:مدخل
لاشك أني سررت كثيرا بصدور هذا الكتاب (حميد ناصر خوجة الى آخر نفس في الشعر) للكاتب والباحث الجزائري الأستاذ خضرون عمر ، خاصة وأنه يتناول مسار وسيرة صديقه الشاعر والأكاديمي الجزائري الدكتور حميد ناصر خوجة في الأدب والحياة .
وبالتالي فإن ما يقوله في هذا الكتاب ، أعتقد أنه يكتسي من المشروعية الشهاداتية ، ثم المشروعية النقدية ما يجعله قابلا للصدقية والموضوعية ما أمكنه ذلك .
طالما أن الفصل الأول من هذا الكتاب الذي أعطاه عنوانا بارزا (حميد ناصر خوجة إلى آخر نفس في الشعر ) .
يتراوح بين الشهادة السيرية التي يمثل لها خضرون عمر بهذا النص الحميمي في شهادته الثمينة بحق صديقه الدكتور حميد ناصر خوجة .
وبين الإعلان عن شكل من أشكال التحليل النقدي المستخلص من قراءاته المتعددة لنصوص حميد ناصر خوجة في الشعر والرواية والنقد الأكاديمي .
وهو ما سنتعرض له في الصفحات القادمة من هذا المقال بشيء من التفصيل .
لقد تضمن الكتاب مقدمة ثمينة كتبها الصديق الدكتور هزرشي عبد الباقي لهذا الكتاب . وهذه المقدمة هي أيضا شهادة أخرى قدمها هزرشي عبد الباقي في حق صديقيه خضرون عمر وحميد ناصر خوجة .
:ثم فصلين
:الفصل الأول
خصصه خضرون عمر لذلك العمل الجامع بين الشهادة والنقد وحمل عنوان ( حميد ناصر خوجة الى آخر نفس في الشعر ) .
:فيما الفصل الثاني
( اليد الممدودة سيرة في أجزاء كما يرويها الأصدقاء والأقارب وكما يرويها ناصر خوجة في شعره ونثره ) .
فوضع فيه أمام القراء بعض الشهادات الثمينة من لدن أصدقاء حميد ناصر خوجة من التيارين تيار اللغة الفرنسية وتيار اللغة العربية .
وبعض هذه الشهادات يكشف خضرون عمر بأنه قام بترجمتها للغة العربية ، وهي لرفقاء له في النقد والإبداع يذكر من بينهم غي دوغاس ودي سيكاتي وكريستان شولي عاشور ودونيز براهيمي ولزهاري لبتر ومزيان فرحاني ويوسف مراحي .
وشهادات أخرى لكتاب آخرين من الذين يكتبون باللغة العربية على غرار حميدة عبد القادر ويحي بومعقل وقلولي بن ساعد وسليمان جوادي وعبد الوهاب عيساوي وميلود يبرير ومحمد بوطغان وهزرشي عبد الباقي وغيرهم .
ورغم أنه لا يمكن القفز على القسم الثاني من الكتاب ( اليد الممدودة سيرة في أجزاء كما يرويها الأصدقاء والطلاب والأقارب وكما يرويها ناصر في نثره وشعره ) .
فإني أشعر بأن هذا القسم الثاني من الكتاب بما يتضمنه من شهادات مترجمة وأخرى مكتوبة أصلا بالعربية أمر بعيد عني كل البعد تاركا أمر الحديث عن الترجمة والنقد الترجمي لغيري من المتخصصين في حقل الترجمة ، لكوني أدرك بأن النقد الترجمي مجال لا رصيد لي فيه ، ولا يمكن لي الاعتداء على حقل ثقافي لست من المساهمين فيه .
أولا شهادة خضرون عمر في حق صديقه حميد ناصر خوجة
يعنى بالشهادة هنا الملفوظ الخطابي الذي يصرح به مخاطب عن غائب أو حاضر من كلام موثوق به يمثل على ما يرى المفكر التونسي فتحي المسكيني ” شهادة في موقف خطابي داخل دولة المواطنة المدنية ” (01) .
