
..فى الحقيقة أن هناك الكثير من المأخذ على الثقافة بالوقت الراهن، نجد وجود قوي للشللية والعلاقات والمصالح والدائرة المغلقة على البعض وهذا شريك به الكثيرين سواء مؤسسات ثقافية أو إعلام بشتي صوره او نقاد غاب عنهم وابتعد كثيرا دورهم بتوجيه الثقافة وتطويعها لخدمة المجتمعات، كل هذا أدي إلى إبتعاد كثير من أصحاب الفكر والموهبة عن الدائرة واقصائهم من المشهد برمته، ومن هنا حدث خلل كبير بالثقافة وإنزلاقها إلى مسار لا يمت لاسمها بصله، لذا كان طرحنا لهذه القضية على الكثير من الكتاب والكاتبات.
—
أبحث عني في مهرجان ثقافي لا أجدني.. بقلم: بشرى أبو شرار- كاتبة روائية فلسطينية مقيمة في مصر
حين تطل الدعوات من خلال كلمة “مهرجانات” ثقافية تعيدني الذاكرة إلى نور البدايات في مسيرتي الابداعية, أعود إلى قاعات الاحتفالات من خلال نشاطات المجلس الأعلى للثقافة وكيف كان يضم نخبة من المبدعين والمفكرين , شعراء , كتاب القصة والرواية , نقاد نتحلق حولهم نريد أن ننفرد ببعض الكلمات من حديث متفرد معهم , أعود إلى مؤتمر ” المنيا ” لقاء جمعني بالدكتور ” جابر عصفور ” لا أنسى لحظة اقتربت منه في مجلسه وجدته القلب المحب الداعم الذي أهداني طاقة لن تنفد مني , طاقة أكمل بها مشواري الابداعي ” د. عادل النادي ” وتفرده من خلال حوارته مع كل من يلتقي به من المبدعيين ” د. جمال التلاوي ” حيث ” المنيا ” وحيث أيام أمضيناها في لقاءات وحوارت وابداعات .
مؤتمر ” سوهاج ” ولقاءات لن تنسى جمعتني بكل مبدع ومبدعة , والتي كان منها بوابة التواصل عبر جسور المحبة والعطاء من خلال ابداع وانجاز كل منا , حين تطل ” سوهاج ” لا أنسى مبدعنا الشاعر ” أشرف الخطيب ” يوم صعد إلى قطار الصعيد ليطمئن على وصولي , وأخذني إلى طرقات مدينته التي لن أنسى جمالها وجمال كل من التقيت بهم ” جرجا ” ولقاء جمعنا وشعراء هناك يعشقون وطنهم وكل من دق بابهم , مؤتمر متفرد بكل ما تحمله حروف الكلمات من عمق المعاني .
نعود معا حيث ” الاسكندرية ” ومؤتمرات غرب الدلتا , نتهيأ لهذا اللقاء بروح الفرح , حيث نجوم تأتي الينا وتترك نورها في قلوبنا , كيف لي أن أنسى الشاعر الرائع ” أشرف قاسم ” كان حضوره بيننا هو البهاء وكل معاني الجمال , كان أستاذي ” عبد الله هاشم ” رفيق دربي في كل المؤتمرات التي تدعونا اليها , نذهب ونأخذ مطارحنا في الحافلة والفرح لا يغيب عنا , هناك ذهبنا حيث مؤتمر ” رشيد ” والمبدع الأستاذ ” محمد برمو ” وفي معرض الكتاب التقينا بكوكبة من المبدعين الدكتور ” زكي العيلة ” رائد القصة القصيرة في فلسطين ” غريب عسقلاني ” الروائي الذي يحمل نبض قضية لن تغيب شمسها , جميعنا كنا نلتقي في المؤتمرات الثقافية في بوتقة واحدة , حيث مصرنا وكل المبدعين العرب الذين كتبوا حضورهم بحروف من نور , الأستاذة المبدعة ” حفيظة قارة بيبان ” وأستاذنا ” صالح الدمس ” هي ” تونس ” التي أهدتنا كل جسور التواصل .
دوما تطل دائرة الثقافة حيث ” الشارقة ” في كل ملتقياتها التي جمعتنا على محاور السرد والمتخيل السردي وأسئلة ما بعد الحداثة في الرواية المعاصرة , وكم كان لها تأثير فاعل في تشكيل ذواتنا الابداعية , في كل ملتقى للشارقة نعود نحمل ثراء لا حدود له من خلال لقاءات مع رموز ثقافية ستظل حاضرة فينا كما روح الأسطورة .
اليوم تسحبت العتمة إلى مطارح تركنا فيها بعض من نورنا , اليوم أبحث عني في مهرجان ثقافي لا أجدني , أبحث عن كل حروف الأبجدية فلا أجد أحد , صرنا في اللا أحد , هناك أسماء رحلت عن عالمنا , لكننا لا زلنا ماضون على دربهم , غابت شمس وأسماء ولم يعيدوا لنا شروقها من خلال تقدير لمسيرتهم , ومن بقوا على قيد الحياة كتبت أسماء لهم على صفحات النسيان , رحل أستاذي ” عبد الله هاشم ” رحلت معه أسماء وأسماء , وأنا هنا لا زالت في يدي صفحات الدعوات لمهرجانات أقيمت ومهرجانات ستأتي , أبحث عن اسمي لا أجدني , أبحث عن من بقوا لا أحد .
سأظل هنا أقتفي خطوات أستاذي ” نجيب محفوظ ” الذي كان يجد من جلوسه في مقهى يحبه زهرات ربيع لن يغادره , هناك أجدني حيث أستاذي ” العقاد ” ستظل حروفه نقشا على جدار قلبي كما حبات الماس , ستغيب شمس مهرجانات كتب عليها لا أحد … لا أحد .
