
..من المؤكد أن الثقافة هى مرأة الشعوب، هى من تعبر عن كل زوايا المجتمع بكل شرائحه، كاشفة لكل مجريات الأمور الإيجابي والسلبى، بل أني أراها هى المصابيح التى يجب أن نهتدي بها حتى لا نصل الطريق، ولكي تقوم الثقافة بدورها الهادف لابد لها من توافر عناصر مهمة لها منها عدالة التوزيع الثقافى وحق كل مواطن بالحصول على حصته العادلة من الثقافة، وجود حيادية بالتعامل مع كل المتعاملين معها بحيادية لا أن تتحول الى جزر وشلل وعلاقات وتوجهات لإظهار البعض دون البعض، ولابد من إعلام جاد يعبر عنها بمنتهي الأمانة ويظهر مؤشراتها صعودا وهبوطا، من أجل هذا طرحنا هذا محاولة منا لمعرفة وجهات نظر متعددة .
التجمعات الثقافية فى مقابل الشللية
السيد نجم- كاتب وناقد..مصر
لعل ظاهرة التجمعات الأدبية والفنية قديمة قدم كل محاولات المبدع والمثقف أن يطرح فكره وفنه على الغير.. فقد كانت فى الأسواق العربية قديما، حتى علقت القصائد على أستار الكعبة بناء على موافقات الجماعة وليس برغبة الشاعر.. وكانت فى مجالس الخليفة على تنوع وتعدد ألوانهم الفكرية وأرائهم بداية من الدولة الأموية والعباسية حتى كانت فى مجالس بعض الملوك داخل القصر فى المناسبات المختلفة.
تلك التجمعات هي التى انتبهت للنبهاء من بينهم وزكت الجيد وقدمته بين العامة والخاصة قبل معرفة وسائل الاعلام الشائعة الآن..
لم تكن تلك التجمعات سواء عربيا أو فى أوروبا فى قصور الاقطاعيين والاثرياء والأمراء من بينهم، لم تكن ﺇلا الرجاء الذى يتمنى كل صاحب موهبة أن ينتسب ﺇليها ويرجو التعلق بها، ولم يطلها وصف سىء السمعة من قريب أو بعيد.
فلما كانت تلك التجمعات ضمن الحراك الثقافى وملامحه فى مصر، حتى أثناء فترة تفهقر ملامح المجتمع المصرى وانسحاب المصريين فى الترتيب الاجتماعى بعد المماليك والعثمانيين.. كانت هناك تجمعات وان غلب عليها المسحة الدينية فى الجامع الازهر وبعض مساجد الصالحين والأولية ورجال الصوفية شمالا وجنوبا..
أما وقد بدأ التواصل مع معالم حضارة جديدة فى الغرب وتم ﺇرسال البعثات وكان الاحتكاك والتلاقح الثقافى الجديد.. ومن ثم تشكلت المجموعات الفنية والثقافية الأدبية سواء فى القصور أو فى الدور المتوسطة للطبقة المتوسطة الجديدة من المثقفين المصريين، والشوام القادمون من الشام والاقامة بمصر تحت راية الحراك الثقافى الجديد.. حتى راج المسرح وانشاء الصحف والمجلات وعرفت المقاهى الثقافية..
هكذا تبدو صورة التجمعات غالبا طوال الأزمنة القديمة.. لكنه تلاحظ مع فترة الستينيات وما بعدها راج مصطلح مواز هو الشللية، وأظن أن نشأته ورواجه يرجع ﺇلى تبادل الاتهامات بين مجموعات ثقافية تنوعت وكثرت خلال تلك الفترة.. وغلب على الكثير منها السمة الايديولوجية واﻹتجاه اليسارى بدرجات متفاوته.. فما كان من أصحاب اﻹتجاه الآخر يصفون غيرهم بالشلة وليس بالجماعة الأدبية أيا ما يكون اسمها وصفتها وانتماها…
ثم غلب على المصطلح صفة أو ملمح أن يكون (سبة) المقصود منها الاقلال من قيمة الجماعة المشار ﺇليها ..
زكى هذا اﻹتجاه وراج بعد أن ارتبط النشر والتواجد فى الندوات والمؤتمرات والمحافل الادبية بدرجة انتماء المبدع ﺇلى المجموعة التى تقوم على النشاط.. أو حتى على الفرد الذى يشرف على الصفحة الأدبية وﺇلى شلة هو وهكذا
ربما نخلص من هذا على أن لا غضاضة من وجود التجمعات الأدبية اطلاقا وهي فى كل الأحوال مفيدة للمبدع الفرد مع حسن النية.. ومع تحفظ مراعاة القيم العامة الأخلاقية الواجبة وان نرعى أن الاختلاف مطلوب وليس مبعثا للحلاف والتناحر.
وقد تكون تجربتى الشخصية فى هذا الخصوص وراء ما تناولته الآن.. ففى بداية الثمانينيات كنت من شارك فى ﺇنشاء جماعة نصوص90 الأدبية والتى راجت فى بداية الفرن الجديد، القرن 21 ومعها تشاركت مع غيرى فى قراءة الأعمال الأدبية وتعرفت على قواعد النقد العلمى بالاضافة ﺇلى روح المحبة التى جمعتنا .. وأشير ﺇلى بعض الاسماء (د.رمضان بسطويسى – د.مجدى توفيق – د.مصفى الضيع – أمين ريان – السيد نجم – سيد الوكيل – د.ياسر شعبان – محمد الحمتمصى- د.هويدا صالح – سعيد نوح – د. مصطفى عطيىة.. واسماء أخرى ربما نسيتها الان) هنا اشير فقط ﺇلى أهمية التجمعات حتى تحت مظلة تعبير الشللية ولكن بدوام التواصل وحسن النوايا سوف تفقد الشلليية وجهها غير المقبول، لكونها ضرورة ثقافية واجتماعية معا.