بشرط أن تتوفر في الشاهد جملة من الخصائص والمميزات ، يفرق فيها أرسطو بحسب منظور فتحي المسكيني ” بين شهود قدماء مثل الشعراء والعرافين والكتاب الذين يؤخذ بأقوالهم في أية مشاورة بين المواطنين ، وشهود جدد مثل الأشخاص المعروفين الذين أصدروا أحكاما وصار الناس يأخذون بها في نقاشاتهم حول مسائل مشابهة ” (02) .
وأعتقد بحسب معرفتي الشخصية بالرجلين حميد ناصر خوجة وخضرون عمر أن خضرون عمر من الصنف الأول ، وأنه يملك من المشروعية ما يضفي على خطابه الشهاداتي من الصدقية ما يؤهله لأداء هذه الشهادة بامتياز .
وهذه الشهادة بالطبع ليست شهادة شفوية ، ولا هي شهادة مرئية أو مسموعة كتلك الشهادات التي يدلي بها الرفقاء في الأفلام الوثائقية وفي الحصص الاذاعية والتلفزية .
إنها شهادة كتبها خضرون عمر ثم وضعها داخل كتاب لحمايتها من التلف والنسيان كتبها بلغة سردية هي أشبه ما يسميه الدكتور محمد بوعزة في كتابه (سرديات ثقافية من سياسات الهوية إلى سياسات الإختلاف ) ( بالسرديات الثقافية ) .
طالما أنها لا تتناول فقط مسار حميد ناصر خوجة في الحياة ، منذ أن جاء إلى الجلفة وقرر الإقامة فيها سنة 1979 قادما إليها من الجزائر العاصمة سنوات قليلة بعد حادثة اغتيال أستاذه جان سيناك سنة 1973 .
بل تتجاوز ذلك إلى التعرض لهموم ناصر خوجة الثقافية ، وانشغاله بالكتابة الابداعية والنقدية ضمن مجال تخصصه ( الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية ) .
كتبها وليس في ذهنه أن يكتب سيرة شخصية للدكتور حميد ناصر خوجة ، فالسيرة الذاتية أو السيرة الفكرية تحديدا ، وأنا أفضل بصراحة استخدام مفهوم السيرة الفكرية بدل السيرة الذاتية .
لأن السيرة الذاتية يمكن أن يكتبها أي شخص حتى ولوكان من غير المثقفين ، بينما السيرة الفكرية .
فهي تلك التي تحيل إلى ( ذات عالمة ) بمفهوم محمد عابد الجابري أو (شخصية مفهومية) بتعبير الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز هو المثقف بالمعنى الذي يتجلى في عنوان كتاب مهم للناقد المصري الدكتور صلاح فضل هو ( عن النقد وعشق التميز مقاطع من سيرة فكرية ) .
قلت فالسيرة الذاتية أو السيرة الفكرية كان يمكن أن يكتبها ناصر خوجة نفسه قبل مغادرته الحياة ، حتى ولو أن القاريء يمكن له أن يعثر على شظايا من هذه السيرة في نصه الروائي (توأم أو النعيم البائس ) ، الذي صدر قبل رحيله عن الحياة في باريس في طبعته الأولى .
ثم صدر بعد وفاته عن دار الكلمة بالجزائر في طبعة ثانية ، ضمن ذلك الأفق الاجناسي من الرواية الذي يسمى في النقد المعاصر (بالرواية السيرية ) .
وهو الأمر الذي لا يتردد خضرون عمر في الخوض فيه عندما لا يجازف في اعتبار ( توم أو النعيم البائس ) سيرة ذاتية .
” هل هي سيرة ذاتية .. ؟ لا يمكن لي أن أتجرأ على قول ذلك ” (03) .
وليس في ذلك حرج والآية على ما نرى أغلب النصوص الروائية العربية المكتوبة في أفق ما بعد المثاقفة هي في منظور النقد العربي سير ذاتية مقنعة أو مضمرة .
والروائي السعودي المعروف عبد الرحمان منيف لا يتردد في القول بأن الرواية العربية المعاصرة أغلبها سيرة من لا سيرة له .
الرواية التي تتخذ من ذات الكاتب متكأ لها ، عبر ذلك المعطى النقدي الذي تسميه فيلسوفة الجندر الأمريكية جوديت بتلر ( الذات تصف نفسها ) .