—
حين تفقد المهرجانات بوصلة المعنى: من احتفاء بالنخبة إلى تجمّع الكمّ بقلم: د. وسام علي الخالدي/ العراق
في الزمن الذي كان فيه المهرجانُ فسحةً للارتقاء، ومنصةً يتبارى فيها الفكر والجمال والإبداع، كانت الدعوةُ إليه بمثابة اعترافٍ ضمنيٍّ بجدارة الحضور، وجنيٍ مستحقّ لثمار التعب. كان المدعوُّ للمهرجان يُستدعى بوصفه صوتًا، وأثرًا، ورؤية. أما اليوم، فقد اختلت المعايير، وطفا على السطح مشهدٌ باهتٌ تُستبدل فيه القيم بالإحصاء، والتميّز بالمجاملة، والرسالة بالواجهة.
صرنا نشهدُ ظاهرةً غريبة تتمدد على جسد المهرجانات الثقافية كندبةٍ في وجه المعنى: الدعوات الكمية بدل النوعية، حيث تُوزَّع المقاعد لا على أساس الإبداع أو الفكر، بل على أريحية العلاقات، ومجاملات المصالح، وأحيانًا على نزوات عابرة لا تمتُّ بصلةٍ للثقافة ولا لأصحابها. فتغدو القاعات مكتظةً بالأجساد، فارغةً من الروح، صاخبةً بضحكٍ لا يمتّ للمعرفة بصِلة، وتُغتال لحظةُ الاحتفاء الحقيقية تحت ركام المجاملة المفرطة.
ما قيمة مهرجانٍ لا تضيء فيه قصيدةٌ ولا تُثير ندوةٌ سؤالاً؟ ما جدوى منبرٍ يتكئ على الصدفة بدل الانتقاء؟ إن غلبة الكم على الكيف ليست فقط مشكلة تنظيمية، بل أزمة وعي ثقافي، تفرغ الفعل الثقافي من محتواه، وتحيله إلى طقس شكلي لا يُنتجُ فكرًا، ولا يُحدثُ أثرًا، بل يُعيد إنتاج الرداءة في أثواب جديدة.
إن المهرجان حين يفقد حسّه النوعي، يتحول من احتفالٍ بالنخبة الخلاقة إلى معرض علاقات، ومن مرآة للزمن الثقافي إلى واجهةٍ باهتةٍ للتمثيل. والمفارقة المرّة أن الأصوات الجديرة، التي صقلتها التجارب، وغربلتها المعرفة، غالبًا ما تبقى على الهامش، مستبدلةً بأسماء تُختار لا لأنها الأجدر، بل لأنها الأقرب إلى نافذة الدعوة.
هي دعوة إذًا لإعادة الاعتبار للنوع، ولإعادة الهيبة إلى منصة المهرجان، ليتحوّل من جديد إلى مساحة للضوء لا مجرد حفل لتبادل الصور.
وما يدعو للأسى أن هذه الظاهرة لا تقتصر على مهرجان بعينه، بل باتت سمةً متكررة في غير مكان: في مهرجانات الشعر والأدب، في الندوات والمؤتمرات، وحتى في حفلات التكريم التي تُمنح فيها الجوائز أحيانًا لمن حضر، لا لمن أثرى، ولمن صافح لا لمن أبدع. تُغلق الأبواب أمام الطاقات الحقيقية، ويُفتح المجال لمن يُجيد الترويج لنفسه لا لمن يحمل همّ الثقافة ومسؤوليتها.
إننا بذلك لا نهين الأفراد بقدر ما نهين الفكرة ذاتها. نهين المهرجان بوصفه فعلًا حضاريًّا، ومرآة لذائقة أمة، ومنصة لنخبتها المتنورة. وإن الاستمرار في هذا النهج يعني خيانة صامتة لقيمة الثقافة، وتحويلها إلى بروتوكول استهلاكي، يفتقد حرارة الإبداع، ويُفرّغ المشهد من نبضه الحقيقي.
وما أحوجنا، في هذا الزمن المأزوم، إلى مهرجانات تُعيد للثقافة هيبتها، تختار ضيوفها بميزان الفكر لا بميزان المجاملة، وتمنح المنصة لصوتٍ يقول شيئًا، لا لصدى يكرّر اللاشيء. مهرجانات تؤمن بأن القلة النوعية قادرة على صناعة الأثر أكثر من الحشود الصامتة. إن الإصغاء الحقيقي لا يتطلب كثرة، بل صفاء، والوهج لا يحتاج إلى زينة بل إلى صدق.
فهل آنَ للجهات المنظمة أن تُراجع معاييرها؟ أن تُدرك أن الثقافة لا تُدار بحسابات العلاقات، بل بروح المسؤولية الجمالية والمعرفية؟ إن إقصاء الأسماء المبدعة ظلم مضاعف، لا بحقّها فقط، بل بحقّ المتلقي الذي يستحق أن يُقدّم له الأجمل، والأعمق، والأكثر صدقًا.
ختامًا، ليست الدعوة إلى المهرجانات شرفًا بقدر ما هي مسؤولية، ولا يجب أن تُمنح بناء على دفتر الأسماء، بل بناء على أثر الإبداع الذي لا يُخطئه القلب النقيّ.
—-
مهرجانات غزو ثقافي لعالمنا اللاوعي بقلم: د. واثق الحسناوي/ العراق / جامعة المثنى.
