خبر غريب انتشر بسرعة في الأنترنيت مثل وباء كورونا.. جعل المدينة تغلي صُحبة القرى المحيطة بها..
كل المواقع والصحف والمجلات في الداخل والخارج لا تتحدث إلا عن فتح الغرب لأبواب حدوده في وجه أبناء المؤمنين القادمين من الجنوب بشرطين، أن يساوي أو يقلّ العمر عن خمسة وأربعين سنة، وألّا يكون المعني مصابا بمرض مزمن..
لم يعد ممكنا كتم الخبر عن الأصدقاء والجيران.. المطلوب الآن التأكد من صحته.. قال هيثم لصديقه:
ـ لا يمكن أن يكون خبرا كاذبا، وإلا لما نشرته كل المواقع والصحف والفضائيات..
ردّ جلال بنوع من التشكيك:
ـ قالوا من قبل بأن أسلحة الدمار الشامل بالعراق، خبر صحيح، وبعد سنوات انكشفت الحقيقة، فبدأوا يتبادلون التُّهم، ويذرفون دموع التماسيح على ضحايا الحرب..
حاول هيثم أن يوضح أكثر:
ـ الأمر مختلف يا جلال، نحن لا نملك نفطا ولا غازا.. وحتى البلدان التي بها النفط والغاز فهي في الحقيقة لا تملكه، ولا يستفيد أبناؤها من عائداته..
أضاف عمر:
ـ لقد مر الكثير من الوقت، ولم تُكذّب أية جهة الخبر.. بل قيل إن بعض الشباب سافر في بحر هذا الأسبوع، ودخل إلى بلد غربي من غير تأشيرة.. علينا تهييئ وثائق السفر بسرعة قبل أن تكتظ المكاتب الإدارية بالراغبين في الهجرة..
علّق طاهر:
ـ وأخيرا تحققت المساواة.. نحن لا نطلب منهم تأشيرة، إذا أرادوا زيارة البلد، أو الاستقرار به.. وعندما يدخل أحدهم ديننا الحنيف نُقيم له الولائم والأفراح..
غليان في البيوت والمقاهي والحانات ومقرات العمل.. الجميع يريد أن يهاجر إلى بلاد الشمال، حتى الذين تجاوزوا شرط السن بقليل بدأوا يفكرون في تزوير تاريخ شهادة الميلاد.. والمصابون بأمراض مزمنة يدّعون بأنهم أصحّ من الخنازير البرية..
أغلب العاطلين عن العمل والطلبة والفلاحين والعمال والأطباء والمهندسين والمدرسين بكل أصنافهم.. الجميع عقد العزم على الهجرة إلى الشمال، وبدأوا يفكرون في بيع ممتلكاتهم، أو البعض منها على الأقل. السفر يحتاج إلى المال، وقواعد الحياة في الغرب كلها تقوم على مبدأ (اكري تبات، اشتري تمضغ)*..
استشعر ولاة الأمر خطر هذا الوباء الجديد الذي نشره الغرب في قلب بلاد المؤمنين..
دعوا الخبراء والأحزاب والنقابات والجمعيات إلى عقد الندوات في الفضائيات لنقد الهجرة إلى الغرب، وكشف مساوئها، واعتبارها مؤامرة خارجية لتخريب استقرار البلاد، وتطورها الاقتصادي والسياسي والثقافي..
وأمروا بتخصيص خطب الجمعة لنفس الموضوع.. فهذه الهجرة كما سيقول سماحة الفقهاء خطر على الدين والنفس والعقل والعرض والمال..
والغريب أن أغلب المنتقدين في الفضائيات والمساجد ومواقع التواصل الاجتماعي نصحوا أبناءهم خفية بالهجرة إلى بلاد الشمال..
جمال الطبيب الذي يعمل في المستشفى الحكومي بدأ يحلم بالوضع الجديد الذي سيكون عليه هناك.. سيجد العمل بسرعة، ويستقر لبضعة أشهر، ويحسم في نقل زوجته وأبنيه.. بعد خمس سنوات أو ستة سيحصلون على الجنسية، ويُصبحون غربيي الهوى..
