تقع شقة جمال صقر في عمارة بعيدة خارج الكتلة السكنية.. الهدوء صار محببا له.. وربما العزلة.. يجلس في “بلكونها” كل عصر ..يحتسي فنجان القهوة.. ويدخن السجائر .. ورغم الزراعات التي تحيطه..وتريح عينيه.. إلا إنه يتحسر على تلك الأراضي الزراعية الخصبة التي ادخلتها الحكومة للحيز العمراني.. وسمحت بالبناء عليها.العمارة التي يقطن فيها تشبه باقي العمارات الحديثة التي شيدتها وزارة الدفاع .. أحيانا لا يستطيع تمييزها..دليله إليها علم يرفرف في بلكون العمارة القريبة منه.
شوارع المدينة صارت مزدحمة بالناس.. يقفون في أرتال طويلة أمام أكشاك احتلت مساحات منها.. وأمام سيارات لوزارتي الدفاع والداخلية تبيع اللحوم والألبان والأطعمة والأسماك والمواد التموينية بأسعار تقل قليلا عن نظيرتها لدى اصحاب المحال الخاصة.
والده يقول له :
– هذه الأيام شبيهة بأيام النكسة.
آخر حرب دخلتها مصر كانت سنة 1973..اشترك فيها محسن الأخ الأكبر له.. كان جمال صقر طفلا صغيرا آنذاك. والد جمال يقول له :
-لم يكن اقتصادنا سيئا مقارنة بحالنا الآن.
في بلكون الشقة..يفتح جمال هاتفه .. يطوف سريعا بمشاهد لمعاناة البشر في دول قريبة أنهكتها الحروب والصراعات والمؤامرات.
بعد أعوام من وجوده في هذه العمارة.. وهو عائد من العمل.. تعثرت قدماه قليلا.. العلم اختفى من بلكون العمارة التي تقع أول شارعه.. جلس في محل المكوجي القريب منه.. أخبره جاره سليم الذي يجالسه أحيانا عند المكوجي أن الشرطة صباح اليوم داهمت الشقة التي بها العلم.. كانت شقة مشبوهة. لم تنتبه لها الشرطة إلا هذه الأيام.
يدوس صقر على أوجاعه..يطلق ساقيه للطريق.. وقد ارتدى حلة أنيقة كعادته في الصباح أو المساء.. وابتسامته المغمورة بالرضا..عكاز يتكئ عليه.. لا أحد يشكو له آلام معدته ..ربما بها داء عضال .. وربما هي تشكو الجوع.. وربما أراد ان يهذبها.. أن يعدها لأيام عجاف قادمة قد تكون الأسوأ. أسعار الطعام والعلاج في ارتفاع مستمر.
بالأمس أتته المرأة التي اعتادت طرق باب شقته كل أسبوع او أسبوعين.. قال لها :
– ادخلي ياحبيبتي.
هي ليست حبيبته.. صقر يعلم من تكون حبيبته.
حبيبته صنع مخيلته.. أمسك الفرشاة ذات يوم.. ورسم ملامحها.. وهو يستعير من الشمس سناها.. كان وجهها يشبه القمر في استدارته..وابتسامته في لياليه القمرية..وشعرها طويل يتأرجح على ظهرها.. بإمكان طفل مشاكس ان يمسكه.. ويلهو به. أمه كانت تحلم ان تكون زوجه ذات وجه صبوح ..وقلب حنون ..ترافقه في دروب الحياة.. خيب آمالها في الزواج بامرأة متسلطة..سليطة اللسان ..مزعجة.. بينها وبين العناد والعبوس والحزن عقد اتفاق.بينها وبين لين الفؤاد وابتسامةالثغر..مسافةطويلة .
مازالت حبيبته صنع عينيه ..حبيسة هودج خياله.. رآها كثيرا في شوارع المدن.. لكنها لم تكن من قسمته ونصيبه. الصقر لم يعد متشبثا بالحياة..مقهى الصلاح خلى من شريف صديقه ..كان يلتقيه هناك… وشارع بورسعيد لم يعد عصام ينتظره فيه بعد آذان العشاء.. ومقرات أحزاب الوطني والتجمع والوفد والعمل.. لم تعد تمارس انشطتها كما كانت.. وبعضها لم يعد يفتح أبوابه. كان له أصدقاء بكل منها.. والعم فاروق بائع الجرائد عند شركة بيع المصنوعات المصرية لم يعد هناك ينادي :اقرأ الحادثة.. اقرأ تشكيل الحكومة الجديدة .. اقرأ زيارة عرفات للقاهرة..اقرأ عبد العاطي صائد الدبابات..اقرأ خطاب الرئيس .. اقرأ عن البطل سليمان خاطر في جريدة الوفد ..اقرأ “مانشيت” الأخبار .. تحسين الرغيف..اقرأ الأهرام.. الرئيس يكرم أبطال حرب اكتوبر..اقرأ منحة الرئيس للعمال.. فرص عمل جديدة للشباب.. لا مساس بالأسعار.
كانت أيام حبلى بالتقلبات .. لكن لم يكن صقر يفقد الأمل فيها .. كانت تأتي الكربة وفي عقبها.. تأتي الفرجة. – مهما الدنيا طحنتك.. لا تشكو إلا لوجه الكريم.
مازال صقر يعمل بوصيةأبيه..أوجاعه الكثيرة يؤطرها بما يليق به هو..وليس بها. يحلق ذقنه..يختار “الكرافت” المناسب “للبليزر” بعناية.. وكذا منديل الجيب.. ويضع “البرفن” الذي يحبه..يدوس على جراحه.. ويمضي.