو حزينا بالمرّة، كلّ الأشياء المحيطة بي تسلّيني وتثير اهتمامي، حتّى تلك الجلطات من الدم الراكد الذي يلطّخ الأرض، والدماء التي يبصقها الأطفال الممدّدين بجانبي على البطانيات، والتي تمتدّ إليها يدي الضالة بعفوية لملامستها وامتصاصها، فتسارع الطبيبة إلى الوعاء وقطعة القماش لتمسح بها أصابعي كي لا أجعلها تنزل إلى حلقي.
كانت لطيفة مثل شعاع الضوء، ألقى عليها الممرّض عينا من الخلف، وقال: “الأمر غير مفهوم، دكتورة، لماذا لا نقوم بدفع المكروه قبل حدوثه، فمن الصعب أن نعرف أين ستنتهي العواقب؟”، وحذرها من أنّ الوقت قصير، والجنود الصهاينة قد يقتحمون المبنى بين لحظة وأخرى.
توقف ذراعها المنشغل بتنظيفي للحظة، وردّت: “كيف نفعل ذلك، التيّار الكهربائي مقطوع عن ثلاجات حفظ الموتى، والقنّاصة يترصّدون كل حركة بين الأقسام، ويمنعون الناس من دخول المشفى أو الخروج منه.”
“لندفنهم هنا، في إحدى غرف هذا القسم.”، سارع الممرض بالقول، ثمّ أضاف: “يمكننا أن ننتهي من ذلك قبل حلول ظلام.”
لمعت عيناها مثل منارة وردّت بأنّ الفكرة حسنة، ولكن لا يمكن تحقيقها إلّا بالمعدّات اللازمة، بالإضافة إلى سواعد عمّال الصيانة وهم قلّة بعد أن استشهد البعض منهم، وعزل آخرون في الأقسام الأخرى، وتحدثت عن الفظائع التي ارتكبت، واشتكت من نقص الأدوية ورداءة مياه الشرب بعد أن مُنع عنهم الماء والغذاء، وفُرضت عليهم العزلة عن العالم بغلق فضاءات التواصل الاجتماعي.
“أنا على استعداد للمساعدة، دكتورة.”، استدارت نحوه ببطء، حدّقت في وجهه مندهشة، رأت أمامها شابًا، شاحبًا جدًا، له نظرة شجاعة. كانت تنظر إليه بابتسامة حزينة، لم تكن بحاجة إلى دراسة وجهه. قالت له لقد رفعتم راية التحدّي عاليا أنتم أبناء غزّة، لهذا كنتم من نوع الرجال الذي لا يريده أي إحتلال، ويرغب جنوده في أن يعاملوا أمثالكم بإحداث ثقب في رؤوسهم بسلاحهم المخيف بالوسع الذي يمكن لدبّابة أن تنفذ من خلاله. لقد أدرك الجميع أنّكم لا تفكرون في معدتكم بقدر ما تفكرون في تحررّكم من عدوّ يمنع عنكم الماء والوقود والدواء.
وسألته وهي تشير إلى معدته: “أخبرني، كم عدد الأيام التي لم تذق فيها طعم الأكل غير قطعات قليلة من البسكويت؟”، تراجع فكّه السفلي قليلا، وقال بفم جاف: “ثلاثة أيام، ليس إلّا”.
ابتسمت وهي تتمتم: “أوعية الطعام جفت قبل ذلك بكثير، ومع هذا ها أنت مازلت واقفا تمدّ يد المساعدة.”
خمّنتُ أنّه لم يسمعها، ولكنّه قال: “رغم التعب علينا إنهاء هذا الأمر، إنّها مسألة حياة أو موت، دكتورة، فنحن نواجه خطر الإصابة بأمراض وبائية.”، فعلّقت: “نعم، هو كذلك، لتكن مشيئة الرب.”، ونهضت فجأة، ولمّا همّت بالتحرّك، أوقفها الممرض بنظرة، وقال لها: “يقول الأعوان إنك ستفرّين من هذا الجحيم بعد أن سمح الصهاينة بفتح معبر رفح لتمكين الأجانب من مغادرة القطاع.”
ساد صمت طويل بعد ذلك. لم تقل الطبيبة شيئًا. استدارت ونظرت إلى أسفل، إلى نقوش المفرش القطني ذي الأشكال المحبّبة للأطفال، وإلى الشّهداء الذين يحضنون أرض غزّة بحرارة أمعائهم ودمائهم الدافئة تحت الأكفان البيضاء، تبرّع بها العرب إلى الفلسطينيين في هذه الحرب حسب قول الممرّض الساخر! وقد تعمّقت تجاعيد التجهّم في جبهتها، لكن عينيها لمعتا مرة واحدة تحت رموشها الجميلة، وافترقت شفتاها سريعا، “ماذا! ماذا! هل هذا ظنّكم بي؟” صاحت وهي ترفع حاجبيها وتبتسم. عيناها صافيتان كالحليب مليئة بالدفء.