من مظاهر الرأسمالية المفترسة والبشعة في خطاب مابعد الحداثة ،كثرة المعارض الفنية والادبية، والثقافية الدولية والمدعومة من قبل دول او منظمات او شركات او جهات استثمارية تجارية، هدفها الاول والاخير هو الربح والكسب السريع، اذ حوّلت الجمهور المتلقي الى مستهلك سلبي وكسول وعاجز عن القيام باي شيء سوى الاجترار والتقليد ، ومن هنا نلحظ ان ذاكرتنا الجمعية الجماهيرية الثقافية والذوقية ، قد اصابها التشويش والتشويه الخطيران، بسبب بعض الرأسمالين المهيمنين والمتحكمين في عالمنا اللاوعي، بما يجري من حوله من استغلال للبشر لاستعبادهم واستغالاهم ،وانتهاك حقوقهم، وهم ذاتهم الذين شوّهوا واقعنا الحاضر ورسموا لنا مستقبلا اشبه بالخيال، لننسى ماضينا، ونلهث وراء سراب حاضرنا، عبر وسائل الاشهار والترفيه والتصوير الذي غيّر وزيف عقولنا، وتسلط على رقابنا بالاقناع المغالط المزيف ، لذلك علينا ان نقاوم او نكافح مشروع الهيمنة الرأسمالي الكبير في عالمنا المختلف عنه. فالطريقة الوحيدة للتعامل مع السياسة الرأسمالية المتوحشة المستهدفة لثقافتنا وفنونا وآدابنا واسواقنا، هي تجنب الخطابية الرأسمالية، التي فتحت الابواب على مصراعيها كالإعصار الاهوج الذي عصف في عقول شبابنا للاذعان والانصياع وراء هكذا مؤتمرات وفعاليات وانشطة زائفة ، افقدته الذوق الجمالي والحس الادبي والفني، وحوّلت كل شيء الى بهرج خداع ،او سوق نخاسة ليس الا .فهي تجبر الكتاب والفنانين على الانجرار وراء اهدافها بوعي او بدون وعي ، مهما كلّفهم الامر، دون ان يدعي الكاتب الصلاح او يصدر الاحكام على الاخرين ، فهو بقبوله المشاركة يُعد اداة طيعة لما تقدمه له من امتيازات مادية او معنوية.
لقد وقعنا جميعا –كعرب -اسرى في قبضة عادة سيئة تقوم على اساس ان يشارك الكاتب في مهرجانات، وفعاليات دولة لا يعلم اهدافها الرئيسية، ومصادر تمويلها وشروط القبول ، بمجرد معاينة مانشيتات او اعلانات او بروشرات او اغلفة كتب المهرجانات الدولية ،تتضح صور الاستغباء التي يُمارسها اصحاب هذه المهرجانات على المشاركين من حيث اعتمادها على الكم دون النوع .او العلاقات الشخصية النفعية المادية …علينا ان نقيّم رعاية المنظمات الدولية لمثل هكذا مهرجانات من حيث المادة او المحتوى والهدف والقصد والتمويل قبل الشروع بالمشاركة فيمثل هكذا مهرجانات، تستهدف البنية الداخلية للمبدعين لتستنزف طاقاتهم الابداعية . وهذا لا يعني ان جميعها بنفس ما ذكرناه اطلاقا، بل ان هناك من طور من المهارات والافكار والوسائل والطرائق والمدارك والعقول بشكل علمي مهني مدروس ومسؤول .
ان المهرجانات التي كانت تعتكز على افعال العري، اصبحت اقل جاذبية كثيرا للجمهور الحالي، بعد ان كانت محرّمة ومحظورة ،وهكذا يتم تنميط المجتمعات المحافظة، بحجة التحرر والتطور والانفتاح على الاخر الغازي لثقافتنا عبر الاعلام الاشهاري والتنميط اللاوعي لعقول الشباب، وافتراس ثقافاتهم بتوحش وتدني وتغييب عقولهم ، منذ ان استحالت افعال جسدية محضة .فليست الاعمال الدعائية ،سريعة الزوال والتلاشي من مخيالنا، او ضعيفة قدرتها على التأثير فينا كمتلقين متعطشين للجمال والدهشة، والسحر القادم من خلف الحدود، والمتلاعب في عقولنا وحواسنا وشهواتنا الغريزية والملبي لها، ولا يمكن النكران بانها قد تكون سريعة العطب الا مع استثناءات محددة نادرة، حينما نغلب عقولنا على غرائزنا المادية .
انها لكارثة كبرى حقا ، ان يستلم المشارك مبالغا ماليا دون تقديم اي شيء او نتاج ابداع،يستحق التكريم عليه فيما يغيّب ويغفل حق اخرين هم احق بها . بأمر مباشر من جهة ما، ليغدو مبدعا كارتونيا اشهاريا او لعبة سياسية فيما بعد ، فالنتيجةُ ستكون كارثية –بحق- في مثل هكذا افعال دنيئة لمن يشارك او يتفاعل معها بقصد او دون قصد، لأنها لوثة وعار عليه وعلى المؤسسة التي تحتضنه على حساب حقوق الاخرين .
لقد تيقنت فيما بعد ان كثرة من الكتاب المبتذلين، يؤمنون بان كل شيء واي شيء يصلح كامكانية لكتابة موضوع او نتاج ما، وان كان على حساب النوع او الذوق العام او شرف المهنة .وقد عبّر الروائي الياباني “هاروكي موركامي” عن تأثره في المد والغزو الثقافي الغربي بقوله :(( انغمست مبكرا في الثقافة الغربية : موسيقى الجاز ، ودوستيوفسكي ، وكافكا ، ورايموند شاندلر، فهنا كان يتشكل عالمي وارض احلامي الفنتازية، فقد كان في قدرتي وبوساطة قراءتي ان اذهب انى شئت شرقا او غربا )). اذن ان خطاب ما بعد الحداثة الذي توسع في امتصاص كم هائل من الخطابات، بحجة او باخرى، دفع بكثير من المؤسسات والمنظمات والدول الى تبنّي مهرجانات وانشطة وفعاليات دولية، لم تراع الجودة والنوع، والمرتبة والقيمة الجمالية، والاعتبارية، بقدر ما تراعي الربح المادي، او البعد الايديولوجي، والانتماء والولاء الاعمى لها وهكذا خسرنا الجمال والذوق الادبي، والفني والحس الثقافي، والفكر الابداعي .
—
ظاهرة غريبة في المهرجانات.. أمجد توفيق- كاتب عراقي
برزت ظاهرة غريبة في المهرجانات حيث تكون الدعوات كمية وليست نوعية من خلال المصالح والعلاقات مما يفقد المهرجان قيمته ..
يقال بأن الطريق إلى جهنم مملوء بالنوايا الحسنة .. ذلك أن أي مهرجان أو احتفالية أو مؤتمر أو تجمع يهدف إلى تحقيق الشعار الذي يحمله ، وهو عموما هدف لا اختلاف عليه شكلا .
