
من المؤكد أن دور النشر تمثل الركن الأكبر بالحياة الثقافية، لأنها هى أساس الوساطة بين الكاتب والقارئ، هى من تقوم بنشر الأعمال الإبداعية والفكرية والفنية على تنوع أجناسها المختلفة، ومن هنا يلقى على عاتقها مسئولية تقديم منتج من الثقافة جيد من خلال دعم كتاب حقيقين يكتبون من أجل إثراء الحياة الثقافية وتصويب خطواتها، وسؤالنا هنا عن دور النشر ودورها فى دعم الكاتب وما لها وما عليها، طرحنا هذا التساؤل على العديد من الكتاب والكاتبات العرب والمصريين لنصل إلى إجابة عن هذا التساؤل.
—
دور النشر العربية: ما لها وما عليها ودورها في دعم الكاتب
د. نجلاء نصير : دكتوراه تخصص الفلسفة في الدراسات الأدبية والنقدية من جامعة الإسكندرية..
تمثّل دور النشر أحد الأعمدة الأساسية في البنية التحتية الثقافية لأي مجتمع، إذ تلعب دور الوسيط بين الكاتب والقارئ، وتسهم في تكوين الذائقة الأدبية، وتشكيل الوعي العام. غير أن دور النشر العربية، على اختلاف مستوياتها، تعيش إشكالات مركبة تتراوح بين ضعف المهنية، وتغليب الجانب الربحي، وبين الحاجة الملحّة إلى التطوير المؤسسي والفكري. في هذا المقال، نناقش موقع دور النشر بين الدعم والتسليع، ونحلل مسؤولياتها، وإخفاقاتها، وفرص تجديد دورها الثقافي.
أولًا: ما لها – الوظائف الثقافية لدور النشر
1.رعاية الكتابة الجادة: تقوم بعض دور النشر ذات التوجه النوعي باحتضان النصوص الأدبية والفكرية التي تمتاز بالعمق والتجريب، ما يُسهم في تنمية الإبداع.
2.الوصول إلى القارئ: عبر التوزيع والطباعة والترويج، تتيح دور النشر للكتاب الانتشار عربياً ودولياً.
3.التحرير والتطوير: تلعب دورًا في مراجعة النصوص، وتصحيحها وتجويدها لغويًا وفنيًا.
4.حماية الحقوق: تضمن حقوق المؤلف الفكرية والمالية عبر العقود الرسمية ومتابعة القرصنة.
5.المشاركة في المعارض الدولية: مما يمنح الكاتب فرصًا للعرض الخارجي والترجمة والتسويق الثقافي العابر للحدود.
ثانيًا: ما عليها – مآخذ جوهرية على أداء كثير من دور النشر العربية
1.النشر على حساب المؤلف: تنتشر ظاهرة مطالبة الكتّاب بتحمل نفقات النشر كاملة، ما يحوّل العلاقة إلى علاقة تجارية محضة.
2.غياب التحرير الاحترافي: في بعض الدور، يتم طباعة النصوص كما هي دون تحرير أو مراجعة نقدية.
3.ضعف التوزيع: العديد من الكتب لا تجد طريقها إلى القارئ بسبب سوء التوزيع المحلي والدولي.
4.تهميش الكتّاب المبتدئين: تعزف دور كثيرة عن المخاطرة بأسماء جديدة لصالح الأسماء المعروفة.
5.النشر العشوائي دون معايير: ما يؤدي إلى تراكم نصوص ضعيفة فنياً ويشوّه المشهد الأدبي العام.
ثالثًا: بين الدعم والتسليع – معضلة التوازن تواجه دور النشر معضلة حقيقية في التوازن بين الالتزام الثقافي من جهة، ومتطلبات السوق من جهة أخرى. فالنشر الجاد يتطلب استثمارًا طويل الأمد في كاتب قد لا يكون مشهورًا بعد، بينما تفضّل كثير من الدور البحث عن الربح السريع من خلال نشر كتب شعبية أو سطحية. هذا التوجه يُضعف القيمة الرمزية لدور النشر، ويحوّلها إلى مجرد مطابع.
