ما الغاية من الفلسفة أو ما هو هدفها؟ يفترض أن أغلب الفلاسفة ودارسيها متفقين على تعريف أولي للفلسفة وهو: إنها أداة تفكير وطريقته، مهمتها الإجابة على أسئلة الانسان الوجودية وما يتعلق بهدف حياته والمصير الذي تنتهي إليه، وإذا ما كانت هذه الحياة قد بدأت أو قامت بفعل فاعل كبير وخارق أو كلي القدرة ولغاية عظيمة، أم إن الأمر برمته قد جاء مصادفة أو بفعل فورة طبيعية غير مضبوطة أو مرسومة الأهداف والغايات.
ورغم بساطة هذا التعريف، إلا أنه يوحي لنا، بل يفيد بثبات، أن هذه الأداة النقدية والباحثة (الفلسفة) تخوض في مسائل بمنتهى التعقيد، وتتصدى للإجابة على أسئلة بمنتهى الصعوبة، فلم يكتبها أو يكتب مواضيعها وطروحاتها ونظرياتها ومعالجاتها، أصحابها (الفلاسفة) بلغة صعبة، بل معقدة، بل وأعقد مما تطرح من أفكار ومعالجات وأجوبة؟ هل حقاً يأتي تعقيد لغة الفلسفة وغموضها وصعوبة فهمها من تعقيد المواضيع والأسئلة التي تتصدى لمعالجتها؟ هل حقاً لا توجد أو لا يملك الفلاسفة لغة أبسط لإيصال أفكارهم وطروحاتهم وفرضياتهم التأسيسية؟
السؤال الأخطر، والذي وجه لي شخصياً من بعض النابهين هو: إذا كان الفيلسوف عاجزاً عن إيجاد أو تطوير لغة مفهومة لإيصال أفكاره، فكيف سينجح بما هو أعقد منها، وهو الإجابة على الأسئلة التي حيرت وأعجزت غيره؟ وبصياغة ثانية: الفيلسوف الذي لا يملك لغة مفهومة توصل وتوضح أفكاره، فبأي لغة سيوصل أجوبته إذا توصل إليها، وخاصة أن القاعدة تقول: إذا ما أردت أن تستمع بوجبة غداء دسمة، فلا بد لك أن تعد لها طاولة وصحوناً نظيفة وبرائحة طيبة!
تروي (سيمون دي بوفار) عن جان بول سارتر، عندما كان يكتب كتابه الفخم العتيد (الوجود والعدم) إنه كان يصحو صباح كل يوم ليقرأ ما كتبه في الليلة الفائتة، فيغرق في الضحك ويقول لها (كيف كتبت كل هذا الكلام المعقد وغير المفهوم)! وكما تعلق سيمون فإنه كان يضحك لأنه يعجز عن فهم ما كتب هو ذاته! والحقيقة (وهذا ما سيغضب الكثيرين)، فإن الكثير من كتب الفلسفة، يكاد يكون مكتوب بنفس الطريقة وبذات اللغة غير المفهومة. لماذا؟ ببساطة لأن من جلسوا لكتابة تلك الكتب، وخاصة منهم المحدثين، جلسوا للكتابة دون أن تكون لديهم رؤية واضحة عما يريدون قوله أو لكونهم تصدوا للكتابة عن مواضيع تفوق قدراتهم، لذا عمدوا إلى الغموض كي يبدو معمارهم كبيراً وفخماً، ولذا لا تفهمه إلا الصفوة القليلة التي حباها القدر بعبقرية استثنائية. ولكن عندما يأتي واحد مثلي من خارج حلقة تلك الصفوة الضيقة ويسأل: هل أجابني الفيلسوف الكبير فلان، الذي لم أفهم فصلاً من كتبه، على سؤال: من أين جاء وماذا يفعل الانسان في هذه الحياة وإلى أين سيذهب؟ الإجابة طبعاً لا. إذن ماذا قال في العشرين أو الثلاثين كتاباً التي دبجها؟ أنشأ معماراً (هيكلاً) فلسفياً جديداً باسمه أو اخترع بعض المفاهيم الجديدة. وماذا يملأ غرفة الفلسفة أو مكتبتها من نتاج غيره؟ لا المفاهيم التي جاء بها جديدة كل الجدة، ولا كانت غرفة الفلسفة تفتقر لها أو ما يقاربها أو يماثلها، هون وفي أحسن الأحوال أعاد صياغة ما سبقه إليه غيره بلغة ومسميات ومصطلحات جديدة، أو أنشأ معمار هيكل طرح جديد لبعض أجزائها (أسئلتها) أو أعاد طرح بعض اسئلتها بطريقة مضافة. حسناً، ولكن الأسئلة التي تصدت الفلسفة للإجابة عليها مازالت هي عينها وتراوح في مكانها دون إجابات؟ نعم… ولكن…
لماذا لا تكتب الفلسفة بلغة يفهمها الجميع، وخاصة أن المشاكل (الأسئلة) التي دفعت الفيلسوف للكتابة فيها، هي ذات المشاكل أو الأسئلة التي يعاني منها أو ينتظر الإجابة عليها الجميع: المزارع والنجار والعتال والطبيب والتاجر والمهندس و… وكل من هؤلاء تمر به لحظة الضجر ذاتها، ولحظة التبرم ذاتها، ولحظة اليأس من الحياة ذاتها، أو لحظة شعوره بالاقتراب من الموت اللاهادف ذاتها، التي دفعت الفيلسوف للتفكير بها والكتابة عنها؟ يروى عن بداية الفلسفة أن سقراط كان يدور في شوارع وأسواق أثينا ليلقي دروس فلسفته وحواراته على مواطنيه الأثنيين، وهذا يعني، بطريقة من الطرق، أن الفلسفة لم تكن حكراً على طبقة اجتماعية بعينها، ترى ما الذي جرى أو أجبر الفلسفة على الانزواء داخل أروقة الجامعات ولتهجرها غالبية الشرائح الاجتماعية، بما فيها شريحة المثقفين والكتاب غير المتفلسفين، حتى اقتصر تداولها (بثوبها الأكاديمي) على أساتذة وطلبة كليات الفلسفة، في أغلب جامعات العالم؟
الجواب ببساطة هو لأنها لم تعد تعالج الأغراض (الأسئلة) التي قامت من أجل معالجتها (الإجابة على أسئلة الوجود المزمنة) ولأنها لم تعد تكتب بلغة مفهومة، وأيضاً لأنها انشغلت بمواضيع غير مواضيعها الأساسية، حيث انشغل كل فيلسوف (بسبب عجزه عن إيجاد أجوبة مباشرة وصريحة) بتأسيس هيكل فلسفي ليدعى باسمه او ينسب إليه، واختار لهذا الهيكل لغة معقدة غامضة وغير مفهومة، ليضفي الأهمية عليه وليدلل على عمقه وعمق ما يحوي من أفكار وطروحات.
والنتيجة؟ بقيت وستبقى تلك الهياكل حبيسة أروقة الجامعات، لا يقرأها إلا زملاء كتابها، وليطبطب كل على كتف الآخر ويمتدحه بأنه جاء بما لم يأت به غيره وإنه أعظم فلاسفة عصره، من دون الالتفات إلى أن أسئلة الفلسفة مازالت معلقة حيث هي، منذ طرحت في يومها الأول، وأيضاً من دون الالتفات لحالة القطيعة لمكتبة الفلسفة (من قبل حتى الشرائح المثقفة) وإنها لم تعد تفهم خارج أروقة الجامعات، هذا إن كانت (مناهجها أو هياكلها الحديثة) مفهومة بالفعل داخل أروقة الجامعات، ومن قبل أساتذتها المتبحرين أنفسهم!
