في مغامرات طفولتي المزهرة، كنت أزرع في قلبي بذور التذمر، مراقبًا كيف تتفجر الشرارات لتقزم لعبي وتمسخ أفكاري، كمن يرسم بالفحم على جدران ذاكرتي. كنت كبرعم غير متفتح بعد، يتساءل في جدية كوميدية: “هل أنا من كوكب آخر؟”، غير قادر على تحديد موطني في هذا الكون المترامي الأطراف. أذكر كيف كانت ضحكاتي تنطلق، لا من الفرح، بل من روح تستهزئ بكل شيء، من الأفق اللا متناهي إلى السماوات الشاسعة، متمردًا على النسيم، محتجًا على الدموع الغادرة التي تسرق الفرح من عيني. كانت أفكاري المشتتة – من الأحكام إلى القيم والمبادئ – تبدو كقيود تثقل كاهلي، تخنق براعم الحرية لدي وتكبل أجنحة الإبداع. كثيرًا ما كنت أتساءل، في لحظات فكاهية ذاتية، لماذا أنا، من بين كل الناس، أرى ما لا يرون وأشعر بما لا يحسون؟ هل لأنني مخلوق فضائي، أم لأن هذا الأنف الكبير الذي كان مصدر تسلية أخي قد منحني هذه القدرة الخارقة؟ وبفضل تفكيري العميق، أهداني القدر صلعًا مبكرًا، تاركًا لي خصلات قليلة يتيمة، تحاول بشجاعة أن تضيء ظلمة الليل كنجوم قليلة وخجولة. في أحضان أسلو، تلك المدينة اللطيفة التي لم تكن قط في قائمة أمنياتي السياحية، وجدت نفسي ضائعًا في كوميديا الأخطاء، حيث الثلوج تتنافس على منح أفضل عرض للجمهور والليالي طويلة كمسلسلات الدراما التركية. بدأت هنا مغامرة لم أسجل لها في دورات التدريب، فصل جديد يضع “المغامر” بدلاً من “النبي المزيف” على بطاقة تعريفي. أهلًا بك في النرويج، حيث الأحلام تتخذ شكل فطائر الوافل والحياة ملونة ككرات الديسكو. في أيامي الأولى، كان كل شيء يبدو كأنني انقلبت من كوكب آخر، من السكان الشقر إلى الطبيعة التي يمكن أن تكون بطاقة بريدية. وأنا أتجول في أسلو، تلك المدينة العريقة بمبانيها التي قد تعتبر معالم تاريخية أو مجرد مراكز تسوق قديمة، كنت أحاول استيعاب هذا الكوكب الجديد. من الأضواء التي تزين المدينة كأنها تحتفل بعيد ميلادها كل ليلة، إلى الناس الذين يحملون قصصًا قد تصلح لمسلسل أو فيلم وثائقي عن “سكان الشمال. وأنا، ذلك الغريب الذي يبدو كشخصية من كتاب طبخ عالمي، تعلمت لغتهم، وغصت في ثلوجهم، وحاولت أن أفهم إذا ما كانوا يضعون الكريمة على كل شيء كما يفعلون مع القهوة. وفي أعماقي، كان هناك هذا النقاش الداخلي الطريف: هل أنا هنا للبقاء أم مجرد زائر يتساءل عن مكان البيتزا الجيد؟ في الليل، بينما أتأمل الأضواء الشمالية التي تبدو كحفلة ليزر فاخرة، كنت أجد نفسي محاطًا بالغربة، تلك الغربة التي تجعلك تتساءل: هل كل هؤلاء الناس يشعرون بالبرودة مثلي أم أن لديهم جينات مضادة للثلج؟ في نهاية المطاف، بينما كنت أقارن بين النرويج وبلادي، بدا لي أن الحياة هنا تمزج بين الحفلات والاحتفالات بالنهار القصير والليالي الطويلة التي تعطي فرصة لمشاهدة المزيد من الأفلام. وأدركت أنني، على الرغم من كل شيء، قد وجدت في هذه الأرض مكانًا يمكن أن أسميه منزلاً، حتى لو كان الجيران لا يفهمون مزاحي دائمًا.