رابعًا: دورها في دعم الكاتب – الممكن والمأمول
1.برامج رعاية المواهب الشابة: من خلال مسابقات، ورش عمل، أو سلاسل متخصصة للنشر الأول.
2.دعم الكتاب في الترويج الذاتي: بتوفير أدوات تسويقية حديثة تتكامل مع الإعلام الرقمي.
3.مساعدته على النشر بلغات أخرى: بتوفير خدمات الترجمة أو الشراكة مع دور نشر أجنبية.
4.بناء علاقة شفافة: تقوم على عقود واضحة ومهنية تحفظ حقوق الطرفين.
5.تحفيز النقد المرافق: عبر إصدار كتب نقدية مرافقة أو تنظيم ندوات نقاشية حول الأعمال المنشورة.
خامسًا: نحو إصلاح المشهد – التوصيات
•دور اتحاد الناشرين العرب: تقع على عاتق الاتحاد مسؤولية محورية في مراقبة أداء دور النشر، والتصدي للكيانات الوهمية التي تستغل الكتّاب المبتدئين بنشر عقود غير عادلة، أو تقديم خدمات نشر صورية لا تحقق أي فائدة ثقافية. ويجب أن يُفعّل الاتحاد آليات واضحة لتصنيف دور النشر، ونشر قائمة سوداء بالدور غير المرخّصة أو التي تسيء إلى مهنة النشر، بالإضافة إلى تبنّي منصة رسمية لتلقي شكاوى الكتّاب، والبتّ فيها بمهنية وشفافية.
•تشجيع الاستثمار الثقافي: من خلال دعم الدولة والمؤسسات الخاصة لدور النشر الجادة.
•إصدار دليل تصنيفي لدور النشر: يصنفها وفق التخصص، الجودة، ومصداقية التعامل.
•تعزيز الشفافية: في العلاقة بين الناشر والكاتب من حيث العقود، نسب الأرباح، وتقرير المبيعات.
ومجمل القول إنَّ: دور النشر ليست مجرد مؤسسات طباعة، بل هي مؤسسات ثقافية تُسهم في بناء الوعي العام وصناعة رموز الفكر والأدب. وبين ما لها وما عليها، تقف أمام مسؤولية تاريخية لإعادة صياغة علاقتها بالكاتب، من شريك هامشي إلى طرف أصيل في مشروع ثقافي متكامل. فقط حين تُؤسس العلاقة بين الطرفين على الاحتراف، والثقة، والاحترام المتبادل، يمكن للكتاب العربي أن ينهض من جديد
—
الابداع بين انفلات الوسائط والميديا ومسؤولية دور النشر
أحمد الشيخاوي: شاعر وناقد من المغرب
لعلّ أولّ ما يصدم المهتم بحقل النشر الإبداعي والأدبي في عالمنا العربي، هو الاختلاف والتمايز في الأهداف والسياسات والخصوصيات والإمكانيات، ما بين الدور الممثلة لهذا الغرض، غرض نشر المنتوج الإبداعي وتسويقه والترويج له، لذا سيقتصر حديثنا على الدور الأكثر مصداقية والأطيب سمعة والأقل اهتماما بالربحية، كون الدور الجشعة كثيرة جدا، علما أن المردود المادي يظل حقّا مشروعا ولكن في حدود معقولة ومعينة.
لعله وقبل الثورة الرقمية وهيمنة الميديا، كان التغوّل لدور النشر، في بسط السلطة واحتواء المبدع، بل والقضاء على أحلامه في كثير من الأحيان، فهو آنذاك ظل متوقفا على خدماتها في تسويق منتجه، وبدون منازع، عكس الظرف الراهن الذي يتيح للمؤلف البدائل ويسهل عليه نشر ما يبدع، بضغطة زر.
ولو أن هذا ليس معيارا ولا محكّا حقيقيا، لما قد يقدمه هذا المؤلف، إذ الملفت، زخم التفاهة والغوغاء التي طغت على المشهدية، وقد عزّزها واقع استحواذ التقنية والميديا، تماما مثلما أسلفنا.
فالأجدر مرور الأعمال الأدبية عبر، غربال النزاهة والموضوعية والحياد الذي هو بيد دور النشر العربية العريقة والعتيدة والمسؤولة، احتراما للذائقة والوعي، والتزاما بوازع بناء الإنسان والأجيال.