ولا يبدوا أن كتابة النصوص السيرية من طرف كتاب لكتاب آخرين حدثا غريبا عن عالم الأدب ، فقد قرأت قبل سنة سيرة مهمة للفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا كتبها أحد طلبته وهو بونوا بيتيرز بعنوان ( البحث عن ديريدا دفتر كاتب سيري ) .
ومثلما فعل الشاعر والروائي أحمد عبد الكريم عندما كتب روايته (رسول الفضة ) .
وهي رواية سيرية خصصها أحمد عبد الكريم للبحث في مسارات الشاعر الشعبي التخي عبد الله بن كريو في الأدب والقضاء والحياة .
وخضرون عمر لا يزعم أنه كتب سيرة غيرية هي سيرة حميد ناصر خوجة ( ومن في وسعه أن يدعي ذلك ؟ )
وكل ما كان يطمح له خضرون عمر ، هو أن يسجل موقفا من مواقف الوفاء لقيم الصداقة القيم التي يؤمن بها خضرون ويمارسها في حياته اليومية .
وهنا يعود بنا الأستاذ خضرون عمر إلى تلك المصادفة الفارقة من الزمن الثقافي ، عندما تعرف على حميد ناصر خوجة واقترب منه ومن عوالمه الوجدانية والثقافية سنة 1981 ، وانطلاقا من هذا اللقاء التاريخي صار خضرون عمر باعترافه الشخصي على دراية واسعة بأدق التفاصيل من حياة ناصر خوجة ، وعلى علم مستمر بمتاعبه المهنية والصحية ، وعلى صلة بأفراد أسرته في الجلفة ، وفي حي صالومبي بالجزائر العاصمة الذي نشأ فيه وكذا فرنسا مكان اقامة والديه المهاجرين .
وعندما يتأسف خضرون عمر لحصول بعض المتاعب الصحية التي كان يتعرض لها صديقه حميد ناصر خوجة ، فهو بالتأكيد يشير إلى حادثة دخول حميد ناصر خوجة المستشفى الجامعي مصطفى باشا بالجزائر العاصمة سنة 2005 وقتها خضع حميد ناصر خوجة لعملية استئصال لإحدى كليتيه التي أصيبت بالتلف وصارت تعرضه للألم الشديد .
لقد واجه ناصر خوجة يقول خضرون عمر مصيره بكل رضا ثم اعترف بعد ذلك لصديقه خضرون عمر بأنه لم يعد في كامل قواه ، وأنه أصبح يشعر بالتعب .
والحق أن خضرون عمر يشدد كثيرا على تلك المصادفة العجيبة من الزمن الثقافي الجلفاوي التي جرت أطوارها سنة 1981 .
وهي السنة التي أسس فيها الأصدقاء حميد ناصرخوجة وخضرون عمر والمخرج السينمائي الشاب محمد كاكي ، الذي غادر الحياة مبكرا جمعية ثقافية يرأسها محمد كاكي ( وشخصيا فقد عمل معي محمد كاكي بمستشفى الجلفة في نهاية الثمانينيات من القرن المنصرم كنت أعرف آنذاك أنه طبيب لكني كنت أجهل تماما نشاطه السينمائي ) .
لقد أطلقوا على تلك الجمعية تسمية جمعية الألوان الطبيعية .
ويكشف خضرون عمر بأنها من الجمعيات القليلة التي أنشأت في الجزائر في زمن الشاذلي بن جديد المتميز بالانفتاح .
أجل لقد كان الفضل كله يعود الى ناصر خوجة الذي كان يسعى بحكم منصبه كإطار اداري بالولاية لضمان التمويل السنوي والرعاية الإدارية لهذه الجمعية الفتية .
وهي كلها عوامل مهمة ساعدت رفقاء ناصر خوجة على استقدام أعمال سينمائية ومسرحية ، واقتراح مشاهدتها على الجمهور ، مثل مسرحية حافلة تسير المسرحية التي مثلها عز الدين مجوبي واقتبسها زياني شريف عياد من نص روائي للروائي المصري إحسان عبد القدوس .
لقد وافقت يضيف خضرون عمر السلطات المحلية بالجلفة على عرض هذا العمل الفني بشابيك مغلقة بقاعة سينما الكواكب ودفع مصاريف منتجي هذا العرض المسرحي .