—
لكي تتحرر الثقافة من الشللية والعلاقات والمصالح والتنازلات والإعلام الملمّع، لا بد أن تستعيد وظيفتها النقدية والتحررية، وتُبنى على أسس من الكفاءة لا الولاء. يتطلب ذلك مشهدًا ثقافيًا أفقيًا لا هرميًا، يتيح التعدد والتجريب، وينفتح على االأصوات المهمشة بعيدًا عن احتكار المنابر والجوائز. الاستقلالية المالية والمعرفية ضرورية، تمامًا كما هو مطلوب تفكيك الإعلام الثقافي الترويجي الذي يصنع نخبًا زائفة. الثقافة الحقيقية لا تنفصل عن قضايا الناس، بل تشتبك مع الهيمنة وتعيد للوعي الجماعي قدرته على المقاومة والمعنى. فقط عندما تتحرر الثقافة من محيطها المغلق وتعود إلى دورها الجذري، يمكن لها أن تؤثر إيجابًا في مجتمعاتها وتشارك بفعالية في بناء وعي نقدي وحر.
اياد شماسنة -كاتب .. الأردن
سؤالك بالغ الأهمية، وهو يمس جوهر أزمة الثقافة في زمن الهيمنة والتدجيين.
ولكي تتحرّر الثقافة من الشللية ومنظومة المصالح والإعلام الموجّه، لا بدّ من إعادة تعريف الثقافة أولًا باعتبارها موقفًا لا مهنة، ووعيًا لا وجاهة، ورسالة لا سلعة. وفي هذا السياق، يمكن طرح مداخل تحرّرها بدءا بإعادة المثقف إلى دوره العضوي، وتفكيك المركزيات الثقافية، وإعادته وصل الحبر بالجرح، فالمثقف ضمير المجتمع ..
د. فهيمة كتاني- حيفا..فلسطين
*
أستاذ الثقافة العربية لن تتحرر من المحسوبية والعلاقات وحتى الإنتماء الأديولوجي لو لم توجد طبقة مثقفة نيرة وحرة وتقدمية تمتلك الشجاعة للنقد و المراجعة …
ونحن ليست لدى الأفراد منا ولا المجموعات هذه الأليات ٱما لتغلغل السلطة في كل المؤسسات الثقافية أو لوجود المراقبة المستمرة أو حتى الرقابة الذاتية المتحجرة التي تكبح جماح الإبداع والحرية..
(رؤوف عزيزي- كاتب تونسي مقيم بإيطاليا)
*
الشهبي أحمد -شاعر وناقد ..المغرب
سؤال في غاية الأهمية، لكي تلعب الثقافة دورًا إيجابيًا ومؤثرًا في مجتمعاتها، لا بد أن تتحرر من الشللية والعلاقات الضيقة والمصالح الشخصية، وكذلك من الإعلام الذي يروّج لتلميع البعض على حساب الآخرين. يتطلب الأمر وجود شفافية ومساءلة حقيقية في المؤسسات الثقافية، وإعلام مستقل ينقل صوت جميع الفئات دون تمييز أو تحيز. كما يجب دعم المبادرات الثقافية الشعبية وتعزيز الوعي الثقافي لدى الجميع، حتى تصبح الثقافة معبرة عن واقع المجتمع بكل ألوانه، لا حكرًا على نخبة محدودة. بدون هذه الإصلاحات، ستظل الثقافة عاجزة عن تحقيق تأثيرها الحقيقي والفاعل.
حينما يرتفع الذوق العام
ويكون صوته اعلى من اي شلليه
حينما نقدر قيمه الكتاب
قيمه الكتاب
قيمه الجمال
ابتهاج سليم- مصر
*
الشللية وأثرها علي الثقافة
د. شاكر صبري- كاتب مصري
تعاني ثقافتنا من آقة خطيرة وهي الشللية ومحاولة إقصاء الأخرين أو طمس معالمهم الثقافية وهي آفات خطيرة تمثل حجر عثرة في النهضة الثقافية وتمثل عاملا هاما في هدم البينان الثقافي في مصر .
يعتبر المثقفون في أي دولة هم حاملوا مشعل النور وسط الظلام ، من يتنبئون من يكتشفون عيوب المجتمع ويحاولون إصلاح عيوبه، أرق الناس أفئدة واكقرهم رفاهة للإحساس .
ولكن حين يكون المثقفون هم من يحتاجون إلي إعادة هيكلة ، ومن يحتاجون إلي إصلاح فسادهم ، ومن يخرجون عن الأطر العامة ساعتها سنقول علي الدنيا السلام .
وفي الحقيقة فقد امتلأت قصور الثقافة وهي بيت المثقفون الأول والذي تتربي فيه الأجيال وتخرج براعمها من خلال مناقشات الأدباء وجلساتهم علي طاولة الأدب وتعليمهم وتعلهم من الآخرين كل هذا يصنع مناخاً خصبا لصنع الأديب وإتاحة الحياة الأدبية السليمة لتنمية مهاراته المختلفة.
وكذلك كل المجتعمات والمنشآت التي ترعي الثقافة في مصر كدار الأوبرا، وغيرها وكلها تابعة لوزارة الثقافة .
المعول الأول يعود إلي الدولة واهتمامها بالثقافة بشتي أنواعها فالدولة وحدها من تسعي لصناعة المبدع بشتي أنواعه وتنفق علي ذلك ولديها موظفين في كل المنشآت تدفع لهم رواتبهم من أجل خدمة الثقافة
ومن المفترض أن يكون العاملون بهذه المنشآت التي خصصت لخدمة الثقافة مؤهلين نفسيا وعلميا لكي يتواصلوا مع المبدعين، ويقدوا لهم كافة الخدمات المتاحة من ما تمنحه الدولة لهم .