في بلد الثلوج والحكايات المسحورة، حيث السماء تعانق الأرض كأنها تشارك في برنامج تلفزيوني للأزواج، وجدت نفسي غارقًا مرة أخرى في محيط الحب، متزوجًا من (بريت)، الجميلة التي تجمع بين الأنوثة وذكاء أينشتاين. تمتلك جاذبية قوية بما يكفي لتجعل الثلوج تتحول إلى ماء من الخجل، وروحها المتوهجة تنافس الشمس نفسها على دفء البهجة. (بريت)، بمهارات التضحية التي قد تجعلها بطلة في مسلسل الأم المثالية، تحمل مزيجًا من القوة والنعومة. تنجز الأعمال بكفاءة تستحق الجوائز داخل وخارج المنزل، محولة يومياتنا إلى ملحمة تفوق أفلام الأكشن بروعتها. أرى فيها انعكاسًا لسحر النرويج الأخاذ، كأنها تمثال نحت بعناية ليجسد الكمال الإنساني. أيامنا كانت مزيجًا من المرح والسعادة، أنا القبطان الشجاع وهي الربان الأمين. إعجاب الناس بها كان يوقظ غيرتي، لكنها، بنبرة تفيض بالحكمة والسكينة، كانت تعيد ترتيب أوراق الثقة. “لماذا الهلع؟” كانت تقول، وكأنها تقرأ أفكاري، “ألست أنت أيضًا نجم الحفلة؟” وبهذه الكلمات، كانت تطفئ نيران الغيرة بماء العقلانية. لم يخطر ببالي أبدًا التفكير في أخرى، فمع (بريت) وجدت كنزي الثمين، حب لا يحتاج إلى تأكيدات أو بدائل. في حضورها، كنت أجد نفسي مكتملًا، مرتويًا بحبها وفهمها. تعلمت بجانبها أن الحب ليس مجرد كلمة، بل رحلة مشتركة نحو الفهم والتقدير المتبادل. كل يوم معها كان يزيدني يقينًا بأني وجدت الشريكة المثالية، التي تشاركني الأفكار والأحلام، فتاة تحمل شغف العمل والمعرفة، تتحدى الروتين بروحها الجذابة. مع (بريت)، تحولت النرويج ليس فقط إلى ملاذ، بل إلى وطن يحتضن قصة حبنا، حيث كل زاوية تروي جزءًا من ملحمتنا الرومانسية، حيث يمكن لقلبي العثور على الدفء في ليل النرويج الطويل وبردها القارس.
الاحترام! هذه الكلمة صداها في الهواء كان أشبه بطبل في حفلة صاخبة، محاولة يائسة مني لأبدو كالمخرج في مسرحية حياتنا الزوجية. أما ضحكتها، يا لها من مزيج متفجر بين السخرية والتحدي، كانت بمثابة الضربة القاضية لكبريائي، الذي كان يتآكل أسرع من السكر في فنجان قهوة. طلاقنا؟ أوه، كان بمثابة شهادة وفاة لكل تلك الأحلام الوردية، إقرار بالهزيمة في مباراة لم أعلم حتى أنني كنت ألعبها. في الديار البعيدة، حيث يفترض أن الرجال كالصقور، كنت أتوقع أن تكون النساء كالحمائم، لكن يبدو أنني نسيت أن الحمائم يمكن أن تكون شرسة أيضًا. وها هنا، في أرض الخيالات والثلوج، حيث كنت أظن أن السماء تلمس الأرض، اكتشفت أن الصقور قد تحتاج إلى تعلم الرقص من الغزلان. في تلك اللحظة المليئة باليأس، كنت أتساءل، هل كنت أبحث عن ملاك في عالم لا يؤمن حتى بوجود الجنيات؟ أدركت أن ما كنت أطارده لم يكن إلا وهما، صورة غير حقيقية للحب والشراكة، شيء لا يمكنه التنفس أو البقاء حيًا في عالمنا هذا.