لكن واقع الحال يبرز ظاهرة لم تعد خافية على أحد ، فالقيمون على إدارة هذه الاحتفاليات يرغبون في دعوة من يحقق لهم السهولة والنجاح من وجهة نظرهم ، وهذا ما يقود إلى الاعتماد على علاقات شخصية ، ونوع من الزبائنية بهدف تبادل المصالح والامتيازات ، فضلا عن شيوع عدم المهنية وعدم استعانة القيمين على هذه المهرجانات بالخبراء ، ومن يمتلك الكفاءة والقدرة في إدارة أعمال المهرجان على وفق خطة وبرنامج متماسك ، مستفيدا في ذلك على جهد المدعوين وانجازاتهم الابداعية .
ليس المهم أن نعقد مؤتمرا أو احتفالية، المهم كما أزعم ، لماذا نعقد هذا النشاط ، وما الهدف منه ، وما هو البرنامج الذي يكفل تحقيق الهدف ؟
فإذا ما استطعنا الإجابة بضمير وقلب مفتوحين ، عندها سنكون أقرب إلى تلمس الطريق الصحيح .
شهدت عشرات المهرجانات ، وفي معظمها كانت الشكوى حاضرة ونحن نتطلع إلى وجوه المدعوين والمدعوات ، إنها شكوى تغذي روح السخرية مما يحدث ، وتكون الموجة الساخرة اجراءً دفاعيا حين تغيب الحلول ، وتبقى المصالح هي المتسيدة .
هل من حل ؟
لست متفائلا.. وأتمنى أن أكون مخطئا ..
—-
شهادة حول المهرجانات والاحتفاليات الثقافية: حين تُدار الثقافة بالعلاقات لا بالمعايير في تدوير القيمين والمدعوين.. ابراهيم اليوسف- كاتب سوري
بات معروفاً أن الاحتفاليات الثقافية، بكل ما تحمله من وعود مفتوحة على التنوع والإبداع، كثيرًا ما تسقط في فخ النمطية والاصطفاء. إذ إنها لم تعد منصات لعرض الأفكار، بل لاستنساخ حضور أسماء بعينها. إذ إن كثيراً من الفعاليات التي يُفترض أنها فضاء للجدّة والانفتاح تتحول لدى القيمين على جهات كثيرة، إلى مساحات مغلقة، تُدار بذهنية ضيقة تمنح الفرص لفئة محدودة وتُقصي أخرى دون تفسير أو تسويغ. والنتيجة دائما: مشهد مألوف، تكاد ملامحه لا تتغير من موسم إلى آخر.
وليس من المقبول أن تتحول الدعوة إلى المهرجانات والفعاليات الثقافية الفنية المتعددة إلى امتياز دائم يُمنح لمن يملكون صلات أو سطوات أو منافذ معينة، أو لأولئك الذين يظهرون في الصورة فقط لأنهم عرفوا الطريق إلى من يملكون القرار. لأن الثقافة، في جوهرها، لا تعترف بالاحتكار ولا تخضع لتوزيع الفرص على أساس القرب أو الولاء. ومع ذلك، فإنه ما يزال كثير من الفعاليات يُدار كما لو أن المطلوب هو إرضاء أطراف بعينها أو الحفاظ على شبكة علاقات، لا تقديم المشهد الحقيقي كما هو: غني، متنوع، متجدد.
يتكرر في كثير من البرامج الثقافية نوع من الإخراج المتكاسل، حيث تعاد استضافة أسماء ظهرت عشرات المرات، دون مساءلة أو بحث في الجدوى أو التراكم. وهو ما يحدث ذلك في الأمسيات، معارض الكتب، الندوات، المعارض التشكيلية، واللقاءات النقدية. حتى الصحفيون الذين تتم دعوتهم لتغطية هذه الفعاليات يُختارون من عواصم وعناوين بعيدة عن عناوين هذه الأنشطة وفق المعيار ذاته، وهم شركاء في هذا الفساد المستشري. إذ يتكرر الحضور نفسه، وتُقصى طاقات جديدة تملك أدواتها ولكن لا تعرف “الطريق المختصر”.
إن إغفال المعايير الواضحة في اختيار الضيوف والمشاركين يؤدي إلى خلل مركزي. ما يحدث في الكواليس لا يُقال، لكنه ينعكس في القوائم المعلنة. دعوة هذا وتجاهل ذاك لا تتم على أساس الإنجاز أو القيمة، بل غالبًا وفق منطق المزاج الشخصي أو شبكة المصالح. وهذا بحد ذاته يعيد إنتاج مناخ ثقافي هش، قائم على التكرار لا التنوع، وعلى الرضا الشخصي لا الاحتكام إلى جودة الفعل الثقافي. أتذكر أن اسماً كبيراً حضر إحدى فعاليات بلد ما جاء محملاً بهدايا لبعض القيمين عليها، وهمست في أذنه وهو يسألني عن كيفية إيصالها إلى أحد هؤلاء: ألم يكن من الأولى إهداء مبدع منسي في البلد ذاك بدلاً من بعض من هم وراء دعوته!؟
يُسجّل أيضًا أن بعض الأصوات الجديدة لا تجد لها موقعًا إلا بعد أن تُثبِت حضورها خارج هذا الإطار، عبر ضجة عمل أدبي أو فني، أو بفعل ضغط جمهور أو تغطيات غير متوقعة. أما في المراحل الأولى من التجربة، حيث يحتاج صاحب الصوت إلى فرصة أولى، فلا يُلتفت إليه. هذا عكس ما يُفترض أن تكون عليه الفعاليات: منابر للاكتشاف لا ساحات للجاهز والمكرّس فقط.
