تنقلنا القاصة صفاء اللوكي عبر ثنايا قصصها بمجموعتها ”جفونُ التيه ”، إلى عوالم متنوعة بين التشخيص اليومي لحياة البطل، وبين التيه والهذيان بأسلوب لغوي سلس يتيح بناء عالمين موازيين، عالم يعيش جزءا منه البطل أو عايشه عبر مسار حياته، وعالم آخر، هو جزء من الأول الطافح بمشاعر وأحاسيس يصعب البوح بها والتعايش معها في ظل قتامة الواقع كما تصوره القاصة، وكأنها تضع عالما خاصا بها تبوح فيه بكل ما تختلجه نفسيتها من مشاعر وآهات وأوجاع وأفراح في ظل تمنع واقعها عن ذلك.
بالعودة إلى متن المجموعة والذي يضم خمس عشرة قصة قصيرة، فإننا نعيش مع البطل عالمين، عالم واقع عاشه وكشف عنه في بعض سفرياته بالقطار، أو بين دروب وأزقة وشوارع مدينة القنيطرة، وما صاحب ذلك من مشاعر تنتابه، بأسلوب سردي متميز يشد القارئ ويجعله يستتبع أحداث كل قصة، خاصة في بدايتها التي غالبا ما تستهله القاصة بمقاطع وصفية، تجعلنا نتمثل المشهد الذي يعكس شدة إحساس القاصة بالفضاء ومشمولاته التفصيلية، وعالم آخر موازي سماته التأمل في الذات عبر لحظات الهذيان والتيه …
-صورة الرجل بالمجموعة
لاشك أن قراءة قصص (جفون التيه)، تجعلنا نستشعر ذلك الصوت النسائي، في الحكي والبطولة والكتابة، صوت لطالما عايش واقعا واجه خلاله عقبات تفاصيل المعيش اليومي، اختارت منه القاصة مواقف دالة، في دقة ملاحظة متميزة. يشير يعلى بهذا الخصوص ”تهتم القصة القصيرة النسائية إجمالا بالمرأة أساسا، فتعالج على لسانها بضمير المتكلم المفرد غالبا، موضوعات مرتبطة بهواجسها وهمومها ومتاعبها ومعاناتها وضياعها وروح الانطلاق فيها…مع حسن اختيار للمواقف الدالة، في دقة ملاحظة بارعة وحسن تأثيث بأعمق الأحاسيس وأدق التفاصيل. ولا يظل عادة للرجل في المساحة القصيرة للقصة النسائية سوى حيز هامشي شاحب…” . فالبطلة إذن (بجفون التيه) تعيش على إيقاع مشاعر مبعثرة، يشوبها القلق والتيه والضياع بين أحاسيس مبعثرة تنتابها، وبين أنفة المرأة وكبريائها في البوح بهذه المشاعر، لتظل حبيسة هذا النفق الحالك، أو بالأحرى تُحمل مسؤوليته للرجل، لتنقل هذه المشاعر إلى عالم من الأماني والتطلعات، عالم تجعل فيه مساحة للوم والعتاب لهذا الرجل المتمنع، الرجل المغرور بكبريائه، ففي قصة (احتمالات) تقدم البطلة شخصية مروان كلغز محير يأبى الكشف عن مشاعره تجاهها، ولربما احتمال ذلك وهما تعيشه. لذا فالرجل تقدمه هنا بمواصفات سلبية، فهي لا تقف ضد الرجل، بل تريده وتأنس به، لكن بحذر شديد. فصوت مروان هنا مغيب تماما، لا مجال له في البوح عن ما يشعر به ويستشعره تجاهها، فلا نسمع صوته الذي ظل متخفيا تحت صوت السارد المسموع علنا، الذي غيب الوعي الآخر لمروان، وهو لم نطلع عليه نحن كقراء، كما يشير مصطفى يعلى ”أن تحكي يعني أن تحيا”. ورغم ذلك فالبطلة تحمل مسؤولية هذا الجفون وهذا الجفاء لمروان، وكأن الرجل هنا منوط به أخذ زمام الاعتراف حتى ولم يستشعر هذا الحب تجاهها، وكأن من شأن هذا الاعتراف أيضا أن يحفظ كبرياءها في معادلة غير متوازنة. ولعل هذا التغييب الفعلي لمروان في الكشف عن دواخله هو ما جعل القاصة تقبع بالمنولوجية وفرض سلطتها الحكائية على شخصية مروان، يقول يعلى ”ولعل هذا التغييب المتعمد للبطولة الفاعلة للرجل في القصة القصيرة، وإن على مستوى التقاسم بين الرجل والمرأة لدى كاتباتنا، قد اسقط القصة القصيرة النسائية في المونولوجية، ذات الصوت الواحد والبعد الواحد..” .