وهنا ينبه خضرون عمر على ما حدث لهذه القاعة المهمة من تحولات ( قاعة سينما الكواكب ) التي كانت تدعى في الزمن الغابر سينما جاكوب ثم هدمت ليشيد على أنفاضها بناء جميل .
سمي قاعة سينما الكواكب ثم قاعة ابن رشد ثم قاعة الشهيد زيتوني محمد ، هذه أسماء كما يستنتج خضرون عمر وعلى الرغم من أهميتها فالبناء صار مجرد هيكل يستيقظ من حين لآخر .
ويقدم خضرون عمر لائحة طويلة لعدد من العروض المسرحية والأفلام السينمائية التي قامت جمعية الألوان الطبيعية بعرضها على الجمهور .
على غرار عرض فيلم حورية الذي عرض في سينما الكواكب بحضور كاتبته الروائية حواء جبالي بالإضافة أفلام أخرى يقول خضرون عمر أن متفرجيها لم يتجاوزوا أصابع اليد الواحدة .
ليس هذا فقط بل إن جمعية الألوان الطبيعية برئاسة المرحوم محمد كاكي ورعاية ناصر خوجة قدمت مساهمات غير مسبوقة في الانتاج السينمائي بحسب شهادة خضرون عمر بواسطة تقنية ( السوبر 08 ) مكنت الجماعة ( جماعة ناصر خوجة وخضرون عمر ومحمد كاكي ) من المشاركة في أول مهرجان وطني لسينما الهواة أقيم في مسرح الكازيف الكائن بسيدي فرج شهر جوان 1983 .
وهي المساهمات التي ستشكل لاحقا الخلفية الثقافية أو ( الإطار المرجعي ) بمفهوم المفكر المغربي محمد عابد الجابري لبدايات تشكل موهبة خضرون عمر في النقد السينمائي النقد الذي مارسه لفترة من الزمن ولا زال بين الحين والآخر يتحف القراء ببعض إضاءاته النقدية في حقل النقد السينمائي .
والحق يقال أن خضرون عمر لا يكاد يغادر فضاء جمعية الألوان الطبيعية ، دون أن يذكر القاريء بأنهم في هذه الجمعية أنشأوا لها مجلة سميت بمجلة الخيمة ، طبعت لدى مطابع مجلة الوحدة التابعة آنذاك للاتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية وصدر منها عدد واحد فقط لافتا القاريء إلى جذوة الحماس التي كانت ترواد ناصر خوجة وهو يحث جماعته على مواصلة العمل الثقافي .
الحماس الذي سيرافق ناصر خوجة لاحقا وبعد أكثر من خمسة عشر سنة إلى فضاء آخر هو فضاء جماعة حضور، الجماعة التي تشكلت بعد تنصيب الشاعر سليمان جوادي مديرا للثقافة بالجلفة .
ثم شرعت في تنظيم بعض اللقاءات الأدبية على غرار ندوة السينما والأدب وملتقى المرأة والكتابة وغيرها من المواعيد الثقافية ، التي لا يغفل عنها خضرون عمر مثلما لا يتناسى دور حميد ناصر خوجة المحوري فيها .
لقد نشر خضرون عمر بحثا مهما عن مشاركة اولاد نائل في عهد الأمير عبد القادر بالعدد الأول من مجلة حضور ، ويكشف خضرون عمر بأنه لولا اطلاعه على الأرشيف الهائل الذي يحتفظ به حميد ناصر خوجة في بيته ما كان يمكن له أن ينجز هذا البحث .
ويتأسف خضرون عمر على أن مجلة حضور لم تستمر ولم يصدر منها سوى عدد واحد لكن مجلة مسارات التي خلفتها تمكنت من المقاومة وإصدار ثلاثة اعداد .
ولم يكن ليتم ذلك في نظر خضرون عمر لولا اصرار حميد ناصر خوجة وقلولي بن ساعد
ولكي يستجلي خضرون عمر علاقة ناصر خوجة بالقراءة وبالكتاب .
فهو لم يتردد في الكشف عن زهد ناصر خوجة في ما يسمى بالرحلات العلمية التي يضاعف منها زملاؤه في الجامعة وبلا أي مردود يذكر .