تأملت في (زهورة)، ابنة عمي، تلك البطلة من نوع خاص تمزج بين قوة البغال ونعومة الغزلان، بإخلاص كلب وطاعة… حسنًا، ربما ليست طاعة الكلاب تمامًا. (زهورة)، ذلك الكائن الذي ترعرع في نفس الأرض الطيبة التي نبتنا فيها، لكن يبدو أنها استحوذت على كل الأسمدة الجيدة! كانت عيناها دائمًا تبرق بشيء مختلف، شيء يشبه الأمل أو ربما مجرد عدم الرغبة في الاستماع لنصائح الكبار. فكرت، هل يمكن أن تكون زهورة هي الجواب لألغاز حياتي المحيرة؟ هل يمكن أن تكون هي الملاذ الآمن الذي كنت أبحث عنه، أو هي مجرد فصل جديد في كتاب مغامراتي المليء بالتوقعات الخاطئة؟ في تلك اللحظات العميقة من التأمل، وسط الأوراق المبعثرة وذكرياتي العشوائية، أدركت أن مسيرتي في مطاردة السراب قد وصلت إلى نهايتها. الآن، كل ما أردته هو قليل من الصدق مع نفسي وبعض اللقاءات الروحية التي كنت أهرب منها. وها هي زهورة، تلك الفصول الجديدة المحتملة، تنظر إليّ بنظرات قد تغرق سفينة بكبريائها وعنادها. في تلك اللحظة، شعرت بالهوة الواسعة التي صنعتها الأيام بيننا، وتساءلت، هل كنت أنا الجسر الذي لم يكتمل أم كانت هي النهر الذي لا يمكن عبوره؟
زهورة، هذه البطلة غير المتوقعة في ملحمتي، وصلت كنسمة عليلة قد تحمل الشفاء، لكن سرعان ما تحولت إلى كتاب معقد بلغات لم أتقنها بعد! شهر العسل اختفى كأنه خدعة سحرية لم تكتمل، تاركًا خلفه قصة درامية مليئة بالمشاهد الحوارية الحادة والمواقف التي تستحق البكاء عليها… أو ربما الضحك، اعتمادًا على المزاج. فجأة، بدأت زهورة تعزف لحن استقلاليتها، تخلت عن دور “الزوجة التقليدية” وقررت أن تصبح بطلة قصتها، تاركة إياي في دور الكومبارس المشوش. كل نقاش بيننا تحول إلى مبارزة فكرية، مناقشة الأخبار، تقلبات الطقس، أو حتى نوعية الهواء كان يمكن أن تنتهي بتبادل النظرات القوية والأفكار المتطايرة. وفي تلك الليلة، بينما كنت أحاول مد جسور التفاهم عبر هوة سوء الفهم اللامتناهية، أدركت أن كل قوانيني ومعتقداتي حول الحياة الزوجية كانت تتهاوى كبيت من الورق. القمع؟ العنف؟ لا، لم يكن ذلك أسلوبي. كنت أسعى للإصلاح بالحوار، ولكن كيف تحاور من يتقن فن التحاور أفضل منك؟ كان السؤال الكبير: هل يمكن للكلمات أن ترمم ما أفسدته الأيام، أم أن الصمت أحيانًا يكون أبلغ من كل حوار؟