بدا الممرّض كالأحمق، إعتذر إليها بقوله: “إذا كان كلامي جارحا فأنّي أقدّم إعتذاري، دكتورة، أنا أنقل لك…”، لكنها قاطعته وتابعت: “لطالما اعتقدت أنّي منكم تعرفونني وأعرفكم. سأقول لكم كما قال الفوهرر لمن حاول التقليل من قيمة التضحيات التي تم تقديمها على الجبهة وتقويض قوة المقاومة: “من يحاول الهروب من هذا الواجب، ليس له الحق في العيش بيننا كعضو في المجتمع، ففي حين أن الموت يجلب أعلى شرف للجندي على الجبهة، فإن الآخر الذي يقلل من هذه التضحية سيموت في العار”. والطبيب مثل المقاتل الذي يتحلّى بالشجاعة اللازمة للوقوف في وجه مضطهديه ويموت بشرف في ساحة المعركة؟ هل يفرّ المقاتل؟ بالتأكيد لا، وأنا كذلك، لست من الذين يفرّون من مسؤولياتهم في إصلاح وترقيع جروح وندوب البشر. لن أرحل من هنا، ولم يكن بإمكاني فعل أي شيء آخر، باستثناء البقاء.”
” لا أفهم سبب إصرارك على البقاء مع أهلنا في هذه الأيّام السوداء المروّعة، رغم علمي أنّ الصهاينة لن يجرؤوا على إذايتك أبدا.”
أحنت رأسها فوق رأسي للحظة حتّى أظلمت السماء العظيمة فوقي، واختفى الحشد من المرضى ومرافقيهم من حولي واختفى الطاقم الطبّي كلّه، ولم يبق أمامي سوى وجهها الساطع الذي انتشرت فيه نظرة رمادية كئيبة، لقد فقدت فجأة ابتسامتها واستعادت مظهرها القلق.
“أنت مخطئ، لن تشفع لي جنسيتي الأجنبية ولا الرّاية الأمميّة الزرقاء التي أتغطى بها، هؤلاء مجرمون فوق القانون، والمجرمون لا يتركون خلفهم شاهدا يوثّق جُرْمهم. لقد عشت في الحروب، ورأيت أشياء فظيعة حدثت، استقبلت مرضى مشوّهين يخنقهم الدم أسرع بهم أعداؤهم إليّ أشلاء دون تأخير لانقاذ حياتهم ورعايتهم حتّى يصبحوا في صحة تكفيهم ليقفوا على الحائط لاطلاق الرصاص عليهم، ولكن في هذه الحرب الجنود يقتلون المرضى أو يتركونهم ينزفون حتّى الموت، أمر محزن لم أستطع فهمه، مثّل أصعب أوقات حياتي كلها، وليس لدي طريقة للتعبير عن رعبي ووصف ذلك بشكل كافٍ بأيّة لغة. ”
ولم تعد الطبيبة قادرة على قول المزيد. ولم يجد الممرّض الكلمات التي تعبّر عن فهمه لحزنها، قبل أن يسمعها تطلق صرختها المفاجئة: “هاي! ابتعد عن النافذة. إذا اقتربت كثيرًا، سيطلقون عليك النار!”
وفي تلك اللحظة التي رفعت فيها هامتها عنّي وهي تحذّر شخصا رأيته يقفز بعكازيه بعيدا نحو الزاوية، سمعت دويّ طلقة وصوت تحطّم مربّع صغير من الزجاج، ولم يمض وقت طويل حتّى شعرت بتيار هوائي بارد يلامس كتفي ويخترق عظامي.
“هل تأذّيت؟” استفسرت الطبيبة، فجاءتها أصوات تطمئنها.
ما تلا ذلك كان مذهلا، لم تستغرق أعمال الحفر سوى بضع ساعات، لكن عمليّة الدفن انتهت في وقت متأخّر من الليل. كنت أراهم يغشون السواد الحالك ببصيص من ضوء شاشات هواتفهم وإنارة خافتة من شمعاتهم المحمولة. تدور شرائط ضوء كشّافاتهم وتدور حتّى تصل إلى وجوهنا فتضيئها ثمّ تمضي بحثا عن شخص ما، يحملونه متعبين مغبّرين، يتخطّون به أجسادا، برؤوس وأطراف مغطاة بالضمادات، إلى حيث حُفر القبر الجماعي في القاعة المواجهة لي. كنت، خلال الليل، أغفو على فترات ثم أنهض، فأرى الطبيبة تجلس مقرفصة غير بعيد، رأسها بسترخي على صدرها. كنت قد سمعت الممرّض يتحدّث عن الخمسة الذين وضعوا في قبر واحد ويثني على جهود المساعدة التي قدّمها اللاجؤون المحبوسون في القسم، فتسأله عمّا سيفعلونه لو أدرك الموت أشخاصا إضافيين، وقد استنفذوا كلّ المساحة المتاحة لهم للحفر هناك، فيردّ: “ليس من الجيد إعادة فتح القبر بعد أن تتحلل الجثث، لذا لا يمكن فعل شيء”
وعندما تلاشى الظلام وأتى الصباح، كان الجميع هلكى من الإعياء، الرؤوس الناعسة الراغبة في النوم، والأجفان المغلقة المرتعشة، لم تكن الأصوات والضجيج يمثل لها مشكلة، ولا لي، فليل غزّة، كما يقولون، يهزّه قنابل المدافع وجنون الصواريخ وأنين المرضى والمحتضرين.