في القرى المجاورة لم يكن الأمر مختلفا عنه في المدينة.. أغلب الناس الذين تساوي أو تقل أعمارهم عن خمسة وأربعين سنة قرروا العزم على الرحيل..
الطاهر ولد الفقيه لا ينام هذه الأيام.. في كل مرة يستيقظ من حلم جميل، يُتمّه في اليقظة.. رأى نفسه يركب سيارة فاخرة، ويضع قبعة أمريكية على رأسه. بجانبه فتاة شقراء كأنها حورية خرجت من الجنة.. تقبّله على خده الأيسر فيسري دبيب مثل النمل في دمه.. تشعل مذياع السيارة على شريط موسيقى رعاة البقر. تنظر إليه وتبتسم.. تطلب منه أن يأخذها في زيارة قصيرة إلى أرض أجداده المؤمنين لتتعرف على أحوالهم، فيؤجل الحديث عن الموضوع إلى وقت لاحق..
رأى الأمطار تسقط بشكل منتظم.. والحقول خضراء على مدار العام.. والخير عميم.. الناس تعيش في جنة فوق الأرض.. شعر بالتواء في رجله، فأخذته الفتاة الشقراء إلى المستشفى.. عندما رأوه يتألم أثناء المشي قدموا له عربة صغيرة، نقلته إلى المصعد.. ابتسموا في وجهه، وأجروا له الفحوص، ثم شدّوا الجزء المصاب من رجله بضمّادة، وقدّموا له ما سيحتاجه من أدوية، وأعطوه رقم هاتف ليتصل بهم عند الحاجة.. همس في الحلم باكيا من الفرح:
ـ كذب فقيه القرية في خطبة الجمعة عندما وصف سكان هذه البلاد بالكفر والفسق والمجون.. الله سبحانه لا يغضب من عباده، فيساعدهم على بناء جنة فوق الأرض..
انتقل الحديث بين الناس إلى المفاضلة بين البلدان والمدن التي سيرحل إليها المهاجرون.. أبناء المدن يفضلون الاستقرار بكندا وأمريكا وبريطانيا وسويسرا والدانمارك والنرويج.. وأبناء القرى يفضلون اسبانيا وهولانا وبلجيكا وفرنسا وإيطاليا واليونان..
نفذت كتب تعلم اللغات الأجنبية في أربع وعشرين ساعة من الأكشاك.. وفتح المدرسون والطلبة والمرشدون السياحيون الدكاكين والبيوت لتعليم اللغات الأجنبية.. ارتفعت أسعار الحصص بشكل جنوني، رغم أن التعلم اقتصر على معجم محدود للمعاملات الأساسية..
وظفت العيون التي لا تنام خبراء في علم النفس وعلم الاجتماع والدين والاقتصاد والسياسة والأمن لإنجاز العديد من التقارير حول الوضع، وما يشكله من خطر على البلاد والعباد.. وعقد ولاة الأمر اجتماعات طارئة، وأعلنوا عن قرارات منع السفر، وتقييد الوثائق الخاصة بإنجاز الجوازات بقوانين جديدة ما أنزل الله بها من سلطان.. رأى المؤمنون أنها قرارات مجحفة وجائرة، فخرجوا في اليوم الموالي في مظاهرات عارمة زعزعت استقرار البلاد، وواجهتها السلطات بقمع شرس..
نشرت الفضائيات المحلية في المساء شريطا وثائقيا بعنوان (نموت ويحيا الوطن) لرفع الهمم وتحفيز الناس على التضحية من أجل الأمة والحفاظ على مكانتها بين الأمم..
علّق ماهر متدمرا على الشريط، وكان قد فقد أسنانه الأمامية بعد أن وجّه له رجل أمن لكمة على وجهه:
ـ نريد أن نترك لهم الجمل بما حمل.. كذّابون.. صبرنا سنوات طويلة.. مات الآباء، وشاخ الأبناء، ولم يأت الغد الأفضل.. كذابون.. يُحاصروننا في سجن كبير يُسمّونه الوطن.. كذابون.. لا يُحبون إلا أنفسهم..
المعجم:
ـ اكتري تبات اشتري تمضغ: مثل شعبي : المبيت والأكل كلاهما بمقابل.
مراكش 24 فبراير 2024