فيما يخص مشاركة النساء، يظل التمثيل ضعيفًا، أو شكليًا في أحسن الأحوال. بعض البرامج الثقافية تُدرج أسماء نسائية لتملأ الفراغ، لا لتمنح مساحة حقيقية لصوت واضح ومؤثر. حيث يتم تجاهل كثير من الكاتبات، الفنانات، والصحفيات المتمكنات، رغم حضورهن المتزايد في المشهد العام. وما يلفت هنا ليس هذا الغياب فقط، بل الطريقة التي يتم بها تقليص دور المرأة لتكون مجرد واجهة لا أكثر.
الأمر نفسه يسري على المعارض الفنية، حيث تُعاد استضافة فنانين بعينهم في مناسبات مختلفة، فيما تُهمل تجارب معاصرة تُقدّم رؤى جديدة تستحق التوقف عندها. إذ ليس من المعقول أن تستمر التظاهرات التشكيلية بتجاهل من يعملون بجد داخل محترفاتهم، بينما يُفتح الباب لفئة محددة وكأن الذوق العام ثابت لا يتغيّر.
يُفترض أن يكون الفعل الثقافي حيًّا، نابضًا بالتعدد والتجدّد. حين تُمنح المساحات ذاتها للوجوه ذاتها، يُفقد المشهد كثيرًا من طاقته. لا يمكن أن تُدار الثقافة باعتبارها شأنًا يخص أصحاب القرار وحدهم. تحتاج إلى أدوات واضحة، لجان مستقلة، معايير قابلة للقياس، ووعي بأن الإنصاف ليس ترفًا بل ضرورة لضمان صحة البنية الثقافية.
البرامج التي تُبنى على العلاقات تنتهي بتقديم نسخة مشوهة من الواقع الثقافي. إذ ليس هناك نقص في الأسماء الجديرة، بل هناك انسداد في القنوات المؤدية إليها. المسؤولية هنا لا تقع على المشاركين المتكررين، بل على من يكرّرونهم بلا مساءلة. حيث وجد مواهب من مختلف الأجيال، وتوجد طروحات جديدة، ووجهات نظر نقدية تحتاج إلى منبر. لا يُفترض أن تبقى هذه الإمكانات حبيسة التجاهل، ولا أن تنتظر أن تفرض نفسها بـ”حدث طارئ” كي يُلتفت إليها.
السؤال الذي يُفترض أن يُطرح عند إعداد أي برنامج ثقافي ليس: من نعرف؟ بل: من لديه ما يقدّمه؟ من يملك قيمة مضافة؟ من غاب طويلًا ويستحق العودة؟ من لم يُمنح فرصة حقيقية بعد؟ وما الذي يُعاد دون حاجة؟
فتح الباب لا يعني الفوضى، بل التنظيم القائم على الإنصاف. هناك من يُستبعد لمجرد أنه جديد، أو لأنه غير منتمٍ إلى دائرة بعينها. هذه آلية تقتل الحيوية. وما لم يُكسَر هذا النمط، سيبقى الحراك الثقافي يدور داخل ذاته، يستهلكها ويُعيد إنتاجها بشكل أقل شأناً في كل مرة.
الثقافة الحيّة تنمو بمراكمة التجارب، لا بتدوير الحضور. وحين يتم منح الفرصة بناءً على المنجز، لا على المصادفة أو القرب، تنشأ حركة تليق بحجم الأسئلة التي نطرحها اليوم: من يمثّل المشهد؟ من يحجبه؟ ومن يصنع صورته، ولصالح من؟
=============
نعاني من تهميش الغالبية العظمى من المبدعين لصالح مجموعة صغيرة جدا تحكم قبضتها على الدعوات الحرة .. د. إيهاب بديوي- كاتب وناقد
عضو اتحاد كتاب مصر
عضو مجلس إدارة نادي أدب الشاطبي
عضو مختبر السرديات بمكتبة الأسكندرية
الحقيقة أن أغلب الدول العربية ومنها مصر تزخر بالعديد من الفعاليات الثقافية المستمرة على مدار العام، من معارض الكتب إلى الندوات الثقافية إلى المسابقات الأدبية المختلفة التي تغطي كل مناحي الإبداع. وقد تحولت الكثير من هذه الفعاليات إلى مظاهرات ثقافية رائعة يلتقي فيها المبدعون من كل الدول وامتد ذلك إلى دعوة ضيوف من العالم كله. ورغم أن معظم الدول العربية حريصة على توجيه الدعوة للمبدعين دون محاباة. إلا أننا في مصر كالعادة نعاني من تهميش الغالبية العظمى من المبدعين لصالح مجموعة صغيرة جدا تحكم قبضتها على الدعوات الحرة المقدمة للمبدعين فتحرص على توزيعها بينها حسب الأقرب والأكثر منفعة بعيدا عن الإبداع الحقيقي. وهذا أدى بالضرورة إلى تكرار حضور نفس الوجوه التي تستغل مناصبها الثقافية الإدارية في الوزارة والنقابات المختلفة لتفرض نفسها على كشوف الدعوات المحايدة التي ترسلها الهيئات الثقافية المختلفة للمصريين. حتى تحول الأمر إلى مجاملات صارخة لنفس المجموعة فيما بينها وظلم بين معتاد للمثقفين والمبدعين المصريين الحقيقيون الذين يهتمون بالإبداع أكثر ولا يتكالبون على منافسة أهل الشلة المجاملة للحصول على حقوقهم المشروعة في حضور الفعاليات المختلفة والترويج لإبداعهم الحقيقي. وأعتقد أن هناك آليات لتنظيم ذلك يمكن تطبيقها كما تفعل بعض دور النشر التي تختار أحد كتابها لحضور معرض أو مناسبة ثقافية معينة وتنظم حفل توقيع وتتكفل بكل المصروفات المترتبة على ذلك.