ففي قصة (خفافا ثقالا) يطغى صوت السارد العالم المتحكم بزمام الحكي، وبذلك لا يترك مجالا لشخصيات القصة في البوح والتعبير عن أناها بكل حرية، لتظل الساردة تعاتب الرجل وتلومه لوما شديدا وتحميله كل احتمال فشل لهذه المغامرة العاطفية التي لا تريد منها إلا النجاح، وإلا فلا داعي لفتح هذا الباب. تقول الساردة ” يؤرقني التفكير في ما ماهية بيننا، ونحن لم نصرح أو نطارح بشيء..وأنت متشبث بكبرياء هرم، هل البوح بيننا الآن أصبح صعبا عسيرا؟ هل التقليب على جمر الشوق مريح؟” .
هي مجرد لعبة كبرياء، أو لربما حيطة وحذر، كونها امرأة فهي بحاجة إلى هذا الكيان الذي يملأ هذا الضياع والتيه، تقول الساردة معبرة عن هذا الشعور،”و تعلم كم أشتهي حضورك وكم أحتاجك في صباحاتي الزرقاء ومساءاتي الخضراء. ورسائل حالي تحكي في كل السكنات والنبضات ففي كل استيقاظ لي كل صباح، لا أقوم إلا بعد أن يشاركني طيفًك وجهَك ظلًك كلً مرايا الحياة..لا أعلم لما لا يحرك فيك كل هذا ساكنا. ولا أعلم لما لا تزورني في تعاقبي ساعاتي كل يوم ليل نهار، ولا أجدك.” يبدو أن فراغ كيان البطلة لا يملؤه إلا هذا الاعتراف الذي تعيشه بين جفون التيه، أو اعتراف الطرف الآخر، وفي مقابل ذلك تحمل أي فشل محتمل له، وكأن بالرجل هنا رمز لخيبة محتملة. بينما تظهر إيمان بقوة الحفاظ على هذا الود المفقود، وحتى في اعترافه بالهزيمة لم تترك له المجال للاعتراف بل وتقول على لسانه ” أنا رجل مهزوم..لا استطيع الاعتراف أمامك بهزيمة أخرى..يا إيمان
– أنت رجل أناني بمعنى الأخيرة..كل هزائمك كانت في عيني تحدٍ ومواجهة للحياة، هل تعلم أن حديثك الآن سخيف..”
مقطع سردي يكشف أنفة إيمان، إيمان الضحية، فلا هي تملك حق الرد والنسيان، ولا بيدها العودة لرجل ألفت منه الخيبات، لتعيش على إيقاع انفعال مستمر بين حب تملكها وكره استحال معها، فتظل حبيسة مشاعر دفينة، معترفة أنها ألفت هذا السهاد الأليم الذي أصبح رفيق نومها. وهنا لا تكشف إيمان حقيقة هذه الخيبات، ولا تترك للرجل حق الرد للتعبير عن ذاته كأنا فاعلة لها حضورها الفعلي بالقصة، فلا صوت يعلو إلا صوت إيمان، فرغم اعترافها، إلا أن هذا الاعتراف ظل حبيس أناها، ولا طائلة منه في ظل تغييب الصوت الآخر.
– التيه والهذيان سبيل الخلاص :
إن ما تعيشه البطلة بهذه المجموعة القصصية من مشاعر جياشة طافحة بالحب والأمل، جعلها تبعُد عن واقعها هذا، فلا سبيل لها في مجاراته إلا باتخاذ عالم موازي قد يتيح لها عالما أرحب يزيل عنها عبء أحاسيس ظلت دفينة ردحا من الزمن. تقول في قصتها (خفافا ثقالا) .”ضاقت مذاهبي أتعلم أن أجمل ما في حالي هو هذا التيه والهذيان، وهو أرحم من أكون محط ادعاء وافتراء واختلاق وسنة جوارحي ترفض الامتثال لأمرك المزيف..أمري أتعبه الوَجد وقدره أن يكوي الوجدان.”
