كالفراشة التي تُحلِّق مُبْتهجة في حدائق مُترعةٍ بالزُّهُور والوُرُود، حلَّقت التَّشكيليَّة «جُمانة الحُسيني» في عالم الفنِّ، هذا العالم الذي يُشْبُهها وتُشبهه. أعلنت مُنذ البدايات انتسابها المُطلق للحقِّ، فالحقّ جمالٌ. حملتُها ريشتُها وألوانُها إلى ملاعب الطُّفُولة، إلى «القُدس»، و«أريحا»، و«يافا»، وكُلّ مُدُن وقُرى ورُبُوع «فلسطين» التي احتشدت دومًا في المشهد الذي أفصحت عنه الفنَّانة في مُعظم أعمالها.
يعتبرُها النُّقَّاد علامةً تشكيليَّةً نسويَّةً بارزةً، ومٌبدعة مُتميِّزة في ميادين اللَّوحة الفلسطينيَّة التَّعبيريَّة، الثَّريَّة بمساحة الرُّؤى التَّجريديَّة، والمحكُومة بحسبةٍ شكليَّةٍ ميزانُها التَّبسيط والتَّحوير الشَّكليّ، لمُفرداتٍ مُستعارةٍ من بيئتها العتيقة في مدينتها الخالدة «القُدس» القديمة، موصولة بمحسُوس الرُّمُوز الإنسانيَّة المسكُونة برهافة الوصف، وشفافيَّة اللَّون، وعبقريَّة التَّوزيع للكُتل الشَّكليَّة في أرجاء اللَّوحة.
وُلدت الفنَّانة التَّشكيليَّة الفلسطينيَّة «جُمانة جمال الحُسيني» بمدينة «القُدس» في عام 1932م. ترتبط الفنَّانة وعائلتها العريقة بالمدينة المُقدَّسة منذ القرن الثَّالث عشر الميلادي على أقلِّ تقدير. تقلّد أجدادها أعلى المناصب المدنيَّة والرُّوحيَّة في المدينة. وقاد قريبها مُفتي «القُدس» و«فلسطين» المُقاومة ضدّ الانتداب البريطاني والمشرُوع الاستيطاني الصَّهيُوني في فلسطين.
والدُها «جمال الحُسيني»، شغل منصب الأمين العام للجان التَّنفيذيَّة للحركة الوطنيَّة الفلسطينيَّة وأمينًا عامًا للمجلس الإسلامي الأعلى، ثُمَّ رئيسًا للحزب العربي الفلسطيني، كما ترأَّس الوفد الفلسطيني إلى «لندن» في عام 1936م. أُمُّها هي السَّيِّدة «نعمتي العلمي» سليلة العائلة المقدسيَّة العريقة، والتي أخذت الفنَّانة عنها شغفها بالفنِّ التِّشكيلي.
درست العُلُوم السِّياسيَّة في الجامعة الأمريكيَّة في «بيروت»، ولكن شغفها للفنِّ دفع بها إلى الجهة الأُخرى، إلى عالم الخيال والحُلم، حيث درست الرَّسم والنَّحت والخزف لمُدَّة ثلاثة أشهر فقط، أثناء دراستها للعُلًوم السِّياسيَّة، ثُمَّ درست فنّ الزُّجاج المُلوَّن في «باريس».
عندما نصف تقنيَّات لوحات الفنَّانة «جُمانة الحُسيني» يُمكنُنا أنْ نقُول أنَّها تعاملت معها بطريقةٍ مُشابهةٍ لتقنيَّات التَّشكيل الورقي التي تُقسِّم اللَّوحة إلى مجمُوعةٍ من المساحات اللَّونيَّة المُرصَّعة وفق تقنيَّات التَّصوير الفنّي المُعاصر، الخارج عن سرب اللَّمسة المُدرَّبة النَّمطية، فهي مُحلقة في سرَّب التَّعبيريَّة من حيث الفكرة والتَّقنيَّة والأسلُوب، تأخُذ من فُنُون الكُولاج اللَّصقي حالةً تعبيريَّةً شكليَّةً لفُسيفساءٍ جماليٍّ ولونيٍّ من نوعٍ آخر، لا تُحافظ فيها على واقعية المشهد المرسُوم، بل تطُلق العنان لمُخيِّلتها الخصبة، ويدُها الماهرة والقادرة على اختيار عناصر ومُفردات التَّكوين: الشَّمس والقمر والعصافير والمساجد والمآذن. الشُّخُوص لديها عبارة عن أشكال هندسيَّة مَجْدُولة ومُرصَّعة في إطار مُتواليات المُثَّلث والمُستطيل والمُربَّع والنَّجمات ونصف الدَّائرة، واللَّون محمَّل بالتناقُض ما بين فضاء الأبيض والأسود وما يتَّصل بهما من مباهج لونيَّةٍ مُتدرِّجةٍ مُستقاة من واحة الألوان الغنيَّة والثَّريَّة.