فهذه الدور الوازنة، فضلا عن أنها تروّج للمنتوج وتعرف بالمؤلف على نطاق واسع، نلفي تؤدي دورا تاريخيا وثقافيا وحضاريا موازيا، يُحسب لها وينأى بها عن دائرة الاتهام التي تسقط فيها الكثير من دور النشر المنطبق عليها المذكور في كلمتنا من مناقب وسلبيات وعيوب.
أقول هذا انطلاقا من تجربتي الشخصية المتواضعة، كمؤلف صدرت لي الكثير من الأعمال الشعرية والنقدية، برعاية ودعم جملة من دور النشر العربية التي تحترم هويتها، وتهمّها السمعة، قبل الجوانب الربحية، وقبل أن تنشغل بهواجس الارتقاء بالذائقة والوعي العربيين، ثم بصفتي ناشرا عاش تجربة ممتعة وفتية وسخية ومقبولة إلى حدّ ما، على قصر عمرها، بالطبع.
ختما، تلعب دور النشر التي تحكمها المواصفات المعيارية والنوعية، دورا هاما في تسويق المنتوج الإبداعي، والتعريف بصاحبه على نحو نزيه ومسؤول، مراعيا لاشتراطات المرحلة ، كما مستوعبا لتحدياتها الصارخة
—-
دور النشر ودورها في دعم الكاتب
محمد جراح: كاتب وإعلامي
ربما كانت دور النشر فيما مضى أكثر تعاطفاً مع الكتاب والمبدعين، وإن كان ها لا ينفي استمرار بعض الدور في الاضطلاع بمسئوليتها في التعاون الرشيد مع كتابها في حدود إمكانياتها.حتى الآن.
وقد كانت الفترة التي أعقبت ثورة يوليو من عام 1952م هي فترة ازدهار وإشراق على المشهد الثقافي كله، لما أطلقت الدولة مشروعها الطموح في العناية بالكُتَّاب، وبصناعة النشر فأنشات المجلس الوطني لرعاية الفنون والآداب، والدارالمصرية للتأليف والترجمة والنشر التي صارت فيما بعد تحمل اسم الهيئة المصرية العامة للكتاب، ثم أنشأت الهيئة العامة لقصور الثقافة، ودار الشعب، إضافة إلى ما كان قائماً من الدور التي تتبع الحكومة أيضاً مثل دار الهلال ودار المعارف؛ فأصبح هناك الكثير من دور النشر سواء الحكومية أو الخاصة التي تتسابق كلها لجذب الكتاب عموماً؛ والمبدعين تحديداً لنشر ابداعاتهم، بل ولم تكن تتأخر عن تحفيزهم ورصد المكافآت المالية المناسبة لهم.
وعلى سبيل المثال اضطلعت الهيئة المصرية العامة للكتاب بمسئوليات النشر الشامل إذ استمرت في نشر روائع التراث والتراجمن ونشر ابداعات الكتاب والمفكرين الكبار، ولم تنس دورها في رعاية الموهوبين من الكتاب الجدد، فأتاحت لهم النشر من خلال سلاسل خاصة بهم مثل سلسلة “إشراقات أدبية”، و”كتابات جديدة” فضلاً عن النشر العام فيمختلف المجالات.
ومثل هيئة الكتاب كانت الهيئة العامة لقصور الثقافة التي أتاحت النشر سواء المركزي أو من خلال الأقاليم الثقافية؛ أو ما يعرف بالنشر الإقليمي، واستطاعت الهيئة من خلال ذلك أن تحدث أثراً، وأن تأخذ بايدي الكثيرين من المبدعين الذين تأخر نشر إنتاجهم الإبداعي نتيجة عوامل كثيرة منها: ما يفوق استطاعة المؤلف وأقصد بذلك تكلفة النشر الذي لجات إليه دور النشر الخاصة التي أتاحت للراغبين في مرحلة لاحقة نشر كتبهم بشرط المساهمة في دفع تكاليف نشرها مع الدار أو اضطلاع الكاتب بالتكاليف كلها حتى تطبع له الكتاب .