وإذ حدث ذلك والعهدة على الراوي ، فإنه لا يسافر إلا لفرنسا موطن دراساته الأكاديمية ، وهناك يمضي كامل اوقاته في التنقل بين المكتبات وجامعة السوربون أو معتكفا اعتكاف الزهاد بين أروقة المكتبة الوطنية الفرنسية الكائنة بالمقاطعة الثالثة عشر بباريس مفصلا كالعادة السياحة بين الكتب ، لأنها تمنحه والقول لخضرون عمر إمكانية السفر كل يوم وليلة بل كل دقيقة بين الكتب الأكثر سعادة ومتعة .
وبالطبع لم يكن خضرون عمر ينتظر ما حل بناصر خوجة عندما أصيب بسرطان الرئة ، وهنا صار خضرون عمر ينتقل للجلفة كل نهاية أسبوع رغم الضوابط الإدارية المحيطة به وثمة أكثر من علامة تدل دلالة واضحة على وقوف خضرون عمر مع صديقه ناصر خوجة في اللحظات الأخيرة من حياته .
وسأكتفي هنا بهذه الواقعة التي يرويها خضرون عمر ، وهو لا يزايد فعندما دخل عليه ووجده يقرأ القرآن الكريم على ترجمة حميد الله ويتابع معانيه على جهاز الكومبيوتر ، الذي كان موضوعا غير بعيد على أسماعه ، كان ساعتها عبد الباسط عبد الصمد يتلوا بصوته القاطع والحزين آيات شجية من سورة البقرة ملأت الغرفة بالأوجاع والمناجاة .
ثم سرعان ما قرأ خضرون عمر على أسماع ناصر خوجة ترجمة أجراها على عجل لواحدة من قصائد ناصر خوجة من مجموعته الشعرية ( بعد اليد )
(Apres.lamain)
إلهي أناجيك
أنت الذي قلدتني وسام الشعر
دون لآليء
دون أهوال من جنس
ولا أجنة من دم
وحيدا
في عظام سيئة النخاع .
القصائد التي كان يرى خضرون عمر أنها تختزل ما كان يسميه نقاد حميد ناصر خوجة
بأنه شاعر الأرض العميقة
)Laprofond.eterre.du.verbe.aimer(
ثانيا خضرون عمر ناقدا لنصوص حميد ناصر خوجة الشعرية والروائية والنقدية
تتخلل الشهادة الحية التي كتبها خضرون عمر في حق صديقه الباحث والشاعر الجزائري حميد ناصر خوجة ، بعض الآراء النقدية المتفرقة في نصوص حميد ناصر خوجة سواء تعلق الأمر بنصوصه النقدية على غرار كتابه المهم ( كامو سيناك أو الابن المتمرد ) الكتاب الوحيد المترجم إلى اللغة العربية وبعض كتبه النقدية الأخرى المنشورة باللغة الفرنسية أم مجموعته الشعرية (بعد اليد ) ، أم بروايته الرواية الوحيدة التي نشرها في طبعة محدودة بباريس ، ثم نشرت مرة أخرى عن دار الكلمة في طبعة أخرى الرواية الحاملة لعنوان (توم أو النعيم البائس ) .
(Jumeau،auun.bouhe.ur.pouvre)
وبالطبع فخضرون عمر لا يقدم نفسه بوصفه ناقدا لنصوص حميد ناصر خوجة المختلفة وعمله لا يتعدى مجرد تقديم بعض الآراء النسبية في مجمل النصوص الأدبية التي قرأها لناصر خوجة ، وترجمة بعض المقالات منها للغة الضاد بوصفه مثقفا مزدوج اللغة ومن المشتغلين في حقل الترجمة الأدبية .
وهي آراء نابعة من كونه قارئا جيدا لنصوص صديقه حميد ناصر خوجة كما لنصوص غيره من الكتاب الجزائريين والأجانب باللغتين العربية والفرنسية .
وليس هذا غريبا عنه فأغلب نظريات التلقي والقراءة انبثقت من تجارب قراء عاديين سرعان ما تحولوا مع الأيام والسنوات إلى قراء متخصصين ، ثم إلى نقاد قدموا إضافات نقدية رائعة انطلاقا من أفق التلقي الذي تدرجوا عليه في مراحل تكوينهم التربوي والقرائي .