وما تعاني منه الثقافة في وقتنا الحالي هو انهيار القيم الثقافية لدي المبدعين وانتشار الشللية وانتشار حب الذات ، ومحاولة تلميع فئات معينة لأسباب شخصية أو نفسية أو ربما مصالح اجتماعية وطرد وطمس كل ما يتنافي مع ميولنا الشخصية أو مصالحنا أو شلتنا ، أيا كان حجمه الإبداع أو كيانه ، المهم نحن وما بعدنا الطوفاان ، هكذا يشتكي الكثير من الادباء في مصر من هذه الأمور داخل المنشآت الثقافية التي خصصت للجميع لكي ينال كل مبدعٍ فرصته للتعبير عن إدباعه فيسيطر علي زمام الامور في كل موقع فئة معينة أو مجموعة بأساليب مباشرة أو غير مباشرة ويمنحون كل من يحبون ويرضون عنه كل ما يتمني من فرص ويتبادلون مع غيرهم توزيع الأدوار ، ويحرم الباقون منها كأنهم لا وجود لهم من الأساس ، وكلما صرخ أحدهم لنيل فرصته اتهم بسوء الأدب ، بالمرض النفسي فالطرق كثيرة لتحقيق الهدف .
و بين هذه الكيانات الدؤوية في تحقيق أهدافها تنطمس مواهب ادبية متميزة وواعدة وربما لا تقوم لها قائمة وسط ضجيج الحياة وصعوبة الفرص .
وهناك من يلهث ويعاند ويثابر ويضحي من أجل حفر اسمه في قائمة المبدعين بينما أنصاف المبدعين يملؤون الأرض ضجيجا ويصهلون ويزأرون كأنهم أسود الشري .
ولكن ما الحل ؟ من الصعب ان تضع التشريع،الذي يمكن له ضبط هذه الموازين بين المثقفين خاصة،ويضع كل امر في نصابه مهما كان ، فهم يستطيعون التأفلم معه لتحقيق الهدف مهما كان، ولن يستطيع أحد محاكمتهم أو فص أظافرهم .
لكن ما الحل وما الحيلة لضبط موازين الثقافة ؟
الحل في تولي قيداات ثقافية واعية تمتلك فن القيادة والإداراة وحب العمل الثقافي لإعطاء كل ذي حقٍ حقه ، تكون مرنة ومتفاهمة، ليست ضعيفة تشعر بالدونية أمام الأدباء أو المثقفين ، أو قياداتها لا تنساف وراء الروتين ، كل ذلك كفيل بتفتيت هذه البطلجة الثقافية التي أصابت هذا الوطن ، ولكن حين يتولي زمام الأمر افراد من نفس الفصيلة أو بتزيكاتٍ منهم علي أن يكونوا مددا لفئاتٍ أخري فهذا ما يزيد الأامر تعقيدأ ، حين نعطي كل فردٍ حقه بامانة ستعود المياه إلي مجاريه .
كيف يمكن للثقافة التحرر من الشللية والعلاقات والمصالح والتنازلات والإعلام الذي يصر على تلميع البعض دون الآخر حتى يكن لها دور إيجابي ومؤثر فى مجتمعاتها؟)
محمد البشري- شاعر وملحن..سوداني
ربما هو سؤال يدور في خلد كل مثقف أو كاتب أو شاعر.. أو لنقل أي كان ممن دخل أروقة الفنون والأدب العربي.
أعتقد في نفسي ولنقل الفنان كصفة أشمل لضروب الأبداع، يواجه في محاولة تقديم أعماله الكثير من العوائق اليوم من نفس ذات المثقفين والمبدعين، وهذا ربما يعود إلى أننا لم نصل الى الأن للخلاص من رجعية الإرث والإنتماء أي كان سياسي أو قبلي أو طائفي وحتي عقائدي وديني، حيث أن هذه العوامل مازلت تحيد المبدعين والمثقفين والأدباء وتضع بينهم خطوطآ متباعدة، وفي قالب يضيق علي المبدع يوماً بعد يوم.
ومازلنا نرى أيضآ عبر المنتديات المتنوعة مجموعات بعينها، وأسماء تتردد في جميع المحافل الثقافية، في تكرار لتجارب لم تستطع في هذه السنوات العجاف أن تعيد للمسرح الأدبي والثقافي جمهوره ومحبيه، بل أصبح الأدب سلعة لا يشتريها إلا الأدباء أنفسهم وبضاعة لا يلتفت لها الجمهور.
لا أعتقد أني كشاعر أكتب للشعراء الأصدقاء.. إن لم تخرج القصيدة والرواية واللوحة لتلفت إنتباه القارئ والإنسان البسيط ، فحقيقة هي تجربة تضم لآلاف التجارب الفاشلة التي كتبت من قبل هؤلاء الشرذمة وأمثالهم.
إن جمهور الأدب والفن الحقيقي ليس ساذجآ.. ولا يخدع ببريق ألوان الكتب المزخرفة، أو العناوين العريضة العارية من الإبداع، الجمهور العربي يولد وفي فمه ثقافة اللغة العربية وبلاغتها وحكمها، وأمثالها وقصصها وبطولاتها، وأدبائها وشعرائها الخالدين من هذه اللغة نفسها.
ليس كل كاتب أو فنان مثقف حقيقي، الثقافة ليست قراءة ألآف الكتب، أوكتابة مئات الروايات والقصص اليومية والشعر، الثقافة هي ثقافة وعي وأسلوب حياة.. يعالج به الفنان مشاكل مجتمعه، ويقدم بكل تجرد نفسه، ويحارب به رؤي الإنكفاء على الذات والإقصاء للرأي الآخر والمختلف، بل يخلق من ذاته فضاء للتنوع والتقبل والسلام.
إننا مصابون بلعنة الإنتماء والتعصب.. وإن لم يخلق المثقفون فيما بينهم ثقافة تقبل الآراء والإختلاف الثقافي بعيدآ عن أي إنتماء آخر أي كان، فلا نحلم أبداً بغد مشرق، وإن كان الملأ الأعظم منا عارعن ذاته، فكيف يلبس المجتمعات ثياب الحب والسلام والتقبل والإخاء.علينا أن ندخل محراب الثقافة للثقافة نفسها.. فهي ليست ميدانا للتنافس والتناحر والإنكفاء، بل مسرحا للفن والإبداع، لنشر قيم وأسس تبني وتصلح وتقود المجتمعات وتعيد الجماهير لمسرح الأدب من جديد.