وإلى جانب ما ذكرنا كانت الدور الصحفية الأشهر في مجال الصحافة تساهم هي الأخرى في صناعة النشر ومنها دار التحرير، ودار أخبار اليوم، والأهرام، وغن كانت خططها لم تكن لتهتم بالكتاب الجدد.
وقد تأثرت صناعة النشر بالعوامل الاقتصادية التي بدأت تضرب المجتمع اعتباراً من منتصف السبعينيات، وأصبح إنتاج دور النشر الحكومية، وشبه الحكومية محكوماً بالميزانية المتاحة؛ فتأجل نشر ابداعات الكثيرين من المبدعين حتى وصل الحال ببعض تلك الدور عن التوقف عن استقبال ابداعات الشباب، وإزاء هذه المشكلة بحث الجميع عن مخرج فكانت فكرة الطباعة بالماستر بكل سوءاتها سواء في إخراجها أو محدودية إنتشارها إلى ان تقدمت دور نشر خاصة جديدة لتتصدر المشهد؛ وتتيح النشر لمن يرغب سواء أكان من الشباب والكتاب الجدد أو من غيرهم وذلك نظير مقابل مادي تم تهذيبه من جانب البعض فعرف بمصطلح المشاركة في تكاليف الطبع والتوزيع مقابل نسبة من الأرباح متى تحققت!
وعلى الرغم من كل تلك المعوقات برزت اعتباراً من التسعينيات مجموعة جديدة من دور النشر الخاصة استطاعت بما قدمته من حلول مبتكرة من تحريك موضوع النشر، وإن اعتمدت هي الأخرى في كثير من الأحيان على مساهمات الكتاب في تكاليف النشر، وقد أقبل كثيرون على النشر من خلال تلك الدور أملاً في الوصول إلى المتلقي، وإلى الجهات المانحة للجوائز التي بدات تتكاثر خصوصاً في المحيط العربي الخليجي الذي أتاح مجموعة من الجوائز الكبيرة التي أغرت كلاًمن الكتاب والناشرين على المحاولة لحصد جائزة من هنا أو هناك. وما تزال طريقة النشر هذه قائمة، وهي وإن كانت قد قدمت إلى الساخة الإبداعية مجموعة من الأسماء الجديدة إلا أنها ساهمت بشكل أو بآخر في نشر أدب ضعيف لهواة لم يتمكنوا من أدواتهم، وهذا لا ينفي وجود دور من تلك الدور لديها لجان للقراءة، ولا تنشر ولا تضع اسمها إلا على ما يستحق النشر.
والملاحظ في الآونة الأخيرة لعملية النشر يجد أن الدولة قد عادت بمقدار للاهتمام بهن ولكن طوابير الانتظار الطويلة، وأحياناً التدخل الرقابي من جانب مؤسسة النشر، وكذا رداءة الطباعة من حيث الأحبار والأوراق والإخراج بشكل عام يجعل البعض يحجم عن النشر من خلال تلك الدور الحكومية خصوصاً أولئك الذين أصبح لهم تواجد في المشهد الإبداعي.
وخلاصة القول إن صناعة النشر في مصر تحديداً تعاني خللاً سواء من جانب دور النشر الحكومية وتعنتها وطوابير الانتظار الطويلة التي قد تمتد إلى سنوات حتى يخرج لعمل إلى النور مما يحد من الابداع، ويعطل تقديم الموهوبين من غير المقتدرين مالياً، أو من جانب الدور الخاصة التي تعمل وفق مبداً الربح، ومن ثم تُلزم من يرغب النشر من خلالها على التكفل بمصاريف كتابه.
