
حين تتجاوز الكتابة حدود الورق، وتتحول الشخصيات من كيانات خيالية إلى كائنات واعية بوجودها، ندرك أننا أمام نص لا يُقرأ بعين المتعة فقط، بل بعين التأمل والمساءلة. هكذا تفعل الكاتبة ليلى مهيدرة في نصها “مواجهة”، حيث تنقلب الأدوار بين الكاتب والمكتوب، بين الخالق والمخلوق السردي، في حوار حادّ يتجاوز البوح ليبلغ مناطق التوتر الوجودي والفكري.
ليس النص مجرد مشهد افتراضي بل هو محاكمة للضمير الإبداعي، حيث تتجلى الأزمة الأخلاقية للكاتب الذي يتخلى عن شخصياته بمجرد انتهاء دورها، وكأنها لم تكن سوى أداة للتمرير والتبرير. هنا، تُسائلنا الكاتبة عن مدى شرعية هذا الفعل، عن عمق العلاقة بين الكاتب وشخوصه، وعن مصير الأصوات التي كتبت بلحم التجربة ودم الواقع.
مواجهة ليست مواجهة تقليدية، بل هي تجربة سردية جريئة تكشف هشاشة السلطة السردية أمام قوة الكائن الورقي حين يقرر أن يستقل عن خالقه، ويعلن أنه لم يعد مجرد ظل في الهامش، بل صوتًا له تاريخه، وألمه، وهويته المتشظية.
ففي نصها “مواجهة”، تنسج الكاتبة ليلى مهيدرة حوارًا داخليًا مشحونًا بالتوتر، بين الكاتبة وشخصية أدبية اخترعتها ذات يوم، فتجعل من الحرف ساحة محاكمة، ومن الورق قفص اتهام، لتطرح بأسلوب سردي مشبع بالرمز أسئلة الوجود الإبداعي، وشرعية التخلّي، وحدود السلطة التي يمتلكها الكاتب على شخوصه.
النص يقوم على تقنية الحوار الجدلي الداخلي، حيث تتداخل الأصوات بين المبدعة و”الآخر” الذي خرج من رحم خيالها، ذلك الكائن الهارب من الظلال، المتشبث بحقه في البقاء، لا كخرافة، بل كصوت مضاد، وشاهد على زمن مكسور. تظهر هنا قدرة الكاتبة على خلق مسرحة سردية تختزل أبعادًا فلسفية ونفسية واجتماعية في حوار ينبض بالحياة، ويعري هشاشة العلاقة بين الكاتب ونصه.
لغة النص تنتمي إلى حقل الوعي المترجرج بين القرار والندم، بين الانفصال والحنين، وتظهر عبرها شخصية الكاتبة المتوترة، المتظاهرة بالسيطرة، لكنها في قرارة ذاتها تشعر بأنها أمام كائن يعرفها أكثر مما تعرفه. فـ”المواجهة” هنا ليست مع شخصية، بل مع الذات المتجسدة في الآخر، مع القناع الذي قرر أن يتمرد على الوجه.
تأتي الشخصية المتخيلة لتُكشّر عن وعيها العميق، فهي ليست كيانا كرتونيا يمكن شطبه بجرة قلم، بل فهي كائن تشكّل من ألم الشعوب، ووجع الهوية، والتيه في المنافي، فتقول بمرارة: “في غزة كنت مناضلا، وفي المغرب مهاجرا سرياً، وفي بلاد لا أعرف موقعها كنت لاجئاً…”، في هذا المقطع يختزل النص سيرة العربي المهمش، المنفي، المنسي، الذي لا يجد مكانًا له إلا في ظلال الكتابة، وفي زوايا الورق.
الرمزية في النص كثيفة دون أن تكون مفتعلة؛ فالشخصية ترمز إلى الضمير الجمعي المغيّب، إلى تلك الأصوات التي كتبها الأدباء ثم أسكتوها حين خشيَ الواقع من حقيقتها. كما أن السؤال الجوهري الذي يطرحه النص: “هل يحق للكاتب أن يتخلى عن شخصياته؟” يُعيدنا إلى مفهوم الالتزام الأدبي، وواجب الأديب تجاه الأفكار التي جسدها.
اما النهاية جاءت بنبرة تراجيدية ساخرة، إذ تتحول ضحكة الشخصية إلى نار تلتهم الاثنين: الكاتب والمكتوب. وكأن الكاتبة تعلن أن أي انفصال عن “الآخر” الذي كتبناه، هو في جوهره احتراق داخلي، وأن الفكاك من شخوصنا ليس خلاصًا بل احتضارًا من نوع خاص.
ليلى مهيدرة قدّمت نصًا عالي الحساسية، يضرب في عمق فلسفة الكتابة وهويتها الأخلاقية، بأسلوب أنيق لا يخلو من نكهة درامية، وبنَفَس تأملي لا يبتعد عن الواقع العربي المأزوم. وقد نجحت في جعل القارئ يتورط في السؤال، لا في الإجابة.