—
الثقافة بين الشللية والتحرر: نحو دور إيجابي ومؤثر في المجتمعات
بقلم: جمال ݣروݣار- المغرب
منذ عقود طويلة، ظلّت الثقافة العربية، في كثير من وجوهها، رهينة علاقات شللية متشابكة، تتغذى على المجاملات، وتُؤسِّس لمنطق الولاء قبل الكفاءة، والقرابة قبل الجودة. وهو واقع جعل كثيراً من الأصوات الحقيقية تُقصى أو تُهمَّش، بينما يتصدر المشهد من يحسن التفاوض على موائد العلاقات لا موائد الإبداع.
لكن السؤال الجوهري الذي علينا أن نطرحه اليوم هو: كيف يمكن للثقافة أن تتحرر من هذه العلائق المُعطِّلة، وتصبح قوة حقيقية للتغيير الاجتماعي والنهضة الفكرية؟
أولاً: استقلالية المثقف شرط أساسي
كتب المفكر إدوارد سعيد قائلاً: “دور المثقف أن يقول الحقيقة للسلطة”، والحقيقة أن هذا الدور يصبح مستحيلاً حين يكون المثقف نفسه أسير علاقات المصلحة أو التلميع المتبادل. فحين يفقد المثقف حريته، يفقد دوره. الاستقلالية هنا ليست موقفاً أخلاقياً فقط، بل ضرورة وجودية ليبقى الفكر حراً.
ثانياً: الإعلام الثقافي بين المهنية والتواطؤ
يلعب الإعلام الثقافي دوراً حاسماً في تشكيل الذوق العام، لكنه في كثير من السياقات العربية – وربما العالمية أيضاً – يتحول إلى أداة لإعادة إنتاج السلطة الثقافية السائدة، من خلال تسليط الضوء على أسماء بعينها، وتجاهل أخرى. كما يقول جورج أورويل: “الحرية هي الحق في أن تقول للناس ما لا يريدون سماعه”. فهل إعلامنا الثقافي يمارس هذا الحق؟
ثالثاً: التوازن بين المركز والهامش
لا بد من مساءلة الفكرة التقليدية عن المركز الثقافي، تلك التي تجعل من القاهرة أو بيروت أو الرباط وحدها مرجعية لكل ما هو إبداعي، في حين يتم إقصاء الأصوات القادمة من الأقاليم، من القرى، من الشتات. وقد أدرك المفكر الكولومبي أورلاندو فالس بوردَا أهمية ما سماه “السلطة المعرفية للهوامش”، تلك التي تصنع خطاباً نقدياً مغايراً، وأكثر التصاقاً بالواقع.
رابعاً: الثقافة المضادة كخيار مقاوم
الثقافة الحرة هي التي تنبت في الهامش، وتقاوم الابتلاع. وهي لا تحتاج إلى صالات كبرى أو حوارات تلفزيونية، بل إلى حيوية الفكرة وصدق التجربة. ومثلما قال جان بول سارتر: “الأدب هو فعل حرية”، فإن الثقافة برمتها فعل تحرر إن هي رفضت القيود الطوعية.
خامساً: نحو عدالة ثقافية
العدالة الثقافية لا تعني المساواة الشكلية في فرص النشر فقط، بل تعني وجود آليات واضحة للترشيح والتكريم، قائمة على جودة النص لا على عدد العلاقات. إن لحظة التقييم ينبغي أن تكون محايدة ومهنية حتى تستعيد الثقافة ثقة جمهورها ومبدعيها.
خاتمة:
إذا أرادت الثقافة العربية – أو المهاجرة – أن يكون لها دور إيجابي ومؤثر في مجتمعاتها، فعليها أولاً أن تُحرر نفسها من الداخل: من الشللية، من الإعلام المتواطئ، من تحالف المصالح، ومن هوس التموقع. وحينها فقط، يمكنها أن تنير الطريق لا أن تتواطأ مع العتمة.كما قال نيتشه: “نحن لا نرى النور، بل نرى بفضله”. فلنكن نحن النور الذي يُبصر به الآخرون، لا مرآةً تعكس وجه من يملك سلطة الظهور
—
“صوت المثقف الحر في زمن التواطؤ الثقافي”
بقلم الأستاذة الدكتورة وسام علي الخالدي/ العراق
في زمنٍ تتنازع فيه الثقافة بين حقيقتها ورغبة البعض في تدجينها، يطفو على السطح سؤالٌ جوهريّ لا يمكن تجاهله: كيف يمكن للثقافة أن تتحرّر من قيد الشللية، وسطوة العلاقات، ومراوغة المصالح، وتواطؤ الإعلام الذي يلمّع من يشاء ويغيب من يشاء، حتى تعود إلى دورها الجوهري في تشكيل الوعي الجمعي وفتح نوافذ التنوير؟
حين تتحول الثقافة إلى ملعبٍ مغلق لا يدخله إلا من امتلك “تأشيرة العلاقة”، يُقصى المبدع الحقيقي لأنه لا يُجيد الانحناء، وتُرفَع أصوات من يجيدون لعبة المجاملات أكثر من إتقانهم لفنون الكتابة. يصبح النص الأدبي شهادة انتماء، لا مرآة روح، وتغدو المنصّات حفلات علاقات عامة، لا مواسم للإبداع. ويختنق بذلك الأصيل في الزوايا المظلمة، بينما تتصدر الصورة وجوهٌ تتكرر بلا جديد، فقط لأنها محسوبة على هذا الطرف أو ذاك.