وقد شهدت الساحة مؤخراً وجود مجموعة من دور النشر الخاصة التي تهتم بكتابها وتقوم بالترويج لهم سواء من خلال المعارض أو تنظيم الندوات والحلقات النقاشية وحفلات التوقيع إلى المشاركة في الجوائز، وهي هنا تقوم بدور الوكيل الأدبي عن المؤلف، ولكن مثل تلك الدور قليلة، وتكاد تكون منغلقة على كتاب بعينهم ولا يدخل بينهم جديد إلا بصعوبة بالغة،
وفي الختام نستطيع القول إن النشر في مصر أصابه ما أصاب كثير من مناحي الحياة نتيجة للظروف الاقتصادية وقد انعكس ذلك بوضوح على الساحة الثقافية التي ضرب الوهن في كل أركانها، فلا الدور الحكومية استطاعت أن تقدم الرعاية اللازمة للكتاب، ولا الدور الخاصة رأفت بهم، وأصبح الكاتب في مصر بين مطرقة الدور الحكومية وسندان الدور الخاصة حتى كاد أن يطحن طحناً.
—
عن دعم دور النشر للكتاب
برهان شاوي: كاتب وراوئي عراقي
لدي تجربة سيئة جدا مع دور الشر جميعها، سواء العراقية أو العربية. فهم يهضمون حقوق الكاتب بل يسرقونها علانية وبكل وقاحة وكذب مفضوح، ولا أريد أن أذكر أسماء دور النشر كي لا يُعد ذلك تشهيرا بها.
وبرغم وجود عقد بين الكاتب ودار النشر إلا أنهم في الحساب السنوي بتلاعبون بالأرقام. وكلما تسألهم يثولون الكتب لا تباع وهناك كساد وقلة القراءة على المستوى العربي، بينما بعض الأصدقاء من أصحاب دور النشر من المشاركين في معارض الكتب يؤكدون بأن العديد من زوار المعرض كانوا يسألون عن رواياتي!!
لم أجد دار تحترم الكاتب وأعماله وتهتم بها ، بالنسبة لي، سوى منشورات (مقبرة الكتب) العراقية، لاهتمامها المخلص في طباعة اكتب بأفضل صورة يمكن ان يخلاج بها الكتاب.
لا أريد التعميم، فلربما هناك دور نشر تهتم بالكاتب وتمنحه حقوقه الحقيقية وفق العقد بينهما، لكني هنا اتحدث عن تجربتي الشخصية مع دور النشر العراقية والعربية.
—-
تسليعُ المتلقي ما بين وحشية الرأسمالية العالمية، وافتراس دور النشر
د. واثق الحسناوي/ العراق / جامعة المثنى
لاشكَّ ان الاشياء التي لا يعرفها الكاتب، اكثر اهمية من تلك التي يعرفها عند الكتابة وما نجهله نحن -كمتلقين او قرّاء –بالتأكيد سنقوم بفعل تخييلي تأويلي لنراه ونقربه منا .اذ ان بعض الموضوعات او التيمات .. هي ما يُفرض على الكاتب، اختيار استراتيجياته المعينة او الخاصة فيه وفي جمهوره او متلقيه. لذلك يرى كثير من النقاد، انه ينبغي على الكاتب، الذي يرغب دخول دائرة او مساحة الاحتراف، ان يقرا كثيرا وينوع من ادواته الكتابية ومناهجه الاسلوبية، وطرائقه لتناول موضوعه الخاص ،وهذا ما يوسّع من دائرة متلقيه، وتهافت دورُ النشر عليه. فالقراءةُ الواسعة والمكثّفة، والمتنوعة، عَتادٌ اساسي لسلاح كلِّ كاتب عالمي، لان الكتابة لا تبدأ او تنبثق من العدم ، فالكاتبُ ينبغي له أن يفهم انه جزءٌ من عمليةٍ تشتبكُ فيها عناصرٌ متعددة منها: اللغة، والذاكرة، والخيال، والتاريخ ، والثقافة ، والايديولوجية ..ومن هنا يعمل الكاتب على تسويق مشروعه الادبي بطريقتين :
الاولى: عبر نتاجه الادبي، مستعينا بمختلف الفنون والاساليب او اللغات واللهجات، والتقانات، والتيمات، والطبقات، والفئات، والمشكلات، والبيئات، والظروف ..
والثانية : عبر وسائل الاعلام، والتواصل الاجتماعي ، او عبر دور النشر والطباعة، والتوزيع والتسويق.