منذ أن بدأوا رحلتهم مع فعل القراءة والبحث عن ( المتعة النصية ) بتعبير رولان بارت كفعل سوسيو – حضاري أثثوا به لمخيالاتهم البعيدة بأصولها ، وعناصر نشأتها الحاصلة من أعماق النصوص التي تعلقوا وهاموا بها محبة وولعا وتطلعا إلى النهل من عيون المعرفة والإبداع العابر لأزمنة الامتلاء الناقص ، ولأسئلة المعنى المشرع على احتمالات القراءة وقدرتها على فض ما تنطوي عليه بنيات النص وعناصر وجوده الداخلية المحجوبة أو المسكوت عنها .
وربما كان يستمد أدوات التحليل النقدي الذي يقدمه في نصوص صديقه حميد ناصر خوجة من تجاربه السابقة على صعيد النقد السينمائي الذي مارسه خضرون عمر على مدى أكثر من عشرين سنة .
هذا ما يعني من أن قيم الصداقة التي جمعت بين خضرون عمر وحميد ناصر خوجة ، وحتى بين الدكتور هزرشي عبد الباقي الحاضر في هذا الكتاب حضورا قويا من خلال نص الشهادة التي كتبها خضرون في حق صديقه حميد ناصر خوجة ليست قيما إنسانية فقط بل هي قيم فكرية .
ثم من خلال المقدمة التي كتبها هزرشي عبد الباقي لهذا الكتاب ، وهي بالطبع مقدمة غيرية طبقا للفرق الذي تقيمه الناقدة المغربية الدكتورة بديعة الطاهري في كتابها ( السرد وانتاج المعنى ) بين المقدمة الذاتية وهي مقدمة المؤلف صاحب الكتاب لكتابه وبين المقدمة الغيرية التي يكتبها كاتب آخر لكتاب ليس من تأليفه .
و مقدمة هزرشي عبد الباقي هنا تعتبر شهادة مزدوجة لا تخص خضرون عمر وحده بل تربط بين الأصدقاء الثلاث هزرشي عبد الباقي وخضرون عمر وناصر خوجة .
أجل إنها قيم فكرية ، ولا ينبغي نسيان ذلك المفهوم الذي أرسى دعائمه النظرية والمفهومية الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا عن ( الصداقة الفكرية ) .
كتلك التي تحدث عنها في كتابه ( أحادية الآخر اللغوية ) ناسجا هذه الصداقة ( الصداقة الفكرية ) مع صديقه المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي ، انطلاقا من ذلك اللقاء الثقافي الذي جمع بينهما في مدينة لويزيانا الفرنسية ، إذ يشدد ديريدا على أنه “من بين المشاركين
هناك مشاركان اثنان هما عبد الكبير الخطيبي وديريدا يتقاسمان قدرا واحدا معطوفا على صداقة قديمة تمتزج فيها مؤثرات القلب والذاكرة ويعيشان وضعا خاصا بالنسبة للغة والثقافة ” (04) ..
وهي الصداقة التي حتمت على كاتب آخر يبدوا أنه من أسرة الخطيبي يدعى مراد الخطيبي على كتابة بحث مهم حمل عنوان ( عبد الكبير الخطيبي وجاك ديريدا أو الخيوط الناعمة بين الصداقة الإنسانية والصداقة الفكرية ) ، نشر ضمن كتاب جماعي أشرف عليه الناقد الجزائري الدكتور محمد بكاي عن ( جاك ديريدا فيلسوف الهوامش تأملات في التفكيك والكتابة والسياسة ) .
وبدوره عبد الكبير الخطيبي عندما يستدعي مفهومه للصداقة فهي ” تأخذ عنده عدة أشكال وصيغ يصل مداها إلى مستوى التحاب فأن تحب يقول هو أن تفكر ” (05) .
هذا هو المعنى المقصود من الصداقة الفكرية التي قادت الأستاذ خضرون عمر إلى تقديم بعض التأملات النقدية في نصوص أستاذه حميد ناصر خوجة .
وأستخدم هنا مفهوم التلمذة بالمعنى الذي يجعلني أعود به إلى ( إطاره المرجعي ) بمفهوم المفكر العربي محمد عابد الجابري أي إلى الناقد والفيلسوف هانس جورج غادامير .