أما الإعلام الثقافي، الذي كان يفترض أن يكون شريكًا في كشف الجواهر وتقديمها للمجتمع، فقد وقع في كثير من الأحيان في فخ الانحياز الانتقائي، فراح يُبرز من تباركه الجهات، ويُقصي من لا يدخل في “الدفاتر المُعتمدة”. ولم يعد المعيار جودة النص أو عمق الطرح، بل مدى القدرة على الظهور، ومهارة الالتحاق بقائمة المكرّسين. إننا أمام مشهدٍ يشبه المرايا المشروخة، تعكس بعض الحقيقة وتكسر بقيتها، حتى صار التنوير وهمًا، والتمكين نكتةً مريرة في حضرة التزييف.
ومع كل ذلك، يظلّ المثقف الحقيقي هو ذاك الغريب، المتوحد، الذي لا يكتب ليُصفق له أحد، بل ليشهد، ويصرخ، ويُربك. لا يرتدي أقنعة الرضا، ولا يبدّل قناعاته حسب الطقس العام، بل يقف في قلب العاصفة، حاملاً مصباح الكلمة في وجه الظلام المتواطئ. لا يسعى لحيازة الجوائز، بل لحيازة أثرٍ يبقى حين يغيب التصفيق. هو الذي يكتب من جرح التجربة لا من رصيد المجاملة، ويقف على الضفاف الصعبة للكلمة الصادقة، لا على الأرصفة الملساء للقبول العام.
التحرّر من هذا المشهد المشوّه لا يبدأ من الخارج، بل من الداخل. من إعادة تعريف الثقافة بوصفها فعلًا أخلاقيًا، لا مجرد ممارسة خطابية. من كسر القوالب الجاهزة، وإعادة بناء المنصّات على أساس الكفاءة لا القرب. من إعلامٍ يُنصت للهوامش، لا يمجّد المتكررين. من مؤسساتٍ تحمي صوت الإبداع، لا تستهلكه وتُعيد تدويره.
إننا بحاجة إلى ثقافة لا تُدار بوصايا ولا تكتب تحت الطلب، ثقافة لا تزيّن القبح بل تكشفه، ولا تصنع أصنامًا بل تهدمها. ثقافة لا تستحي أن تقول لا، ولا تخجل من الوقوف وحيدة إذا كان في العزلة معنى للكرامة.
فالكلمة التي لا تُحرّر، لا تستحق أن تُقال. والمثقف الذي لا يربك الركود، هو مجرد موظف في طابور التكرار. والمشهد الذي لا يُفسح للمختلفين، لا يصنع نهضة، بل يعيد تدوير الوهم.
ولذلك، فإن الثقافة التي نريدها، هي تلك التي يقودها الصدق، ويُحرّكها الوعي، ويُنتجها الألم، لا تلك التي تُدار من خلف الكواليس بأصابع المصالح وشروط التواطؤ.
إنها دعوة لفتح النوافذ، لكسر الرتابة، لإطلاق سراح الكلمة من أقفاصها المخملية، وإعادة المعنى إلى مكانه الأصيل. فالثقافة لا يصنعها المصفقون، بل أولئك الذين يدفعون ثمن أن يكونوا مختلفين… في زمنٍ يُكافأ فيه التكرار، وتُعاقب فيه الحقيقة.
…في زمنٍ تُختزل فيه الأصالة في شعارات، وتُصنّف الجرأة على أنها نشاز، يُصبح المثقف الحرّ شاهدًا غريبًا في موطن الكلام. ينظر من بعيدٍ إلى المشهد، لا حسدًا ولا يأسًا، بل شفقة على ثقافةٍ يُراد لها أن تكون زخرفًا للواجهة لا جذورًا في الوجدان.
وهنا تتأكد الحقيقة المُرّة: لا خلاص للثقافة من هذه الأغلال إلا بتكاتف أولئك الذين ما زالوا يكتبون من شرف الكلمة، لا من فتات التواطؤ؛ أولئك الذين يختارون عتمة الصدق على أضواء التزييف، ويؤمنون بأن دورهم لا يكتمل إلا حين يهزون الثابت، ويقلقون الساكن، ويفتحون جراح الأسئلة على اتساعها.
إن تحرير الثقافة لا يكون بقرارٍ فوقي، ولا ببيانٍ يُذاع، بل بكتابةٍ تجرؤ، وبإعلامٍ يختار أن يرى بعين النقد لا بعين الرضا، وبجمهورٍ يتخلّى عن التلقي الكسول، ليمارس دوره في الفرز، والمساءلة، والمشاركة. حينئذٍ فقط، نستطيع أن نُعيد للثقافة معناها، ونمنحها القدرة على التأثير، والتغيير، والتطهير.
فالرهان ليس على المهرجانات، ولا على الصور الباذخة، بل على النصوص التي تنحت الوعي في الصخر، وعلى المثقفين الذين لا يسيرون في طابور المجاملات، بل يفتحون دروبًا للمعنى وسط غابة التواطؤ.
هؤلاء وحدهم من يمكنهم أن يُعيدوا للثقافة نُبلها، وأن يُحرّروها من أسر القوالب والشلل. فكما قال محمود درويش: “على هذه الأرض ما يستحق الحياة، على هذه الكلمة ما يستحق أن تُقال.” فلنقلها إذن… بجرأة المحبة، لا بسلاح الضغينة، ولنجعل من الثقافة فعلَ حياة، لا واجهة مزينة لموتٍ بطيء.
كيف يمكن للثقافة التحرر من الشللية والعلاقات والمصالح , التنازلات والاعلام الذي يصر على تلميع البعض دون الآخر حتى يكن لها دور ايجابي ومؤثر في مجتمعاتنا ؟…
بشرى أبو شرار- كاتبة رواية وقصة قصيرة
هو سؤال تسكنه الغرائبية , يعيدنا إلى واقع تسلل إلى حياتنا دون أن ندري , البعض تقبل هذا الواقع وتعايش معه , والآخر صار يعيش في عالم ينتمي اليه في غربة واغتراب , يحاول أن يجد له موطىء قدم من خلال ممراته وسراديبه وطقوس حياة تتجلى فيها غربته واغترابه , حين دخلنا عالم الثقافة والابداع نبحث فيه عن عالم حر وحر , الكلمة هي الحرية , الفكرة تكسر القيد , الفكرة ألف ألف حياة , هو عالم الثقافة والابداع الذي كسر كل قيد ومحى حدود الجغرافيا , صرنا هنا وهناك نحلق في فضاء وقت نرنو اليه لتكتمل مواقيتنا على نور حروف نعشق أبجديتها , حين أطل علينا أستاذنا ” نجيب محفوظ ” كان النجم الساطع الذي لن يخبو بريقه في قلوبنا , عقولنا وأرواحنا .