ومن هنا يأتي الدور الاهم في انتاج وتسويق المنتج، اذ يُعد تسويقُ المنتج من اهم ما في عمليات الانتاج، حينما يُطرح بصورة اعلامية اشهارية جاذبة للمتلقي، ومقنعه له في الوقت نفسه . وبهذا استطاع الكاتبُ أن يضرب عصفورين بحجرٍ واحد . ان يروّج لبضاعته من الداخل عبر تقاناته، وفنونه الادبية او العلمية، وأن يروّج لها من الخارج، وذلك بطرحها في اكبر عدد من الاسواق، مبتدأ من عناوين او عتبات الكتب، والعناوين الفرعية، والمقدمات، واكراهات دور الناشر..، فضلا عن الملحقات، والهوامش، والاهداءات، والملاحظات، والاضاءات في غلاف الكتاب او السير الذاتية الموجزة، والفهارست، والمقتبسات، والتنبيهات، والتقديمات لكتب ، والعبارات الحِكمية او التوجيهية، وتوقيعات المؤلف، وغير ذلك مما يتم التعاقد عليه ما بين المؤلف، ودار النشر.
ويرى الناقدُ الماركسي فريديرك جيمسون، ان هناك علاقة فاعلة ورابطة مابين الكاتب والجمهور، واصفا ايّاها بالمتغيرة تاريخيا تنعكس على علاقة الكاتب بدور النشر ايضا. لكن التغيرات العالمية الأيديولوجية الاقتصادية التي، افرزتها الرأسمالية البشعة، اثّرت بشكلٍ كبير وسلبي في وسائل الانتاج، والنشر من حيث الشكل والمضمون، والذوق والجمال، والانتاج والتوزيع، اذ اصبح دَورُ دُور النشر ليس للنشر والتوزيع فقط، بل لكسب الربح السريع والجشع، وبأية وسيلة ممكنة، وبهذا تحوّل المتلقي الى سلعة رأسمالية، يُغامَر ويُقامَر فيها من قبل دُور النشر الربحية، بعد ان كانت العلاقة ما بين المتلقي، والكاتب علاقة حميمة تعاقدية جمالية فنية ، صارت علاقة استغلالية مبنية على انتهاك احد الطرفين للآخر . وهنا جاء دَورُ دُورُ النشر اللاهث وراء الربح السريع لاستغلال هذه العلاقة غير المتوازنة ما بين الكاتب والمتلقي، مستغلة خطاب ما بعد الحداثة، وتعدد الخطابات وتقويض المراكز والاهتمام بالطبقات المهمشة، لتكون مادة دسمة للمتاجرة فيها ما فتح الباب على مصراعيه، لتعم الفوضى في دور النشر التي انتهكت قوانين حرية وحقوق النشر ، مستغلة تغاضي الرقابة المحلية، ما دفعها الى ما يسمّى ب”الاستكتاب الاستهلاكي” لتلبية حاجة السوق بناء على طلب وحاجة المتلقين المتواطئة مع خطابات ما بعد الحداثة الثورية والفوضوية المتمردة، وبمختلف انواعها، من اجل الربح السريع، ولو على حساب الكم والنوع، والجودة والرصانة، والامانة العلمية والاخلاقية.
—
دور النشر ودورها في دعم الكاتب.. عندما تتحول الحقوق الى مستحيلات
خليل ناصيف
عندما يلجأ الكاتب لدار النشر بغرض طباعة كتابه فانه يتوقع منها القيام بدور أهم بكثير من مجرد الطباعة ، يتوقع منها بداية اجراء عملية تحرير وتدقيق لغوي مهنية قبل الطباعة ، ويتوقع منها الترويج للكتاب والمشاركة في المعارض وترشيحه للمسابقات ، وربما يرتفع طموح الكاتب كثيرا فيحلم أن تقاسمه دار النشر أرباح الكتاب ، ولكن الممكنات في دور النشر العالمية هي أشبه بالمستحيلات في دور النشر العربية ، فسرعان ما يكتشف الكاتب أنه دفع تكلفة الطباعة وأن كتابه ظل حبيس الرفوف وأن الناشر لم يقم باي ترويج للكتاب وفي افضل الأحوال يكتفي الناشر بنشر خبر صغير عن صدور الكتاب ، وفي حالات كثيرة ربما لن يكلف الناشر نفسه الرد على الاتصالات ، اما موضوع الحقوق المالية فهذا حلم من الاحلام ، وانا أعتقد ان هذا حال معظم الكتاب العرب باستثناء قلة مشهورة منهم .