والمُدقِّق في قراءة لوحات الفنَّانة سيكتشف تلك المسحة الجماليَّة والتَّعبيريَّة المُتجاوزة لواقعيَّة اللَّقطة التَّصويريَّة المدرسيَّة، والسَّارحة في مُجُون القصيدة الشِّعريَّة ذات المُحتوى الشَّعبي، والمعنيَّة بإبراز ملامح مُبسَّطةٍ باللَّون المُتجانس، كدلالةٍ وصفيَّةٍ مقصُودةٍ على براءة الأطفال المشدُودين إلى مساحة أحلام اليقظة، والباحثة عن حكاية هُنا وأقصوصة هُناك، تلامُس جوهر حالتها النَّفسيَّة، والعاكسة لرُوح طُفُولتها، ورهافة حسها التَّعبيري، والعفويَّة المقصُودة في صياغة بيانها البصري المُحمَّل بالتُّراث الشَّعبي الفلسطيني، وبتجلِّيات البساطة الشَّكليَّة، وإشارات خُصُوصيَّتها التَّقنيَّة في وصف المعاني واختيار تفاصيل النُّصُوص البصريَّة.
إنَّ لوحات الفنَّانة «جُمانة الحُسيني» مُنحازةً دائمًا لمقامات الحُلم الشَّخصي الممزُوج في شُخُوص وأماكن مُستعارة من طُفُولةٍ مهمُومةٍ بمساحة وطن، وبقايا ذاكرةٍ عالقةٍ في واحة خيال ومساحة تعبير فنَّي، معنيَّة فقط بفُسحة التَّعبير الفنِّي الحُرّ، المُتحرِّر من قيود النِّسبة والتَّناسب المُتَّبعة في الرَّسم المدرسي الأكاديمي، خُرُوجًا ملحُوظًا عن سياقات الفُنُون التَّشكيليَّة الفلسطينيَّة النَّمطيَّة الممجدة للبُندُقية والمُحاربين، عابرة حُدُود التَّبسيط المقصُود لبيُوُت وأماكن عبادة إسلاميَّة ومسيحيَّة، مربُوطة بشفافيَّة اللَّون الممزُوج بالرِّقة والحُنُو الإنساني، ورقص العصافير المُغرِّدة في واحة شمس وقمر وفضاء المدينة المُقدَّسة.
كما أنَّ لوحاتها التَّصويريَّة المعماريَّة والإنسانيَّة في نفس الوقت، تغدُو لعين المُتلقِّي وكأنَّها وليمة بصريَّة خارجة للتَّوِّ من مُختبر ذاكرتها الذي لا ينضُب، والمُندرجة في توليفات المساحات الشَّكليَّة المُحمَّلة بالزَّخرفة الهندسيَّة والنَّباتيَّة والحيوانيَّة المُتآلفة، والمُتعانقة بشكلٍ أو بآخر مع أحاديث الأهل وحكايات الجُدُود، سيَّما العصافير المُحلقة في فضاء اللَّوحات المرسُومة، والمُتجاوزة لسردٍ شكليٍّ مُستعار من أخيلةٍ فيها ملامح الأمل ومعابر الحُرِّيَّة، بديلًا رمزيًا لواقع فلسطيني مأزوم، وتدوين لمرئيَّاتٍ بصريَّةٍ عابرةٍ في لحظة فرح أو عبث وقتي.
وما يلفت الانتباه في أعمال الفنَّانة أيضًا هو تساوي عناصر الرِّقَّة والرَّهافة كالعصافير والفراشات والزُّهُور وغُرُوب الشَّمس، مع عناصر القُوَّة والثَّبات كالأحصنة والنٌّمُور والفُهُود والبيوت وشجر الصَّبَّار رمز المُقاومة والبقاء. أليست كُلّ هذه الكائنات والأشكال هي مُكونات الذَّاكرة الطُّفُوليَّة التي حملتُها «جُمانة الحُسيني» معها من رُبُوع «فلسطين» الحبيبة، وخُصُوصًا من مسقط رأسها «القُدس» العتيقة، إلى مهجرها بعد أن أُبعدت قسرًا عن وطنها الأثير ؟
إنَّ مدينة «القُدس» القديمة في بُيُوتها ومعالمها الدِّينيَّة والتُّراثيَّة، أخذت جُلّ اهتمامها وكانت بمثابة المجال الحيوي البصري، والتي كانت حاضرة في جميع لوحاتها شكلًا ومضمُونًا، حيث تعكس ذاتها الشَّخصيَّة في وصفٍ مجازي، متناسية تداعيات الرُّسُوم والصُّور المُستحضرة من يوميَّات مُخيلةٍ عابرة، ومحكُومة كذلك بالشَّفافيَّة اللَّونيَّة وبساطة التَّوليف الخطِّي، والهندسة المعماريَّة لمرصُوف البناء الشَّكلي الجمالي ولُحمة التَّكوين.