عندما كتب سيرته الذاتية ( التلمذة الفلسفية ) معترفا بالفضل لأستاذه هايدغر الذي كتب عنه كتابا آخر بعنوان ( طرق هايدغر ) .
فعل ذلك خضرون عمر ، وفي ذهنه أن ناصر خوجة هو الآخر لا يكف عن اعترافه بالفضل لأستاذه جان سيناك الذي تعلم منه دروسا مهمة لا زال ينهل منها وهي كل زاده ومتاعه في حياته الفكرية .
مؤمنا كل الايمان بمقولة جان سيناك الغنية عن كل تعريف ” بأن المعلم ليس من تقلده دون تفكير بل هو الشخص الذي يكرمك ويعلمك الحرفة دون اعتبار من الاعتبارات الأخرى ” (06) .
ولولا هذه الصداقة الفكرية ما كان يمكن لخضرون عمر أن يذهب بعيدا إلى حد عقد نوع من المقارنة هي قريبة جدا مما يسمى في النقد المعاصر بالنقد المقارن بين ناصر خوجة من جهة وسان جون بيرس من جهة أخرى .
وهذه المقارنة لا يمكن ان تتأتى لأحد إلا إذا كان على معرفة عميقة بإنتاجية دروس الأدب المقارن من جهة ، ثم على معرفة أخرى هي المعرفة بالتجربة الذاتية للشاعرين حميد ناصر خوجة وسان جون بيرس .
والغريب في الأمر أن خضرون عمر لا ينخرط في هذه المقارنة بنوع من السقوط في ( سلطة النموذج ) بمفهوم الناقد العراقي عباس عبد جاسم فلا يجعل ناصر خوجة تابعا أو مقلدا لسان جون بيرس .
وهذه فضيلة نقدية تحسب له لا عليه .
فيكشف للقاريء بأن ناصر خوجة عاش حياة مشابهة للحياة التي عاشها سان جون بيرس الذي كان ناصر خوجة عاشقا لشعره متيما به .
على اعتبار أن سان جان بيرس قد شغل بعض المهام الإدارية مثله مثل حميد ناصر خوجة أولا كمكلف بالإعلام لدى وزير الخارجية الفرنسي ، ثم رئيس ديوان بذات الوزارة ثم مبعوثا للصين ومنغوليا وغيرها من الوظائف الادارية التي لم تصرفه عن كتابة الشعر ، وكذلك حدث مع حميد ناصر خوجة الذي عمل إطارا بالولاية ( ولاية الجلفة ) ، ثم رئيس دائرة في كل من المسيلة وباتنة قبل أن يلتحق بالجامعة كأستاذ للغة الفرنسية والأدب المقارن .
والدليل على ذلك في نظر خضرون عمر أن قصائد حميد ناصر خوجة الأولى التي كان يرسلها لبرنامج (شعر على كل الجبهات ) .
البرنامج الاذاعي الذي كان يعده جان سيناك ، هي القصائد التي خرجت من رحم أحلامه الهائجة المتمردة .
لكن خضرون عمر يكشف بأن ناصر خوجة لم ينشر نصوصه الشعرية إلا متأخرا وبقيت بعيدة عن التداول الإعلامي والنقدي سواء تعلق الأمر بالنقد الأدبي الأكاديمي أم بالنقد الحر الخارج عن سلطة المأسسة الأكاديمية ، رغم الشهادة الثمينة التي كان يرددها جان سيناك بشأن نصوص حميد ناصر خوجة الشعرية بأن نصوص ناصر خوجة ” لم تبح بعد بكل أسرارها ” (07) .
وهي الشهادة التي يستقيها خضرون عمر مما ورد على لسان الشاعر الجزائري أحمد حمدي .
الأمر الذي جعل ناصر خوجة يمتن كثيرا لهذه الرعاية من جان سيناك نحوه الرعاية التي حولها حميد ناصر خوجة إلى عربون وفاء من ناصر خوجة نحو أستاذه جان سيناك الوفاء الذي لم يتردد الأستاذ خضرون عمر إلى الوقوف عليه في هذه الشهادة الثمينة .