هو عالم يظهر خلاله صوت المرأة التي ظلت تبحث عن الآخر الذي يستجمع شتات مشاعرها المبعثرة، عالم اتخذت منه القاصة ملاذا يزيل عنها عبء لوعة الحب، إلا أنه عالم يخلو من صوت الآخر/ الرجل، الذي تم تغييبه تماما في التعبير عن أناه كذات فاعلة لها وجودها الفعلي إلى جانب البطلة، لذا لطالما نصادفه كمتهم في الحب، متهم بالأنانية والغرور والكبرياء، عبر سجال يظهر فيه صوت أحادي عالم بتفاصيل وخبايا الحكاية بدون حضور الذات الأخرى، التي تظل مغيبة تماما لا تظهر إلا بإذن من السارد وفق مسار هو من يختاره له، الأمر الذي يشل حرية الشخصية في الدلو بأفكارها، يشير باختين إلى هذا الطرح “فحيثما يبدأ الوعي، يبدأ الحوار..إن العلاقات الآلية وحدها هي التي تفتقر إلى الطبيعة الحوارية” . والوعي بالذات ظل حكرا على البطلة، بطلة ظلت تعاني في صمت دون أن تجعل الآخر طرفا فيه، عبر حوار سجالي يظهر فيه هذا الآخر كذات تعبر عن مشاعرها تجاهها.
وفي ظل هذا الوضع نسجل حضورا لبطلة هذه المجموعة، بطلة تجسد حضور المرأة ، فبرغم المعاناة (الحب،الفقد، الإدارة، القطار، المحسوبية، الطبيب…)ظلت صامدة، فلم نلمس تلك المرأة البكائية المستسلمة لواقعها، بل اتخذت منه سبيلا لمواجهته بكفاح مستمر ففي قصة “دعوة” تبدي بطلتها امتعاضا من الرجل الذي ظل يوبخ زوجته بالوقوف في مكان مزدحم بالقطار رغم امتناعها، في مشهد حواري تبين فيه معاملة الرجل العجوز لزوجته. تقول الساردة”- أجي وقفي هنا
تجيب المسكينة بتأفف:
– فين تما؟ مكيناش بلاصة”
يعقد حاجبيه الكثًين ويجيبها بحزم:
– تم حداها “السيدة” . وأشار إلي.
على مضضٍ لبَت المسكينة طلبه لتؤكد له أن المكان لا يسعها، ثم عادت بسرعة لتقف في مكانها الأول. أراقب نظراته ونظراتها..إصراره جعلني أتخيلُني أصرح في وجهه وأخبره بأن”
– زوجتك ليست حقيبة لتختار لها مكانا يناسبك. ثم فكر في سؤاله:
– ألا ترى أن المكان لا يسعنا نحن الاثنين؟
هل غيرة منه؟ ألم يلحظ حجم زوجته الحقيقي؟ على الأرجح هو مصاب بقصور بصري. أم هو مجرد عناد وقسوحية الراس؟ .
إن القاصة وهي تصور الواقع تقدمه عبر تجسيد لقطات اليومي بأسلوب سردي تحضر فيه الذات بشكل كبير، وكأننا أمام شذرات من حياتها عبر استحضار ذكريات ظلت راسخة، مثال قصة (عزالعرب) وقصة (حي وميت) بأسلوب لغوي بسيط في اختيار الكلمات، فلم نلاحظ أساليب استعارية، فالمجموعة خالية من الانزياحات والتشبيهات، دون أن تكون للكلمة حرية، ذلك أن ذات السارد حاضرة عبر ضمير المتكلم. ولكن بالمقابل تستدعي حضور القارئ ومشاركته بناء الحدث.
ففي قصة “احتمالات” تحضر الذات في شخصية البطل وهي متجهة على متن قطار للقاء مروان، وهي قصة تنجلي معالمها من خلال عتبة العنوان، حيث هناك إيحاءات في العنوان الغرض منها تقديم القصة على أنها مجموعة احتمالات تحدث رجة في ذهن المتلقي وتبعثه على خلق عوالم متخيلة يلتقي فيها القاص والقارئ والنص القصصي لبناء عالم دلالي متكامل. كذلك الأمر بقصة (بصمة على بحر الظلمات) حيث حضور الذات لم يكبح حضور ذات القارئ من خلال أسلوب الحكي الذي ابتعد كليا عن رتابة الحكي التقليدي المعتاد، فنستشعر القاصة تختار بعناية فائقة الكلمات لترسم لوحة فنية تنجلي معالمها بذهن المتلقي. تقول “…حافية أنا..يحضُنُ رملُك النديُ بأريج الصبح، ونفسُكَ يشقُ خزان هوائي فيحمِلُني إلى أبعد ما يكون، تتشابك علينا الألحان الباردة كبلورات الثلج المتشابكة ببعضها.