الثقافة ولدت حرة لتعيش في عالم حر , جميع التداعيات التي تحيط بنا لن تضعفنا ولن تكسر ذواتنا وقوتنتا التي اتقدت من عالم تشكلنا منه فصار منا ونحن منه , لن نعترف ولن نقر بكل هذه الترديات والتي تحمل عناوينها دلالات الضعف وعدم البقاء , كل هذه المفردات ستؤول الى زوال ولن يبقى ولن يدوم إلا الأدب الذي هو من روح الأسطورة والجمال والابداع .
شاعرنا المتفرد ” أمل دنقل ” لم لم تحابه تلك الشللية , هو ظل باق بحروف كلماته الخالدة فينا من روح قصائدة .
” يوسف ادريس ” أمير القصة القصيرة , أي شللية هي التي فتحت له طريق الابداع .
كل هذه التداعيات كانت موجودة في كل الأزمنة , لكن يجب أن يسكننا يقين ثابت أن الذي يبقى فينا هو بداع حقيقي لن تطاله تنازلات ونهج اعلامي موجه ومصالح متبادلة , كل هذا لا ولن يؤثر على مبدع حقيقي عرف طريقه إلى آخر حدود المدى , نحن ولدنا أحرار وسنبقى نحيا في عالم حر وحر رغم كل الآفات والتداعيات باقون على ثوابتنا , باقون على دربنا ولن نحيد .
كيف يمكن للثقافة التحرر من الشللية والعلاقات والمصالح ؟
زكية علال- كاتبة وإعلامية جزايرية
لقد وضعت يدك على موضع الداء ، ونكأت جرحا ينخر جسد الثقافة في أغلب الدول العربية ، فكم من شاعر فذّ انطفأ بريقه ، وكم من كاتب انكمش على نفسه حتى توارى عن الأعين ولم يعد يسمع به أحد بسبب العلاقات التي تتحكم في رسم المشهد الثقافي وتزكّي من يحضر إلى التظاهرات والملتقيات الأدبية ، ومن يُغيّب عنها لأنه لا مصلحة تُرجى من ورائه ولا علاقة له بالدوائر السياسية ، فأغلب النشاطات تحكمها شلة تكون هي الآمرة الناهية وتعطي لنفسها الحق في تزكية هذا وإبعاد ذاك .. حتى الشللية كان يمكن أن تكون إيجابية إذا كانت تضم كفاءات منفتحة على الآخر وتؤمن بالانفتاح ولا تلغي الرأي المخالف لها ، بل تجده مكمّلا ، لكن ـ بكل أسف ـ نجد الشللية الموجودة عندنا سلبية ، إذ أنها تفتقر للكفاءات وترى الثقافة تبدأ وتنتهي عندها .. الشللية عندنا تقوم على أساس أنك معي والآخر ضدي ، وأنه لا يمكن أن نكون أنا وأنت على قيد النجاح ، لابد أن ينطفئ أحدنا . وهناك جملة أقولها دائما : ” لن تكون بحاجة لأن تقتل الآخر لكي تعيش ، العالم يتّسع لك وله ” لكن الثقافة عندنا تقوم عل رفض الآخر وعدم قبول رأيه ، فتسعى الشللية إلى كتم صوته بتجاهله .
المشهد الثقافي أصبحت تحكمه المصالح والعلاقات ، فهذا صديقي ، وذاك قريبي ، والآخر لي عنده مصلحة وفلان دعاني إلى الملتقى الذي نظمه العام الماضي وعليّ أن أرد له الدعوة ، فنجد في ملتقى شعري من لا علاقة له بالشعر ، وفي ملتقى للسرد من لم يكتب يوما قصة أو رواية ، بل قد نجد من لا علاقة له بالأدب شعرا ونثرا .. وهكذا أصبحت الملتقيات تقوم على تقزيم الثقافة وتسطيحها وحصرها في أسماء مكرسة طيلة عقود من الزمن ، وقد وقفت بنفسي خلال مسيرتي الأدبية على حرقة أكلت الكثير من الأقلام الجادة ، فانطفأت وكان يمكن أن يكون لها مستقبل مشرّف .. الإعلام أيضا لعب دوره في تقييد الثقافة ومنعها من التحليق بعيدا .. الإعلام لا يغوص في عمق المدن الداخلية ولا يصنع نجما ، بل يشتغل على النجم الجاهز المُكرس في الساحة ، قبل هذا كانت الملاحق الأدبية في الجرائد تصنع أسماء ونجوما لأنه يشرف عليها أدباء ومثقفون يملكون من النزاهة والمسؤولية ما يجعلهم ينحازون إلى النص الجيد الذي تتوفر فيه شروط الإبداع .
النخبة أيضا كانت تجمع ، لكن الآن ركبها التعالي والتكبّر والغرور ، وأصبحت تقوم على العلاقات والمصالح والشللية السلبية التي لا تسمع إلاّ صوتها ولا ترى غير صورتها .
ونأتي الآن إلى السؤال الجوهري : كيف تتحرر الثقافة من هذه الشللية والعلاقات والمصالح ؟ لكي نجيب على هذا السؤال لا بد أن نعرف معنى الثقافة ، ليس بمفهومها الأكاديمي ، بل بالمفهوم الذي يحرر العقل والفكر من رفض الآخر واعتباره عدوا مادام مخالفا لك في الرأي .. الثقافة ليست منصبا ولا جاها ولا مهنة .. الثقافة أوسع وأعمق من الشهادات والمراتب والمراكز والكراسي .. الثقافة هي موقف .. هي ضمير المجتمع وصوته وقلبه النابض بالحياة والفكر ، حتى في التعريف المعجمي للثقافة في لسان العرب والقاموس المحيط يقول أن المثقف هو الذي يصير حذقا فطنا ، وأكيد هذه الفطنة تجعله يفرق بين الغث والسمين ويُغلّب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة ..