وفي أعمال الفنَّانة الأخيرة نلحظ أنَّها جاءت مُبسَّطة مُختصرة كتمائم عجيبة تروي حكاية تجربة وزمن وتحوُّلات في المكان وفي الزَّمان، فلم تعُد تكفي قُوى استحضار المكان بالصُّورة وحدها فصارت تستحضرُه بالتَّمائم المكتُوبة، أو ببعض الأشكال الغامضة التي لجأت إليها لتُساعدها في القبض على ذكرياتها وعالمُها الحميم الأوَّل. إنَّها نزعت الخمار الأخير عن حكاياها لتكتُب ذاتها ووُجُودها الكُلِّي المُفعم بذكرياتها البكر الأولى، تلك الذِّكريات التي تأكَّدت وتأصَّلت بالاختصار والتَّجريد، وكأن الوقت صار للضَّرُوري المُقدَّس بعيدًا عن الرَّغبات والأحلام التي دوَّنتها على مدى ما يزيد على أربعين عامًا. لقد ازدادت بمرحلتها الأخيرة عُمقًا وحنينًا لكُلِّ ما هو أصيل وعادل وحقيقي في هذا الوُجُود.
ويُمكننا الآن أنْ نقرأ قراءة سريعة للوحتها المُعنونة: «عريس وعرُوس»، فهي حالة بصريَّة تستحضر الماضي البعيد بكُلِّ زخمه ومُجُونه وخياله، طُفُولةٌ مُحمَّلةٌ بالبراءة والفرحة والتَّسامي، معجُونة بحكايات الصَّبايا في لحظة عُمْر عابرة، تجمع مدينة «القُدس» وأطفالها في حُلَّةٍ شكليَّةٍ مُتجانسة المساحات والألوان، تتلاشى فيها النِّسب الذَّهبيَّة المعمول فيها في التَّصوير الأكاديمي، وانتفاء ملحوظ للبُعد الثَّالث، وترك الحُرِّيَّة المُطلقة لرقص المساحة المُوَّزعة ما بين رمزيَّة الشُّخُوص المُتطاولة وجُغرافيَّة المدينة المُقدَّسة، تجمعُها الفنَّانة في قالبٍ تعبيري واحد مُتواصل الحلقات، اللَّون فيها صريح مُستقل بحِدَّته داخل كُلّ مساحة من مساحاته، ووُجُوه شُخُوصها بلا ملامح تفصيليَّة مفتُوحة على مساحاتٍ من الحُلم واليقظة، وعلى مدينة موصُولة بتاريخٍ عريقٍ.
زارت الفنَّانة «جُمانة الحُسيني» مدينة «هيرُوشيما» اليابانيَّة في عام 1979م وشاهدت أثار الدَّمار الذي حلّ بها نتيجة قصفها بقُنْبُلةٍ نوويَّةٍ، فرسمت حيَّة شيطانيَّة تخترق «هيرُوشيما» مُتَّجهة إلى المسجد الأقصى، رابطة بذلك بين التَّدمير الوحشي الذي أحدثته القُنْبُلة النَّوويَّة، واعتداءات الصَّهاينة المُتطرفين المُتكرِّرة على المسجد الأقصى لاستكمال جريمة محو كُلّ أثر للذَّاكرة الفرديَّة والجماعيَّة لشَّعب فلسطين بأكمله. وعلى الرَّغم من كُلِّ ذلك لم تكُن «جُمانة » صاحبة شعارات طنَّانة، ولم تكُن ترسُم لتنشُر رسالة تبشيريَّة تدعو إلى الاقتداء بها، بل رسمت من موقع الجرح مُباشرة، رسمت من مكمن الرُّوح، لذلك جاءت رُسُومها كصك بوح داخلي ارتبط كحبلٍ سرِّيٍ بهُوِيَّتها وببلادها وبعاصمة بلادها الجميلة، زهرة المدائن: «القُدس».
وبعد هذه الرِّحلة الفنِّيَّة الرَّائعة، المُفعمة بعشقها الأوَّل والأخير: «القُدس»، التي هي أيقُونُتُها، رحَّلت الفنَّانة «جُمانة الحُسيني» عن دُنيانا في الحادي عشر من شهر أبريل عام 2018م، لتظلّ روائعُها الخالدة تمُوثق لتاريخ المدينة المُقدَّسة العتيد.