عالمي إحداثية مبهمة تبحث عن دروبك الحجرية، تُدحرجني كموج الأطلسي الهائج..وجهك الأزرق الأبيض أسافر فيه رغما عني’. رغما عن الزمن.’ عن المسافات…” ، قدمت لنا القاصة صفاء اللوكي مشهدا تتداعى خلاله مجموعة من الصور في ذهن المتلقي، بل تتشكل لديه صورة ونحن كقراء كما يقول (محمد يوب)”تصلنا الصورة قبل أن تصلنا الكلمة، إننا نفكر بالصورة ولا نفكر بالكلمات، لأن الكلمات اختراع يأتي بعد الصورة وهي أداة تأتي لكي تقدم معنى الصورة، بل أكثر من هذا تقدم المعنى الذي يبحث عنه القارئ”
تعتمد القاصة إذن أسلوبا حكائيا مزدوجا بمجموعتها القصصية، وكأننا أمام عالمين من الحكي، عالم تقتفي أثره باليومي المعيش، من خلال جس نبضات المجتمع وتحركاته المختلفة، والقاصة كذات فاعلة بالحدث جزء من هذا الواقع، تتحرك عبره وخلاله، ملتقطة بعناية كل ما يخدم صرح عوالمها الدلالية، دون السقوط في الحرفية والاستنساخ لهذا الواقع، وإنما عبر رؤية وتصور يعيد إنتاجه من جديد بنظرة تبصرية عميقة، مثال على ذلك قصة(أشعة سينية) حيث قدمتها القاصة بأسلوب ساخر يكشف هشاشة هذا الواقع كما الحال مع بطلها الذي اكتشف بعد جهد جهيد ومعاناة نفسية خطيرة أن ما بجسده ليس جسما غريبا إنما جسما عالقا بجهاز السكانير، الأمر كذلك بقصة (الشاعر المشبوه) الذي اكتشف أمره من قبل تلميذ له وهو ينسب لنفسه قصيدة لمحمود درويش، ليعيش حالة من الإحراج الكبير بين زملائه وتلامذته.
وعالم موازي يلامس العواطف، وهو عالم مليء بمشاعر جياشة تعتري البطلة لم تجد معه إلا عالم الهيام والجفون، لعل في ذلك ترويح عن النفس وراحة للقلب الذي لم يجد إلا الجفون والتعالي، فالحدث إذن يُبنى وفق مصدران، الأول من الحياة مباشرة، ومن التجارب الشخصية، ومن تجارب الآخرين والثاني من الخيال الذي يبدع أحداثا على شاكلة ما يحدث بالواقع.
يبدو أن المجموعة القصصية تجسد مشاعر إنسانية متباينة، بين حقيقة واقع مرير تقدمه القاصة بطريقة متميزة معتمدة أساليب فنية كالسخرية والنقد اللاذع تجعل القارئ يتمثل عديد المواقف التي قد يواجهها، فلم تنقل هذا الواقع حرفيا وإنما برؤية تجعلنا نتقاسم خيبات هذه المواقف التي تعتري أفراد المجتمع، فالمجموعة هي في متناول مختلف القراء على اختلاف تلويناتهم، وما ميزها كثافة اللغة وابتعادها عن الزخرفة اللغوية، حيث الدارجة ولغة الشخصيات، لغة الطبيب والأستاذ والإداري، جعلت المجموعة تنفتح على عوالم شخصياتهها.
-المراجع
مصطفى يعلى : السرد ذاكرة، مطبعة الأمنية/الرباط، ط 1، 2009
صفاء اللوكي: جفون التيه، مطبعة وراقة بلال فاس، ط1، 2023
ميخائيل باختين: قضايا الفن الإبداعي عند دوستويفسكي، تر جميل ناصف التكريتي، وزارة الثقافة والإعلام/بغداد،ط1، 1986
محمد يوب: القصة القصيرة جدا ، كتاب من منشورات مجلة الرافد في ع 096- يونيو- 2015