عندما نعرف المعنى الحقيقي للثقافة والنخبوية ستختفي الكثير من المظاهر السلبية التي تحكم المشهد الثقافي
===========
العلاقات الشّخصيّة تكبل تحرر الثقافة العربية:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
“الشيللية” عكرت صفو مفهوم الثقافة، وأفسدته، وجعلت المشهد مكبلا بالولاءات والمجاملات..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإحتكار والتدجين لا يصنعان غير الإنكسار وصناعة النخب الزائفة ..
علي الخميلي: كاتب وروائي تونسي
كلنا ندرك أن الثقافة الحقيقية ليست مهنة، ولا وجاهة ولا بضاعة، بقدر ما هي موقف، ووعي ورسالة إنسانية، لا تنفصل عن المجتمع، بل تؤثر فيه ايجابا، وبشكل فاعل، سيما وأن المثقف هو ضمير هذا المجتمع، كما عرّف به السابقون من الفلاسفة والحكماء، غير أن السلوك الذي عرفه المشهد الثقافي العربي خلال السنوات الأخيرة، عكر صفو هذا المفهوم، وأفسده، وجعل الثقافة العربية مكبلة بما تسمى، ب”الشيللية”، أو العلاقات الشخصية الضيقة والمصالح الذاتية المشتركة، ومجاملات وانحيازات وتحاملات الإعلام، والتي كلها لا تروّج إلا لتلميع البعض على حساب الآخر، وبسببها تبقى عاجزة على تحقيق دورها، وغير قادرة على الخروج من عنق زجاجة هذا المكبل، كما تشوه الثقافة، ولا تبرز فيها غير ما هو خاضع لإرادة “لوبيات” التهميش والمحسوبية والولاء لمن تحالف معها وانصهر في منظومة الإحتكار لتلك “الشللية” التي تهيمن بكل حيف على المشهد الثقافي، وتسيطر على الإعلام الثقافي والمنابر والأصبوحات والأمسيات والتكريمات الثقافية وإسناد الجوائز، والتي في الأصل هي لا تصنع من خلال ذاك السلوك الشاذ، إلا الظلم والتدجين، والهيمنة الجلية للنخب الزائفة، ولا تسيء إلا للثقافة وللمثقفين، كما للعالم العربي الذي بدأ يفقد حضوره في المحافل الثقافية الدولية. وأعتقد في ظل هذا الواقع الذي نعيشه ونعايشه، أن الثقافة لن تلعب دورها الإيجابي، والمؤثر، في المجتمع العربي، كما في كل المجتمعات الأخرى، إلا باستعادة الوظيفة النقدية المتحررة التي لا تنبني على الولاء ولا على التهميش والمحسوبية والإقصاء، ولا على الإحتكار، وبالتالي لابد من التحرر من “الشللية” أو اللوبيات، وتجاوز الأمر بالحياد والموضوعية والشفافية، والنقد العميق والدقيق، إذا أردنا فعلا ثقافة حقيقية وفاعلة، ثقافة تعززالوعي الفردي والجماعي، وتعبر عن واقع مجتمعنا العربي بكل أطيافه وشرائحه وألوانه، وتنوعه، وبالتالي لابد من الإنتباه إلى التغيّرات والانعطافات الحادّة والخطيرة والتي تبدو ممنهجة وتستهدف الثقافة العربية.
المحاباة والمجاملات آفة كل العصور
بقلم د. أمل درويش
منذ العصر الجاهلي كانت حلقات الشِعر المتنفس والوسيلة المتاحة للترفيه عند أهل الجزيرة العربية، حيث يجتمع الشعراء ويلقون قصائدهم؛ فيبزغ من كل قبيلة شاعر يقابله شاعر من القبيلة الأخرى، وتشتد المنافسة بين تهليل وتشجيع كل قبيلة لشاعرها، وتطورت هذه الجلسات لتأخذ طابعا آخر يميل الى المداهنة في حضرة الملوك والأمراء، ليتبارى الشعراء في إلقاء قصائد المدح في مآثر الخليفة وقدح أعدائه وهجائهم؛ فينالوا الرضا ويضحوا في صحبة الخليفة ورعايته يتقلدون المناصب العليا بالإضافة الى المكانة والنفوذ، وقد أطلق عليهم شعراء البلاط، ومنهم النابغة الذبياني وغيره من شعراء هذه الفترة.
ثم تسللت هذه الأساليب الى شعراء العصر الحديث؛ فنجد أمير الشعراء أحمد شوقي شاعر الملوك الذي كتب الكثير من القصائد في مدح الخديوي إسماعيل، والملك فاروق.
وظهرت الصالونات الثقافية على يد كبار الكتاب والصحفيين؛ فاشتهر صالون مي زيادة والعقاد وغيرهم، في فترة كانت الأزهى بكتابها وشعرائها.
ومع مرور الوقت عاد مؤشر الازدهار في التراجع، وزادت أعداد الدخلاء ومحدودي المواهب، ولكن مع تداخل المصالح استطاعت أن ترجح كفة الميزان لصالح هؤلاء على حساب المواهب الحقيقية.
ولا يمكن أن نترك أنفسنا ضحية الدهشة لوقت طويل؛ فللوهلة الأولى يمكننا أن نتفهم لغة العصر الحالي التي تعتمد على الماديات والمصالح المتبادلة والتي أصابت المشهد الثقافي في مقتل؛ بل والحالة الفنية بشكل أسوأ؛ فنجد تصدر الإسفاف والابتذال بالإضافة الى الإصرار على إرغام الجمهور على تلقي هذه الأعمال من خلال النشر المتكرر لتصبح مألوفة ومعتادة ويُقال أن ذلك بناء على رغبة الجمهور وذائقتهم.