هل حقاً لا يمكن أن تكتب الفلسفة بلغة يفهمها الطبيب والمهندس واستاذ المدرسة الثانوية؟ لماذا؟ أ لأنها معقدة أو تعالج مواضيعاً معقدة؟ من أين جاء التعقيد للفلسفة؟ أم من طبيعة الأدوات التي تعمل بها أم من طبيعة المواضيع التي تتصدى لمعالجتها؟
وإذا ما تساءلنا، للإجابة على هذه الأسئلة، ما هي أدوات الفلسفة، وما هي المواضيع التي تتصدى لمعالجتها تلك الأدوات، أ لن نكون واقفين أو سنقف على حافة الهوة المصطنعة، بتعقيد الفلسفة وأدواتها، على أنفسنا، من أجل التعقيد أو بسبب العجز عن تقديم الإجابات الواضحة عن الأسئلة التي قامت من أجلها الفلسفة؟
أليس من حق أي فرد ممن تُسوق لهم الفلسفة أو ممن ينتظرون منها الإجابات، أن يحاجج الفيلسوف بالقول: أعطني إجابة واضحة وقطعية على سؤالي المركب: من أين أتيت ولماذا، وإلى أين سأذهب، واحتفظ بما تبقى من الفلسفة لنفسك؟
ومن حق شخص آخر أن يحاجج جميع الفلاسفة والجامعات التي تدرسها: كل هذه الكليات المنتشرة في أغلب جامعات الكرة الأرضية، وملايين المؤلفات التي أنتجها الفلاسفة ومازالت أسئلتنا الوجودية معلقة دون أجوبة؟ ماذا كنتم تفعلون إذن، وماذا درستم في تلك الكليات وماذا وضعتم في تلك الكتب، وأنتم حتى لم توفقوا في أن تُدرسوا وتكتبوا فلسفاتكم بلغة مفهومة أو غير معقدة؟ فمنذ ديكارت الكسول والفلسفة، وبدل أن تقدم لنا إجابات ناضجة وواضحة وسهلة الفهم، تزداد غموضاً وتفككاً وارتباكاً وتجريدية، بل وتفتقد لذلك الرابط الموضوعي لطروحاتها، قبل معالجاتها وأجوبتها، حتى صارت تشبه أجزاءً لمحرك قاطرة عملاق، ولكن هذه الأجزاء بأحجام وتقنيات مختلفة وعصية على الترابط، وعليه فهي في النهاية، ليست أكثر من كتل حديدية، مفصومة العرى والغاية، تشغل مساحة الحيز (غرفة الفلسفة) وتحجب النظر (وتلوث) المنظر والمكان، من دون أن يكون لها نفع حقيقي ومباشر: قاطرة تسير على سكة وتوصل راكبيها إلى مكانهم الذي يقصدون.
الحقيقة، ويا للمفارقة، أن أغلب الركاب المنتظرين على رصيف محطة الفلسفة يعرفون المكان الذي يقصدون، ويتحرقون للحظة الوصول إليه، باستثناء صناع أجزاء محرك قاطرة الفلسفة ومن ظنوا بأنفسهم القدرة والأهلية على قيادة تلك القاطرة، بعد تجميع أجزائها!، وحقيقة الأمر إنهم لم يعرفوا حتى مجرد الطريق إلى حمام تلك القاطرة، ليغسلوا أدران تخبطاتهم وغرورهم، التي تكدست كأطنان من النفايات التافهة والضارة على رصيف المحطة!
ويستمر إلحاح السؤال: لماذا مازالت لغة الفلسفة معقدة، بل وتزيد تعقيداً، باضطراد، كلما زاد عدد فلاسفتها وكتبها ومناهجها ومدارسها؟
كما أرى فإن كل هذا التعقيد، في اللغة وطرق الطرح، قد جاء كرد فعل على شعور العجز برفض التعقيد الحياتي، الذي عده كثير من الفلاسفة كأمر طبيعي ومسلم به، لأنه نتاج حضارة متقدمة جداً (حضارتنا القائمة)، لا يمكن رفض أي جزء منها، لأنها مازالت في طور التطور نحو الأحسن والمزيد من المنجز العلمي والتكنلوجي، وعليه لا مفر من التعايش مع هذه الحضارة وقبول كل ما تأتي به، بما فيها أخطاءها الفادحة، وعملية تبرير هذه الأخطاء أو تسويغها كمنجز، هي التي فرضت هياكل الفلسفة الصماء ولغتها المجردة الغامضة، من أجل إقناع (غير الفلاسفة أو نسبة 99.99 المتبقية من البشر غير الفلاسفة)، بأن يقبلوا كل ما يتفوه به الفلاسفة على إنه فلسفة كبيرة وعميقة، وليس من جدير بفهمها غير الفلاسفة الكبار. وماذا عن النسبة التي لا تفهم؟ عليها أن تؤمن إيماناً غيبياً (إيمان الرهبان) ودون فهم بما قال وأنتج من يسمون أنفسهم فلاسفة! ولكن هكذا ستبقى أسئلة هذا المجموع دون إجابات؟ كلا، بل الإجابات موجودة ولكنهم لا يفهموها لأن لغة الفلسفة أعمق من مداركهم البسيطة! هل يصح هذا الكلام، لمجرد أن يقوله صناع الفلسفة؟
هل من أم قالت لخاطب ابنتها الدميمة يوماً، وعلى مدار تاريخ البشرية، دعها فهي دميمة؟