النص
مواجهة بقلم: ليلى مهيدرة/ المغرب
كان يرقبني من وراء أكوام الورق، وكنت متوجسة من نظرته تلك مع أنني أحاول تصنع القوة والشدة، اعتدل في جلسته مدلدلا رجليه من على سطح مكتبي، استمررتُ أنا في تفحص صفحة ما كنت لأرَى ما فيها لأني كنت منشغلة بالتفكير في ردة فعله .. بدا هادئا ..رزينا .. كأنما يبحث عن سؤال يبادرني به أو عن تفسير مقنع لقراري هذا، ترجل وبدأ يمشي بخطوات موزونة أمامي كضابط شرطة محنك وأنا أقنع نفسي أنني أملك من المبررات ما يجعلني سيدة الموقف دائما .. تذكرت القولة الشهيرة أن خير وسيلة للدفاع -أجل الدفاع لأني أدرك أنني مطالبة بتبرير موقفي هي الهجوم . سالت بثقة تامة :
– ماذا ستفعل الآن ؟
– في ما ؟
– أخبرتك أنك ملزم بالرحيل اليوم
– والى أين ؟
– إلى أي مكان تختاره ..أنت حر الآن
– وماذا سأقول للناس وكيف سيتقبلون شخصية وهمية مثلي …. ماذا عن ماضيّ ومن أكون ؟
-كما قلت لك وكما كررت مرارا لست أول كاتب يخترع شخصية ويلبسها نمطا معينا ويجعلها تعبر عن مواقفه
– والآن ؟
والآن ماذا ؟
اتضحت مواقفك وما عدت في حاجة لي.
– لا إنما كنت مرحلة وانتهت.
– ولو سألني الناس ماذا سأقول لهم .. سامحوني فأنا قررت الرحيل عن زمن ولى ولو سألوني ما اسمي سأقول ربما سيد أو محمد أو عربي أو أو …ومهنتي في غزة كنت مناضلا وفي المغرب مهاجرا سريا وفي بلاد لا اعرف موقعها في الخريطة كنت لاجئا …أليس كذلك ؟
– الأمر أبسط مما تتصور .. إفقد ذاكرتك وابحث فيهم عن هوية جديدة.
– مثل ماذا ؟ أنسيتي أنني كنت أسترق النظر إليهم من وراء عينيك وأراهم ضائعين أكثر مني… خائفين من الآخر دوما… متضايقين من مستواهم المعيشي وغير راغبين في شخص جديد حتى وإن كان شخصية وهمية.
سيعتبرونني مدسوسا عليهم من سلطة فوقية… والسلطة ستعتبرني إرهابيا متطرفا يدس الفكر المرفوض بين شباب مستعد لتقبل كل فكر غريب.
وقد يراني البعض منقذا لهم وأملك من التجارب ما قد يجعلهم أقل ضياعا.
– -أنت تضخم الأمور.
– ألست شخصية وهمية؟ الكل مهووس الآن بالعالم الوهمي.
– -الناس أبسط مما تتصور ولو قررت العيش بينهم سيحبوك وسيمنحوك من عطاياهم.
– -ولو سألوني من أين أتيت، ماذا سأجيب ؟
– – لن يسألوك وحتى إن سألوك قل أي شيء لن يهتموا أبدا.
– – من الذي لن يهتم هم أم أنت ؟ كيف تتخلين عني وكنت المعبر عن أفكارك دوما هل سمعت يوما بكاتب يتخلى عن بنات أفكاره وشخصياته.. هل أعدد لك من ماتوا دفاعا عن مواقفهم وخلدت شخصياتهم.
– -إذن تفكر في موتي لتخلد أنت ؟
– – بل أفكر في أن نخلد معا أم أنك قررت البحث عن شخصية عاجزة كالمحيطين بك ؟
– – لا يهم
– – وما المهم إذن تغيير المعطف دوما وتغيير اللون والمذهب… المهم أن تظلي اسما مطيعا لا يجيد غير كتابة التهليلات والتكبيرات وكلمات التأبين… والشخصيات تتغير بتغير الزمن يا سيدة زمن الخضوع …أتدري سيدتي شرف لي أن أستاذتي فأنا من سيستقيل منك وعنك لعل التاريخ يذكر بعضا مني …..
تأبط بضع وريقات من على سطح مكتبي وفرشها أرضا، ربما أدرك أن لا جدوى من الحوار، جلست أرقبه وبداخلي غصة فرحة ، فالفرح في موقفي هذا ليس دليل انتصار وإنما هو إحساس داخلي أشبه بالحزن أو الخزي إن صح التعبير ، رمقني بنظرة فاحصة كأنما يكتب صك تحرره مني ويلغي بالتالي قراري حتى لا أعلن انتصاري عليه يوما، قهقه عاليا لتتحول ضحكته إلى نار تلتهمني قبل أن تلتهمه والأوراق.