أمسكت بيدها، كشخص يحاول إنقاذ ذرة من الملح من الذوبان في بحر، متأملاً في إيجاد شرارة من الود قد تضيء لنا طريقاً في ظلمات خلافاتنا. في ذلك الصمت العميق، كنت أتساءل بيني وبين نفسي: هل يمكن لبذرة الحب أن تنبت مجدداً في هذه التربة المتجمدة بيننا؟ هل يمكن للمسة أن تذيب جبال الجليد التي تكونت بيننا عبر السنين؟ وفي ذلك اللقاء، كنت أدرك أن الزمن والواقع قد غيرا زهورة، لم تعد تلك الفتاة التي تنحني كالأغصان في الريح، بل أصبحت كالشجرة الرواسخ التي تعانق السماء بثقة. لقد كانت تلك الزهورة الجديدة تبحث عن ضوءها الخاص، ترفض أن تكون مجرد ظل لي. كان حبي بنظرها كالماء الملوث الذي يروي لكنه يسمم في الآن ذاته. أيها المفكر العظيم، يا من تتوهم أنك بحر من الحكمة، هل فكرت يوماً ما الذي يجعل اثنين يقرران مشاركة حياتهما معاً؟ هل للتسلط مكان في عالم القلوب، أم أنها ميادين للتفاهم والاحترام المتبادل؟ بلغة العقل والمنطق التي تعشقها، ألم تتساءل لماذا يطلب الإنسان الشراكة والصحبة في هذا الوجود الواسع، إن لم يكن بحثاً عن معنى أعمق يسكن في تبادل الفهم والاحترام، بعيداً عن أي قيود أو سطوة؟ أرغب بالتحليق، لا بأن أظل طيفاً يتبعك حيثما ذهبت. أريد أن أكون زهورة التي لها إرادتها واختيارها، لا مجرد شريكة تنحصر في دور مساند. إن كانت الحرية التي اكتسبتها من هذه الأرض تعني شيئاً، فأنا بالفعل أعتز بها. أشعر بالفخر لأنني بت قادرة على قول ‘لا’ بصوت مرتفع وواضح. ‘لا’ لحياة تراني فيها مجرد إلحاق أو ظل. أريد أن أعيش كزهورة ذات كيان مستقل، ليست فقط صدى لوجودك. وفي ذلك الزمان الحاسم، وسط ضجيج الشوارع المليئة بالحياة، والأصوات المتداخلة التي ترسم صورة معقدة، شعر هو، المفكر، بأنه تحول إلى جزيرة معزولة وسط بحر عاتِ. النساء اللواتي يمررن بجانبه، كل واحدة منهن تحمل عالمها الخاص، قصتها الفريدة، تحصيناتها التي لا يمكن للفلسفة وحدها اختراقها. وها هو يراقبهن، كمشاهد ينظر إلى مسرحية في عالم بديل، عالم لم يعد يعتبره موطنه. كل امرأة تمر بجانبه تصبح مرآة تعكس فشله، تذكيرًا بعجزه عن استيعاب الآخر، عن إقامة صلة حقيقية مع الإنسانية التي يشاركونها. وسط الحياة المزدحمة التي لم تعد تحتويه، قرر هذا المفكر أن ينظر إلى الداخل، أن يعيد ترتيب أفكاره، ساعيًا لاستخلاص بعض الحكمة من مرارة ما عاش. زهورة، في خطوة تمرد، تركت العش الزوجي خلفها، وأصبح هو بمفرده، مذهولًا، كأن فمه مفتوح على مصراعيه ليبتلع العالم. والآن، يتجول في شوارع أسلو، يتابع بنظراته كل امرأة تمر، كل واحدة تحمل قصتها، ثقافتها، هويتها. يملأ اليأس عينيه، كأنه يحمل كيسًا متخمًا بالخيبات والمرارات. يتحدث إلى نفسه، يبحث بين الوجوه، يصرخ في صمته وهو يواجه أوهامه المتهاوية. الزواج، بالنسبة له، أصبح كالأرض الخرافية التي لا يمكن بلوغها، قد يكون قرر التحول إلى فيلسوف العزوبية، يستخدم ذكاءه لفك شفرات خيبته، لعله يجد في تأملاته نوعًا من السلوى أو حتى الإلهام لنقد لاذع يرسم به ملامح عالم النساء، ذلك العالم الذي بات له بمثابة لغز مستعصٍ على الفهم.