وما ينطبق على الأنشطة الثقافية يمتد بالضرورة إلى المهرجانات والفعاليات الثقافية وهي في العادة تنقسم إلى قسمين. مهرجانات دورية بتمويل حكومي سواء داخلي أو خارجي. ومهرجانات تحصل على تمويل خاص من راعي محب للثقافة أو مؤسسة مهتمة بالثقافة كما يحدث في إحدى الأماكن في الأقصر بمصر. لكن المشكلة الحقيقية تكمن في من يتم اختياره لإدارة تلك الأماكن أو المهرجانات. مع وجود التمويل السخي يتحول الأمر إلى وسيلة لفرض النفوذ الفكرى واستغلال السلطة الممنوحة لاختيار شخصيات قريبة من الشخص المسئول أو بينه وبينها مصالح مشتركة مع تطعيم الواجهة المختلة بمبدعين كبار تجاوزوا مراحل المنافسة بجوائز كبرى أو مناصب ثقافية مهمة أو تجربة عمرية طويلة. الحقيقة أننا نعاني من سياسة التقسيم والتفضيل والإبعاد ومحاولات السيطرة على الواجهة لصالح فئة قليلة مسيطرة ونتمنى أن تنصلح الأحوال في المستقبل ويحصل المبدع الحقيقي على فرصه المستحقة دون النزول إلى مستويات التزاحم والاستجداء والتكالب التي يمارسها الأنصاف والأرباع ومعدومي الموهبة.
==============
المهرجانات الأدبية وظاهرة الأخوانيات.. عبدالحسين العبيدي / العراق/ بابل
للحياة الثقافية العامة سلوكياتها المعرفية ضمن ضوابطها واشتراطاتها الجمالية , التي استحدثتها من خلال مسيرتها التاريخية ضمن حضارات الشعوب والأمم للتعبير عن نفسها. هذا الجهد المعرفي والجمالي أختط له طريقا يعبر عن خصوصيته . كانت إقامة الندوات والمهرجانات أحدى وسائله الفاعلة لتحريك الوسط الأدبي وبث النشاط في مفاصله . وخلق الأجواء الملائمة للتبادل المعرفي , ومشاركة الخبرات . لذا فقد شكلت المهرجانات الأدبية نافذة واسعة لرؤية مندرجات الوعي الجمعي في بلد ما , و ظاهرة مثيرة للاهتمام في الحياة الثقافية تعبر عنها بدون مواربة . فهي تقام لتحقيق أهداف محددة .كتبادل الخبرات والأفكار , وتعزيز دور الثقافة في الحياة العامة . فالمهرجانات بطبيعتها واجهة ثقافية تعكس مستوى النخبة الفكرية في المجتمع , وهي محك حقيقي لقياس مدى جدية المؤسسة الثقافية والتزامها برسالتها الثقافية المعلنة . وكان ذلك جليًا في المهرجانات التي كانت تقام سابقا , ليس في العراق كمهرجان المربد بل في كل الدول العربية . حيت تتم دعوة النخب الأدبية العربية الفاعلة في الحياة الثقافية ووضعها وجهًا لوجه مع نفسها ومع الجمهور , لتكشف عن حيثيات فاعليتها المعرفية وتبرر سياقات قناعاتها التي قد تجد لها مريدين وأتباع في الوطن العربي الكبير , كما ويتم أرشفة الفعاليات الأدبية ضمن إصدارات ورقية تتحول إلى مرجعيات ثقافية , لأنها كانت تتضمن ليس فقط القصائد والنصوص بل الجلسات النقدية المرافقة لمثل هذه الفعالية الثقافية المميزة, والنقاشات التي تثيرها هذه النصوص .وكان موعد انعقاد هذه المهرجانات تشكل عرسًا ثقافيًا تفتخر به الدول الراعية للمهرجان , الذي كان يدعى له أيضا قامات ثقافية عالمية لغرض التلاقح المعرفي والاطلاع على خبرات وتجارب عالمية لتوظيفها ضمن شبكة الهم الثقافي المحلي . ولا تقتصر هذه الفعاليات الأدبية على جنس أدبي معين بل يشمل كافة مجالات الأبداع الأدبية , كالرواية والقصة القصيرة , والفنون التشكيلية والمسرح . ولكن عانى في السنوات الأخيرة هذا النشاط والجهد المثمر بعض المعوقات والمشاكل , فلم يستطيع أن يستمر في تألقه , فأصابه التراجع التدريجي , حتى وصل الأمر إلى درجة من الخمول تثير قلق المعنيين بالهم الثقافي . فتقلصت فرص أقامه هذه المهرجات بالصيغة المتعارف عليها من الجدية والتنظيم . وتغيرت ضوابط وشروط الدعوات الموجه إلى المشاركين , وتحولت من الكفاءة والقدرة على التأثير و الأبداع المغاير والتواجد الفاعل والمؤثر للأديب في الحياة اليومية إلى الأخوانيات والعلاقات الشخصية والاستفادة المادية أحيانًا . ففقدت هذه التظاهرات الثقافية أهميتها وقيمتها المعنوية . فزادت الكمية على النوعية والغث على السمين والخامل والدعي على الفاعل الحاضر في الهم والحياة العامة للبلد و المواطن , فأصبح عدد المدعوين كثيرا وبدون مردود ثقافي نوعي . وتحولت المهرجانات من بيئة لإنتاج فكر أنساني , ومنابر للفكر والفن والأبداع , إلى فضاءات للمجاملات عبر شبكة من العلاقات الشخصية , التي تقصي المبدعين الحقيقين للفكر والأدب والفن الإنساني . قاد هذا إلى فوضى انتقائية تؤدى إلى نسف الفكرة الجوهرية التي تقوم عليها المؤتمرات والمهرجانات الأدبية الجادة وتحولها إلى ما يشبه الولائم المغلقة , وتجمع علاقاتي لا يقدم جديدا , وتراجع القيمة المعرفية والجمالية للنصوص والحوارات , وأعاده أنتاج وتكرار ما هو قائم , مما يؤدي إلى تهميش المبدعين وإحباط الجمهور . أن الدعوات التي توزع على أساس العلاقات الشخصية يفقد حينها المهرجان قيمته الحقيقية ويصبح منصة للتواصل الاجتماعي . ومما لا شك فيه هناك أسباب قادت إلى هذا التدهور النوعي للمهرجانات بوصفها منصات للاحتفاء بالجيد والمميز والمختلف , ويمكن أجمالها
1 – بالضغوط الاجتماعية المتجسدة في تثبيت أسماء محددة لدعوتها قد تكون أحيانا غير مهتمة بالشأن الأدبي .
