

في فضاءٍ سرديّ مشبعٍ بالقلق والتمزق، تنهض رواية «ثالث ثلاثة: شظايا الذات» لأشرف المسمار كنصٍّ استثنائيّ، لا يسير على خطى الحكاية بل على خطوط الروح المتكسّرة، حيث لا شيء مكتمل، ولا أحد في مكانه، ولا حدث يتبع منطقًا واضحًا. رواية تنفتح منذ عتبتها الأولى على عالم متشظٍ، مخلخلِ التوازن، تتقاطع فيه الأصوات، وتتنازع فيه الأزمنة، وتتموضع الذات وسط مرآة لا تعكس صورتها بل شظاياها.
ليست هذه الرواية خطابًا تقليديًا عن الحكاية، بل هي صرخة سرديّة مكتومة، تقبض على لحظات الانهيار الداخلي، وتُعيد تشكيل المعاناة في قالب جماليّ مغاير، حيث تتحول الكلمات إلى كائنات نابضة، واللغة إلى جسد يرتجف تحت وطأة الأسئلة الوجودية. في هذا النص، تصبح الكتابة ذاتها فعل مقاومة، ويغدو السرد معبرًا يتأرجح بين هاويتين: هاوية الوعي وهاوية الضياع.
في هذه القراءة، نحاول أن نقترب من هذا العمل بما يستحقه من عمق وتأمل، ساعين إلى تفكيك بنيته، واستجلاء جمالياته، ومساءلة أسئلته، دون أن نغلق المعنى أو نروّض الدهشة. إنها رحلة داخل عمل لا يهدأ، ولا يكتمل، لكنه يُقيم في القلب طويلاً، كجرحٍ جميل، وكسؤالٍ يتردّد في ذاكرة القارئ كلما حاول أن ينسى.
في روايته “ثالث ثلاثة: شظايا الذات”، يقتحم أشرف المسمار منطقة بالغة الحساسية من الوعي الإنساني، متوغّلًا في أعماق الذات المهشّمة، التي تتخبط بين واقع غائم وذكريات ممزقة. منذ العنوان، يتجلى تمهيدٌ رمزيٌّ كثيف، حيث يحمل تعبير “شظايا الذات” دلالة على انكسار الكيان الإنساني وتفتّته، لا على صعيد الحدث فقط، بل على مستوى الكينونة نفسها، إذ يبدو البطل لا يعيش حياة بل يسقط فيها، متشظّيًا بين ماضٍ لا يرتّب نفسه، وحاضرٍ لا يمسك به، ومستقبلٍ غائب كأمل يتبخّر.
يعتمد الكاتب أسلوبًا سرديًا تجريبيًا، يتقاطع فيه الصوت السردي مع صوت الذات الممزقة، فلا نكاد نعرف أحيانًا من المتكلم، هل هو الراوي العليم، أم البطل الحائر، أم ظلّهما الممتدّ على صفحاتٍ تتلوّن بالوجع والذهول. هذا التلاعب بالأصوات السردية، إلى جانب الانزياحات الزمنية المتكررة، يمنح النص طابعًا وجوديًا واضحًا، كما لو أن الرواية لا تبحث عن أحداث، بل عن معنى. الزمان في هذا العمل ليس تقويمًا خطيًا، بل حقلًا متشابكًا من الاستعادات والتداعيات، والمكان ليس مكانًا واقعيًا محددًا، بل فضاءً داخليًا يعكس خرائط النفس المتعبة.
في قلب هذا التكوين السردي، تتجلى الشخصية الرئيسة كمرآة مكسورة، نرى فيها شظايا من إنسان تخلّى عنه كل شيء: الجغرافيا، العائلة، المعتقد، حتى جسده الذي يبدو وكأنه لم يعد يخصه. تتحول الذات هنا إلى سؤال معلّق، لا يبحث عن إجابة، بل يتهشّم في الصمت. وكأن الرواية تقول: إن أكثر التجارب وجعًا ليست هي التي تصرخ، بل التي تصمت.
يُصاغ النص بلغة تنوس بين الشاعرية والواقعية الهلوسية، حيث تمتلئ المقاطع السردية بصورٍ مجازية كثيفة، تتداخل فيها الرؤية الفلسفية بالوجدان المعذّب. لا يستخدم الكاتب اللغة كأداة للشرح، بل ككائن حيّ يرتعش ويئنّ، فتتحوّل الجملة إلى نبضة، والفكرة إلى رعشة. الكلمات لا تُقال بل تُنزَف. ولعلّ هذا ما يمنح الرواية بُعدًا جمالياً يُضاف إلى عمقها الفكري والنفسي.
لا تخلو الرواية من التأملات الفلسفية، إذ تنبثق عبر السرد أسئلة كبرى عن المعنى، عن الهوية، عن الموت، وعن الحب الملتبس الذي يطلّ فجأة في لحظة من لحظات الاحتضار الوجودي. الشخصيات الثانوية، إن ظهرت، فلا تظهر بوصفها أسماء، بل كتموجات في بحر الذات الرئيسة، وكأن العالم كله يتمركز حول أزمة ذلك الكائن الممزق، الذي يفتش عن ذاته كما يفتش عن ظلّه في ليل بلا قمر.