لكن هل كل دور النشر تتعامل بنفس الطريقة ؟
الجواب لا فدور النشر في العالم العربي تنقسم الى ثلاثة أنواع وكل نوع له مشاكله الخاصة في التعامل مع الكاتب :
النوع الأول :
هو دور النشر الكبيرة المعروفة ، وهذه الدور تنتقي الأسماء الكبيرة من الكُتّاب ، ولا تلفت في العادة للكاتب في بداية طريقه ولا تكلف خاطرها بالرد على رسائله ، بل لسان حالها يقول له إتعب وابني مجدك ثم تعال الي جاهزا ، هذه الدور وانا مسؤول عن كلامي تسيطر عليها المحسوبيات والعلاقات الشخصية والنشر فيها بالنسبة للكاتب المغمور يحتاج الى واسطة ، وهي بالطبع لا تقصّر مع الأسماء الكبيرة حيث تعاملها وتعامل كتبها معاملة خاصة ولا تتقاضى منهم المال لقاء النشر وغالبا ما تشاركهم الأرباح او تشتري منهم حقوق النشر .
النوع الثاني :
دور نشر تجارية ولكن محترمة ، تقوم بعملية النشر مقابل مبلغ مالي محدد في عقد مكتوب بينها وبين المؤلف ، ولديها حد ادنى من تحرير النصوص ومن انتقاء المخطوطات ، وتحترم الكاتب بوصفه زبونا في المقام الأول ، ولكن من مشاكلها عدم الترويج للكتاب بصورة كافية وأيضا عدم وجود الية واضحة للحقوق المالية للكاتب مثل كمية مبيعات كتابه ومقدار المبلغ الناتج عن المبيعات . بل ان بعض دور النشر هذه يتحول لطفها الى شراسة وبكاء وافلام هندية عندما يطالبها الكاتب بحقوقه المالية .
النوع الثالث وهو أخطر نوع :
دور نشر تجارية غير محترمة ، تقوم بالنشر لكل من هب ودب مادام يدفع لها مبلغ 1500 دولار وخلال عملية النشر تقوم بايهام الكاتب بأنه مبدع كبير وان الناس سوف تتسابق على شراء كتابه ، فيعيش في الاحلام الوردية ، وربما يصاب بحالة من الغرور تجعله يعتقد إنه كتب نصا اعجازيا فيتعامل مع الناس باستعلاء ، وكيف لا يستعلي والناشر قبل منه مخطوطته الرديئة واوهمه بانها كتاب اسطوري ، وهذا النوع من دور النشر تسبب بطوفان من الروايات ودواودين الشعر السيئة وقام بتصدير أسماء الى المشهد الثقافي جعلته أشبه ما يكون بالسيرك . وغالبا ما ينتهي الامر بالكاتب الذي يتعامل مع تلك الشركات بان يوزع كتابه مجانا على الأصدقاء وكأنه نوع من الشوكولاته الرخيصة .
كل ما كتبته أعلاه عشته شخصيا أو شاهدته وسمعته من تجارب الأصدقاء ، ولكن القلوب الحمراء على السوشيال ميديا وعبارات الشكر التي يرددها بعض الكتاب لدور النشر تخفي وراءها الكثير من النفاق والمجاملات التي لا تعكس الحقيقة ، وبالطبع توجد استثناءات ونماذج جميلة لكنها نادرة ولا تشكل التيار السائد في عالم النشر .
لكن هل دور النشر في العالم العربي تتحمل وحدها بؤس حالة صناعة الكتب ؟
بالطبع لا ، فصناعة الكتاب تحتاج الى رعاية الدولة من دعم مادي في المقام الأول ومن تنظيم للصناعة التي باتت تحتاج الى عملية تقليم للاغصان الضارة .
وإنعاش الكتاب لا يكون بغير انعاش القراءة والتي تتطلب مشروعا قوميا يعزز عادة القراءة ويحتفي بها بالافعال الملموسة لا بالاقوال .