لا توجد حركة في صمت الصباح الباكر، كل شيء كانا هادئا بشكل غريب، هدوءا تاما، وفجأة دوّى قصف عنيف مباغت في الخارج، وازدادت حدّته للحظات، ثمّ تساقطت القذائف وطلقات الرصاص الكثيفة والمتواصلة على جميع النوافذ فأشعلتها ودمّرت مصراعي البوّابات المزدوجة الكبيرة وكسّرت المزلاج وقضبانها الحديدي، وقبل أن أسمع بوضوح صوت محرّك، وعويل نسوة وبكاء أطفال وصراخ المرضى، رأيت من خلال حاجز كثيف من غبار كأنّه ضباب مشهدا فظيعا مؤلما، أحد المرضى ينهض مذعورا من تحت عجلة قيادة مجنزرة اخترقت الجدار من الجهة المثلومة المغلقة من الداخل بصفيحة معدنية وجري بضع خطوات على أصوات طقطقة الجماجم والعظام، ثمّ تعثّر، وقبل أن يسقط جسده على جسدي وتتحطم ساقه وتدفن تحت قطعة من الخرسانة وكومة من الأتربة، سارعت الطبيبة فالتقطتني من الأرض وحملتني مذعورة على صدرها وانزوت بي في ركن قصيّ وهي ترتعش في حالة هستيريا، كان من الصعب عليّ تحديد الاتجاه. الجنود الصهاينة الملطخة وجوههم بالسخام يندفعون من الأمام مقتحمين الجناح من القسم من باب المدخل الكبير والضابط المسؤول يهجم بدبّابته من الخلف، وعندما انقشع الدخان واختفى الغبار كان الضابط قد نزل من شطرها البارز من الثغرة التي أحدثها في الجدار الخلفي وإصبعه على زناد رشاشه وهو يهتزّ ويتمايل أمام عدد من أولئك الذين أوقفوا صفّا على الحائط، وأصدر أوامره للجنود بتفتيش القسم: “ابحثوا عن نفق المخربين في هذا المكان، دمّروا كلّ شيء، انتزعوا منه حجارته، واقلبوا أرضيته رأسا على عقب”، وفي لحظة صمت مشؤومة، لحظة خيبة أمل شديدة، إلتفت إلى المحتجزين المسالمين وكثير منهم لم يمض على تواجدهم في المستشفى سوى أيام قليلة، ولم يحافظوا على نظافتهم بسبب فقدان الماء، وطلب منهم أن يبقوا ساكنين، يقول إنه طالما أظهر كل شخص هنا الطاعة، فإن حياته لن تتعرّض للأذى، وإذا لم يكن الأمر كذلك، فإن الأعمال الانتقامية ستكون بلا رحمة، كان يثرثر بتبجّح واستفزاز وأنا أنظر إليه بعيون جائعة، وكذلك أصحاب الأحذية المهترئة المنهكين من العمل الليلي والجوع والعطش، كانت وجوه معظمهم فارغة وخالية من التعبير، تسيل من جروح بعضهم دماء سوداء لم تستطع حفنة الشاش الأبيض المثبتة بشرائط ملفوفة بإحكام إيقاف تدفقه.
وفي اللحظة التالية تقدّم الضابط نحوي ووضع رشّاشه على رأسي، سلاحا من عديد الأسلحة التي أرسلها الأمريكان إلى الصهاينة لقتلنا، ولف إصبعه بقوة أكبر حول الزناد، وقال بلكنته الغريبة جعلت دمي يبرد: “هل أنت من مخربي خماس؟”
في الواقع، لقد تخيلت أنه كان يقصد بسؤاله استفزاز الطبيبة لتحريضها على القيام بشيء متهور، فينفّذ ضدها نواياه الخبيثة، وقد يطلق عليها النار، مع عبارات التهديد والحقد، إذ أنّها كانت جسورة لم يخالج الخوف قلبها، فقد دفعت ماسورة الرشّاشة جانبًا بحركة يدها، وهزت كتفها اشمئزازا، وهي تقول:”لو كان من المقاومة لما وجدته أمامك.”، فلوى شفتيه بابتسامة ساخرة، وقال: “قصدك أنّهم يختبئون في الجحور كالأرانب”، فعلّقت بصوت رزين وثابت: “قل ما شئت، هل تعتقد أن المقاومة تهتم لضجيجك؟ على الإطلاق، هم كالأشباح لا تدري من أين ومتى يظهرون لك.”