2 – العلاقات الشخصية المتمثلة بعلاقات الصداقة او المعرفة الأسرية بين أعضاء اللجنة ومعارفهم ممن هم على هامش الحياة الأدبية .
3 – عدم وجود شفافية في اختيار المدعوين وترك الأمر لسطوة الأمزجة .
4- منظومة التواصل الاجتماعي التي أباحت سهولة التواصل الشخصي مما سهل عملية المساومات مع بعض أدعياء العمل الأدبي
أنها ظاهرة تحولت إلى مشكلة يجب أيجاد حلول جوهرية لها . تتكون في رأينا مما يلي .
1 – أن يكون القائمين على المهرجانات والمؤتمرات من الشخصيات الأدبية الفاعلة في الساحة الأدبية .
2 – اعتماد الشفافية والمراقبة والمراجعة للإجراءات الإدارية الخاصة بالمهرجانات .
3 – مُسائلة القائمين بالأمر عن الإجراءات الغير قويمه المتخذة ومحاسبتهم علنا
4 – اختيار المدعوين على أساس الكفاءة والجدارة واعتماد المنتج الثقافي للمدعو كقياس .
إن هذه الإجراءات ربما تكون كفيلة في الحد والتحجيم من هذه الظاهرة التي شوهت الجمال المعرفي وأخلت بأخلاقيات العمل الأدبي وحولت المهرجانات الأدبية من ساحة لأنتاج المعرفة والتداول بالهم العام إلى ساحة مملة للمجاملات .
—
الدعوات الكمية للمهرجانات الثقافية والأدبية وتأثيرها على مستقبل الثقافة والفكر.. بقلم: منذر فالح الغزالي- كاتب وناقد من سوريا. يعيش في ألمانيا
المقدمة:
تواجه الساحة الثقافية والفنية في الوطن العربي تحديات عدة نتجت عن تحوّل النهج في تنظيم المهرجانات والفعاليات الثقافية. فقد انصب التركيز في الآونة الأخيرة على الدعوات الكمية، أي تبني سياسة توزيع الدعوات على أعداد كبيرة من الفنانين والمبدعين، دون أن يكون الاختيار قائماً على جودة الإبداع أو القيمة الفنية للعمل. وهذا المنهج يفضي إلى تفشي ظاهرة مقلقة تثقل كاهل مستقبل الثقافة والفكر في المنطقة، إذ يتبدد جوهر الفن على هامش العلاقات والمصالح الشخصية
من التوازن بين الكم والنوع إلى تحيّد الاختيار
لطالما كان الهدف الأسمى من تنظيم المهرجانات والأمسيات الثقافية هو خلق منصة للحوار الفني والثقافي تعكس الإرث والهوية الإبداعية للمجتمع. إلا أن ما نشهده اليوم هو تراجع واضح في معايير الاختيار الفنية؛ فأصبح الاختيار يستند إلى اعتبار “الكم” من خلال الدعوات الكمية التي تُوزع بشكل جماعي، بدلاً من التركيز على “النوع” الذي يجسد الابتكار والإبداع الحقيقي. وقد أشارت الأصوات النقدية في الوسط الثقافي إلى أن هذا التحول له تبعات خطيرة على استمرارية التجديد والتطور في المشهد الثقافي العربي.
العوامل المؤثرة في الاعتماد على الدعوات الكمية
1. العلاقات والمصالح الشخصية
كما ورد في النصائح والتحليلات، تقتصر آلية الاختيار في العديد من المهرجانات على منح الدعوات بناءً على شبكات العلاقات الشخصية والضغوط الاقتصادية والسياسية وليس على أساس شهادة الجودة الفنية والابتكار. ومن هنا تتكرر الوجوه الثابتة التي تحظى بعلاقات قوية مع الجهات المنظمة، مما يؤدي إلى استبعاد المواهب الصاعدة أو الفنانين الذين يمثلون التجديد والإبداع.
2. الاعتبارات المالية والرعاية
تلعب الجوانب المالية دوراً محورياً في صياغة برامج الفعاليات الثقافية؛ إذ تعتمد العديد من المؤسسات على رعايات وشراكات تجارية تؤثر في عملية الاختيار. فعوضاً عن إعطاء الأولوية لاختيار الأعمال الجديرة بالتمثيل، يتم تفضيل الفنانين الذين تحقق حضورهم جاذبية إعلامية تسهم في تمويل الحدث وتسويق صورته، وهو ما يؤدي إلى انحياز متفاقم نحو الدعوات الكمية على حساب القيمة الفعلية للمحتوى الفني.
3. غياب الشفافية والمعايير الموضوعية
إن غياب معايير الاختيار الموضوعية والشفافة يُعد أحد العوامل الأساسية التي تقود المنظمين إلى الاعتماد على الدعوات الكمية. ففي غياب لجان تحكيم فنية مستقلة تقيّم الأعمال على أساس جدارتها وإبداعها، تصبح الدعوات وسيلة لتوزيع حصص ومجاملة الوجه الرسمي بدلاً من تقييم المحتوى الفني بدقة.
التأثير السلبي على مستقبل الثقافة والفكر
1. تآكل الثقة والمصداقية
إن منح الدعوات بشكل كمي دون تقييم موضوعي للفنانين يؤدي مباشرة إلى فقدان ثقة الجمهور في المهرجانات والفعاليات. فعندما يشعر المشاهد أو المتابع أن اختيار الفنانين يتم بناءً على علاقات ومصالح لا تكاد ترتبط بقياس الجودة الفنية، ينحدر مستوى المصداقية وتتلاشى قيمة الفعالية كمنصة للتجديد والحوار الثقافي.
2. تثبيط الإبداع والتجديد الفني
يؤدي التركيز على الكم إلى تكرار الوجوه ذاتها في الأحداث، مما يحرم المهرجانات من فرص استكشاف المواهب الجديدة وإبراز التجديد الفني. وهذا بدوره يحبط طموحات الشباب والمبدعين الذين قد يكون لهم دور فاعل في دفع عجلة الإبداع نحو آفاق جديدة، ويفقد المشهد الثقافي تنوعه وتطوره.