وللأسف كل ذلك يتم من خلال مجموعات ودوائر مغلقة على أعداد محدودة متداخلة المصالح، تتجاهل المواهب الحقيقية وتصدر للمشهد التوافه والقادرين على تقديم المزيد من التنازلات.
ولكي نتخلص من هذه الآفة يجب وضع خطط متعددة الاتجاهات تتكاتف فيها جهود القائمين على الإعلام لتطبيق منظومة جديدة تستبعد وتزيح كل ما هو دون المستوى وتعمل على تقديم أعمال هادفة لرفع الوعى والثقافة لدى الجماهير. بالإضافة الى إعداد برامج للكشف عن الموهوبين بمصداقية وشفافية ودون تحيز أو محاباة عن طريق لجان تحكيم مكونة من قامات أدبية وفنية متخصصة. ليس في مجال الثقافة فقط وإنما في كل المجالات.. هذا الأمر طبيعي في الوضع العربي، والحقيقة هذا في كل دول العالم..لأن وسائل الإعلام هي لمالكيها وتجسد مصالحهم.
الثقافة بين الواقع والمأمول : صمت النخبة وضجيج الصورة
د. نجلاء نصير
في لحظات التحول الاجتماعي والسياسي، يُفترض أن تتقدّم الثقافة لتكون في الطليعة، وأن يعلو صوت المفكرين والكُتّاب بوصفهم ضمير الأمة ومرآة وعيها الجمعي. لكنّ المشهد الثقافي العربي، للأسف، يُظهر صورة مختلفة: تراجعٌ للمثقف الحقيقي، وارتفاع لأصوات التسويق على حساب الفكر، وسط فضاء يزداد لمعانه ويقلّ عمقه.
كثيرٌ من المثقفين آثروا التراجع، إما بفعل التهميش المقصود، أو بسبب الإحباط الذي تُغذّيه قوى الإقصاء، أو لأنهم انجرفوا في دوائر نفعية تروّج للولاء وتقصي الاستقلال. وبهذا التراجع، فُتحت الساحة لنجوم العلاقات العامة، لا لأصحاب القضايا؛ للذين يُتقنون التصفيق، لا أولئك الذين يُتقنون التفكير.
وما بين الشللية الثقافية، والدوائر المغلقة، والخطاب الإعلامي المنحاز، باتت الثقافة مفرّغة من مضمونها، محتجزة في صور براقة لا تلامس الإنسان العربي ولا تنقله نحو وعي أعمق.
وقد لا يكون هذا التدهور في قيمة المثقف ظاهرة عابرة؛ بل هو انعكاس لفقدان نماذج مضيئة لطالما كانت تنير المشهد، مثل عباس محمود العقاد، الذي لم يكن مفكرًا موسوعيًا فحسب، بل كان مثالاً للمثقف المقاوم الذي رفض الاستسلام للجهل والسطحية. وكان طه حسين، عميد الأدب العربي، رمزًا للجدل الخلّاق، والتنوير الواعي، والتحدي الفكري في وجه الظلاميات، وكان لصوته تأثير يتجاوز الأدب إلى الاجتماع والسياسة والتعليم.
أما مالك بن نبي، فكان ممن أعاد تعريف علاقة الثقافة بالتنمية والحضارة، داعيًا إلى تحرير العقول لا فقط تجميل الأقوال. وفي لبنان، كان ميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران أصواتًا تجاوزت الجغرافيا لتطرح أسئلة الإنسان الوجودية في أفق شعري وفلسفي وإنساني رفيع.
إن الإعلام اليوم، في المقابل، يرفع من يملك النفوذ لا من يملك القيمة الفكرية، ويعيد تقديم “مثقف الواجهة”، لا “مثقف الرسالة”.
ومن هنا، نشهد إحباطًا واسع النطاق، وتحولًا للمثقف إلى مجرد صدى معزول وسط ضجيج الحشود، واختزالًا لدوره في إنتاج جُمل متأنقة لا تُحدث أثرًا. وأمام هذا الفراغ، تُهيمن مظاهر الترفيه الثقافي، وتغيب الأسئلة الجوهرية التي من شأنها أن تحرك الفكر وتعيد صياغة الأولويات.
وغياب القدوة الثقافية بين الأجيال الجديدة، حوّل الساحة الثقافية إلى أرضٍ مهيأة للتجريف، يسودها سطح الخطاب وتكرار القوالب، بدلاً من عمق الفكرة وتنوّع الرؤية. وكأنّ الحقل الثقافي بات يُدار بعقلية السوق، لا بروح الفكر.
ويزيد الطين بلة أن الدراما والإعلام يصوران المثقف على هيئة كاريكاتورية: رجل يلوك المصطلحات الغامضة، يعلو صوته بالنقد لكنه عاجز عن الفعل. وهذا يُنتج جيلاً ينظر إلى الثقافة كمظهر لا كموقف.
إننا لا نطالب باستعادة شكلٍ لمثقف قديم، بل باستعادة جوهر المثقف المستقل الحرّ، الذي يرى في الثقافة ضرورة وجودية، لا ترفًا نخبويًا.
فحين يتنحّى المثقف، لا تتوقف الثقافة، لكنها تفقد اتجاهها. وحين يصمت الصوت الحرّ، يعلو صدى التكرار.
إننا بحاجة اليوم إلى مثقف يُعيد الاعتبار للعقل، يعيد وصل الأدب بالوجدان، والفكر بالإنسان، والموقف بالواقع. مثقف لا يسكن في العزلة، ولا ينتمي للضجيج، بل يُضيء بكلمته طريقًا نحو وعيٍ أعمق… ومجتمعٍ أرقى.
“فالشعب الذي يتسلّح بالوعي والثقافة، هو الشعب القادر على حماية وطنه من التطرف، وحراسة هويته من التآكل، وبناء مستقبله على أسس التنوير لا أوهام الظلام.”