“سوف نجدهم، سنبحث عنهم في المستشفيات وفي المقابر، سنجرف أرض غزّة كلّها حتّى نجدهم ونقتلهم مثل الفئران.”
“هذا واضح بدليل وقوفك هنا. كلّما ضغطوا عليك انتقمت من الأبرياء.”
“دعينا الآن منهم، دوك (Doc)، وأخبريني بما يتعلق بك.”
واستجوبها حول إحدى الرهائن وخاطفيها؛ كيف وصلوا إلى المشفى، وكم عددهم، ومن الذي قام بفحص الرهينة وعلاجها. طرح عليها الكثير من الأسئلة الذكية والمثيرة، ولم يحصل منها على معلومات مفيدة كما بدا لي من توتّره وعصبيّته. قالت له إنّها ليست مديرة هذا المستشفى، فالمدير محاصر في جناح آخر، لذلك كانت هي المسؤولة هنا، والمسؤولة عن حفّاريّ القبور في تلك القاعة المخصّصة لأشعة الرنين المغناطيسي، والمسؤولة عن توزيع الغذاء الذي لا يوجد، وسواء كان المريض من المجرمين أو دعيت إلى مكان المحتجزين إلى للبت فما بالك وهو يأتي إليها، وفيما هو ينصت إليه سمع أحد جنوده يناديه: “كابتن، عثرنا على فتحة النفق”، فركل أكوام الملابس المتسخة المقطوعة من الأجساد، وتحرّك مجددًا مبديا اهتمامه وسعادته. وبعد أن اختفى من الجناح لبعض الوقت، عاد على مع بعض مساعديه وهم يناقشون أمر مدخل نفق، وعندما وصلها حديث الجنود عن كومة جنب جهاز الرنين المغناطيسي، تمتمت بنصف صوت عالٍ: “كلام فارغ! مجرد قبر جماعي للذين نهشتم حقوقهم.” ولدهشتها، فقد هدر الضابط في رجاله بتلغيم المكان وتفجيره، وعندئذ تساءل أحد مساعديه بقلق: “ولكن، كابتن، ماذا عن قاعة عمليات المخربين تحت المستشفى، ألن نقوم باستكشافه؟”، فردّ الضابط بأن الابتعاد عن عش الدبابير أمر ذكي تمامًا كما هو الحال في الدخول إليه فقد يكون ذلك كمينا مدبّرا من المخرّبين وإذا لم يكونوا حذرين قد يقعون فيه، كما أنّه رفض اقتراحا آخر يتمثّل في إجبار المحتجزين بالنبش والحفر بدلا منهم حتّى إذا ما كان النفق مفخخا يكونون هم ضحاياه، وأمره بوضع الأشياء التي جاؤوا بها في أماكنها من أجل التصوير والتوثيق، ثمّ ترك جنوده، وتوجه نحونا مبتسمًا مبتهجًا، اكتشفت عيناه الثاقبتان اسمي المدوّن في بقعة صغيرة من جسدي “مجهول الهويّة”، أشار إليها بماسورة رشّاشه وهو يقول ونغمة انتصار في صوته:
“هل سيبقى هذا دهرا في حضنك؟”
“وهل تقلق أنت؟”
“لا ولكنّ الجثث مكانها ثلاجة الموتى، لا أحضان الأطبّاء.”
ذعرت الطبيبة بشدّة، توقعت على الفور أن شيئًا ما قد حدث لي، فانحنت عليّ رأت عينيّ المنطفئتين مثبّتة عليها، وسرعان ما اهتزت بأكملها، وبدأت تئن وتبكي، ولم يعد كبرياؤها كطبيبة قادرًا على كبح تدفق دموعها الغزيرة.
عندما أخرج الجنود جميع من في المشفى خائفين وهم يتساءلون عمّا سيحدث بعد ذلك، والضابط أمامهم يتبختر ذهابًا وإيابًا، كنت وسط هالة ضوء لامع كنور نجم ملتهب أعلو وأعلو أمام وجهي يمتدّ عالم الموتى، وفي عيني تقلّص الجنود وتصاغروا أكثر فأكثر، ومن حولي يتناثر اللحم الميت والعضلات الممزقة وتتطاير الأعصاب والعظام من الأجساد المهانة المدفونة في حفرة عميقة داخل مشفى تمّ تدميره بالكامل.