3. انخفاض الدور التثقيفي والفكري
في حين كان للمهرجانات والأمسيات الثقافية الدور الحيوي في تثقيف المجتمع والارتقاء بالوعي الفني، فإن توجهها نحو كمية الدعوات يضعف هذا الدور التنويري. فالفاعليات التي تنقصها معايير التقييم الفني تتحول إلى مجرد منصات احتفالية تعتمد على البروز الإعلامي، مما يؤدي إلى تراجع صلة المشهد الثقافي بالجوانب الفكرية والأدبية العميقة.
آفاق الحلول والتجديد
– إعادة هيكلة معايير الاختيار
ينبغي إعادة هيكلة آليات الاختيار في المهرجانات الثقافية والأدبية بحيث تكون معاييرها فنية وموضوعية تعتمد على تقييم نقدي يشمل الجودة والإبداع وليس فقط الشهرة والعلاقات. يمكن تشكيل لجان تحكيم مستقلة تضم خبراء ومثقفين لتحديد معايير واضحة تنصف المواهب وتفتح الأبواب أمام الأصوات الجديدة.
– استقلالية الإدارة: على الجهات المنظمة للعمل على فصل الثقافة عن الاعتبارات الحكومية والتجارية التي قد تعيق تبني معايير فنية مجدية. إن تبني رؤية ثقافية قائمة على تقدير الجدارة والإبداع سيساهم في إعادة الثقة إلى الفعاليات وتنشيط الحوار الفكري والفني الذي يعزز من مستقبل الثقافة في المنطقة.
– تعزيز مشاركة الجمهور: يمكن للمهرجانات أن تلجأ إلى آليات تقييم تفاعلية يتم من خلالها إشراك الجمهور، مثل استطلاعات الرأي والمناقشات المفتوحة. هذا النهج يعزز شفافية عملية الاختيار ويمنح الفرصة لجمهور متحمس وإبداعي للتعبير عن رأيه فيما يتعلق بالمحتوى الفني المقدم.
– التجديد المستمر: اكتشاف مواهب جديدة، وعدم الاكتفاء ب”النجوم” التقليديين. والدمج بين المواهب الشابة والأدباء والنقاد الكبار، لتوجيه المواهب، وإدماجها في المشهد الثقافي العام.
الخاتمة
إن مستقبل الثقافة والفكر في الوطن العربي يعتمد بشكل كبير على مدى حرية الفنون في التعبير وتجديد محتواها بعيداً عن قيود الدعوات الكمية التي تقوم على علاقات ومصالح ضيقة. إن إعادة التركيز على النوعية وجودة الاختيار هو السبيل لاستعادة رواج المهرجانات كمنابر للإبداع والتجديد. تتمثل الدعوة هنا في إصلاح آليات الاختيار وتحقيق شفافية حقيقية تضمن أن تكون كل فعالية ثقافية وأدبية منصة تعبر عن عمق الفكر وقوة الإبداع في مواجهة تحديات العصر الحديث.
—
سطحية التفكير والانقياد لوسائل التواصل وراء تراجع قيمة المهرجانات والمؤتمرات بقلم: عبد اللطيف الموسوي – رئيس تحرير مجلة المأمون الثقافية – العراق
لنتفق أولًا على أن إقامة المهرجانات والفعاليات الثقافية والفنية والعلمية وفي عموم المجالات أصبحت اليوم وسيلة للتباهي والتفاخر دون عقد العزم على تحقيق الأهداف المرجوة من عقد مثل هذه النشاطات . ولكي أكون منصفًا لا بد لي من القول أن هذا الكلام قد لا ينطبق على جميع المؤسسات المعنية سواء أكانت حكومية أم خاصة.
ويبدو أن العصر الرقمي الذي نعيشه وثورة التواصل الاجتماعي التي غزت الأنحاء والأرجاء كافة، وبسطت كلمتها العليا على مجمل أديم المعمورة، وانقياد جميع الأجيال التي تعيش في هذا العصر للصرخات الجديدة التي طبعت حياتنا، والسعي وراء مضاعفة حجم التفاعلات في وسائل التواصل الاجتماعي ونسبة المشاهدات، جميعها أمور تقف وراء الهوس الذي يصيب القائمين على هذه الفعاليات والمؤتمرات حتى أن هناك من يعمد إلى زيارة صفحات الشخصيات المرشحة للمشاركة بالمهرجانات ومواقعهم الالكترونية للوقوف على حجم التفاعل معهم قبل المضي بدعوتهم.
ولا شك ان العلاقات الشخصية تتحكم بدورها بالدعوات من دون النظر الى المستوى الفكري والثقافي والعلمي الذي يتمتع به المدعوون ومدى الإضافة التي يمكن ان يقدموها للمهرجان او المؤتمر، بل حتى دعوة الشخصيات المرموقة ليس الهدف منها تعزيز المضمون ومخرجات المؤتمر أو المهرجان بقدر السعي لنيل نوع من الهالة والدعم الاعلامي له.
وهكذا نرى اليوم أن الدعوات للمهرجانات تتحكم بها العلاقات الشخصية والمصالح المتبادلة بغض النظر عما يمكن أن يقدمه المدعوون من إضافة حقيقية حتى ارتقت هذه الحالة إلى مستوى الظاهرة السلبية والغريبة التي بدأت تغزو حياتنا الثقافية والتي يصعب علينا التخلص منها بسهولة، ما لم نتخلص أولًا من سطحية تفكيرنا.
إن حل هذه المشكلة والحد منها يكمن في العمل على اختيار لجان تحضيرية علمية للفعاليات تتسم بالموضوعية والمهنية والخبرة والدراية من اجل انجاح هذه المهرجانات . وخلاصة القول أن على القائمين على هذه الفعاليات أن يفكروا أولًا بالنوع لا بالكم.