تُشكّل “ثالث ثلاثة” نصًّا أدبيًا يقترب من تخوم القصيدة الطويلة، نصًّا لا يقف عند حدود الحكاية، بل يعبرها نحو الأسئلة الجوهرية للإنسان: من أنا؟ ولماذا؟ وإلى أين؟ إنها رواية لا تُقرأ لمجرد المتعة، بل للمواجهة، حيث يجد القارئ نفسه وجهًا لوجه أمام نفسه، لا بوصفه متلقّيًا، بل باعتباره مرآة موازية لذلك الذي تتناثر شظاياه في النص.
وبهذه الرؤية، يمكن القول إن أشرف المسمار لا يكتب حكاية، بل يكتب جرحًا ناطقًا، جرحًا يتجاوز الخاص ليبلغ الإنساني العام، ويمنح الرواية بُعدًا معرفيًا وأخلاقيًا، يجعلها واحدة من التجارب السردية العميقة في الرواية العربية المعاصرة.
ويواصل النص انسيابه كمنولوج داخلي طويل، لا يهتم بالتسلسل التقليدي للأحداث بقدر ما يهتم بتفكيك العلاقة بين الإنسان وذاته، وبين الإنسان والعالم. يتداخل الواقعي بالمتخيل، وتتذبذب المسافة بين الحلم والكابوس، فلا تعود الرواية سجلاً لما جرى، بل مسرحًا لما لم يُفهم بعد. وهنا يبرز البعد التأويلي للرواية؛ إذ لا يمكن قراءة “ثالث ثلاثة” قراءة سطحية أو وصفية، بل هي تجربة تتطلب قارئًا متورطًا، يُعيد تشكيل النص كلما أعاد قراءته.
تظهر المرأة في الرواية كرمز لا يُفكك بسهولة؛ فهي الأم، والحبيبة، والظل، والحضور المتواري خلف كل فقد. لكنها لا تُطرح ككائن مكتمل، بل كجزء من ذات الرجل، أو كصدى لافتقاده للأمان الأول. تبدو شخصيات الرواية أشبه بالأصوات منها إلى الأجساد، فلا حضور جسديًّا واضحًا لها، بل حضور سرديّ – ذهني، وكأن الجميع يقطن في رأس البطل وحده، يزاحمونه في وحدته، ويحاورونه دون أن يجيبوا.
ومن بين الشظايا المتناثرة، يظهر سؤال الكتابة ذاتها. فالكاتب لا يخفي رغبته في مساءلة فعل الكتابة، فيضيع السرد أحيانًا في لعبة المرايا، حيث لا نعود نعرف من يكتب من: الكاتب أم الراوي أم الشخصية؟ تصبح الرواية إذن نصًا عن الكتابة، وعن العجز عن التعبير، وعن الكلمات التي تخون الإنسان حين يكون في أمسّ الحاجة إليها. وهذا ما يجعل النص نموذجًا لما بعد الحداثة في تقنياته، وما قبل الحداثة في جروحه.
ومع أن الرواية تبدو سوداوية، إلا أنها لا تخلو من لحظات إشراق نادرة، تأتي كوميض خاطف في عتمة النص، وكأن الكاتب يشير إلى أن الشظايا، رغم ألمها، تلمع. وأن الذات المكسورة، وإن عجزت عن التماسك، فإنها لا تزال تروي، ولا تزال تنزف، ولا تزال تقاوم.
وبذلك، فإن “ثالث ثلاثة” ليست فقط رواية عن التشظي، بل عن الإنسان كما هو في لحظات انكساره القصوى. إنها نصٌّ مرهف، محمّل بالأسئلة والمرارة والجمال، يضع قارئه في قلب التمزق، ويغويه لا بالحل، بل بالتأمل العميق. رواية كهذه لا تُنهيها القراءة، بل تبدأ معها، وتظلّ ترافق قارئها كأسئلة مؤجّلة في ذاكرته، وكسطر ناقص في سرديّته الشخصية.
وختامًا، يمكن القول إن رواية «ثالث ثلاثة: شظايا الذات» لأشرف المسمار تُجسّد تجربة سردية فريدة، تقف عند تخوم الفلسفة والكتابة الشعرية، وتُعيد طرح أسئلة الإنسان الكبرى في زمن تغيب فيه اليقينيات وتتآكل فيه المعاني. لقد استطاع الكاتب أن يُشيّد نصًا يتجاوز حدود السرد التقليدي، ليبلغ مستوى من العمق الوجداني والفكري يجعل من الرواية عملًا مفتوحًا على التأويل، ومغويًا بإعادة القراءة.
هي رواية تُفكّك لا لتبني، تُزلزل لا لتُطمئن، وتكتب الذات من داخل نزيفها لا من خارجها، ولعل هذا ما يمنحها أصالتها وتميّزها. فكل جملة فيها تبدو كأنها وُلدت من رماد سؤال، وكل مشهد فيها يقود إلى متاهة من المعاني الممكنة. إنها ليست مجرد رواية تُقرأ، بل صرخة مكتوبة، ومرآة تتشظى كلما اقترب منها القارئ، ثم تعكس صورته كما لم يعرفها من قبل.
بهذا العمل، يرسّخ أشرف المسمار حضوره ككاتبٍ يمتلك جرأة التجريب، وشفافية الرؤية، وصدق الانفعال، مُقدّمًا نصًا ينتمي إلى الأدب الذي لا يكتفي بأن يُقال، بل يترك أثرًا طويل المدى في الذاكرة والوجدان.