وهي نوع من أنواع ” الرأسمال الرمزي ” بمفهوم السوسيولوجي الفرنسي بيار بورديو الذي يقابله خضرون عمر بتلك المقارنة بين أبواب المال والجاه المسدودة في وجوه المثقفين وأبواب العلم والتعلم التي تظل متاحة لهم بشكل واسع ، واضعا بعين الاعتبار بأن ناصر خوجة كان من الزاهدين في متع الحياة ومن المخلصين للكتابة والإبداع .
وفي هذا السياق لا يفتأ خضرون عمر من التأكيد على فترة التسعينيات الفترة التي كان خضرون عمر شاهدا فيها على انقطاع حميد ناصر خوجة عن العالم الخارجي من أجل التفرغ لكتابة سلسلة من المقالات عن أستاذه جان سيناك .
وصل صداها إلى فرنسا الأمر الذي جعل ناقدا فرنسيا هو غي دوغاس المتخصص في الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية يتعاون معه في هذا الملف .
وبالطبع فهذا الناقد الفرنسي غي دوغاس هو الذي سيشرف لاحقا على رسالة حميد ناصر خوجة بجامعة السوربون الرسالة التي سيفكك فيها حميد ناصر خوجة علاقة كامو بسيناك من خلال كتابه الشهير ( كامو سيناك أو الابن المتمرد ) .
الكتاب الذي مارس فيه ناصر خوجة نوعا من النقد هو النقد التوثيقي الرسائلي بالاعتماد على نصوص سيناك الشعرية وآراءه في العديد من القضايا الثقافية والتاريخية ، بما في ذلك الرسائل المتبادلة بين سيناك وكامو وبين سيناك وعدد من أصدقاء كامو وأصدقاء سيناك من الضفتين الجزائرية والفرنسية .
وليس غريبا ابدا أن ينخرط غي دوغاس في كتابة مقدمة نقدية لهذا الكتاب معترفا بالفضل الكبير لناصر خوجة الذي كان في نظره المثقف الجزائري الوحيد الذي تحمل بعد وفاة الطاهر جاووت ورابح بلعمري المسؤولية الثقيلة والمشرفة .
مسؤولية جمع آثار جان سيناك والكتابة عنها بل وقراءتها ضمن أفق آخر هو الأفق النقدي الجامعي الذي انخرط فيه ناصر خوجة انطلاقا مما توفر لديه على مر السنوات من أرشيف ثقافي كفيل بإعادة لملمة من تناثر من شظايا ثقافية كان تصل جان سيناك بتلامذته وبالمحيطين به من المثقفين من هنا وهناك .
وأهم ما يمكن استخلاصه من قراءة خضرون عمر لكتاب حميد ناصر خوجة ( كامو سيناك أو الابن المتمرد ) . هو أن خضرون عمر لا يجامل أبدا حميد ناصر خوجة على الرغم من الصداقة العميقة التي تربط بين الرجلين .
والدليل على ذلك هو أن ناصر خوجة لا يعلن في نظر خضرون عمر بشكل صريح عن الهدف من اختياره لهذا الموضوع الشائك ، وخضرون عمر هو الذي يستنتج بأن ما كان يهم ناصر خوجة هو تسليط الضوء على جانب معين من تاريخ المقاومة الجزائرية ممثلة في كتاب فرنسيين ولدوا بالجزائر وكانوا معنيين بشكل أو آخر بمعاناة الشعب الجزائري أثناء الحقبة الاستعمارية .
لقد كانت بعض إضاءات خضرون عمر النقدية وهو بصدد (قراءة القراءة ) بحسب المفهوم الذي قام بنحته السوسيولوجي الجزائري الدكتور عمار بلحسن في بعض نصوصه النقدية لماحة و دقيقة ، خاصة عندما يذهب إلى حد الوقوف على بعض الوقائع والاحداثيات في علاقة كامو بسيناك المضطربة فيسجل بأن ناصر خوجة في سرده للوقائع القائمة في علاقة كامو بسيناك لا يدرج أي استنتاج أو دليل دون أن يوثق كل شيء بالأرقام والتواريخ في الوقت الذي يظل فيه متميزا بأقصى درجات التواضع .
فهو في منظور خضرون عمر لا يذكر أبدا امتلاكه الحصري لهذه الوثيقة أو تلك ولا يدعي أنه كان الشاهد الوحيد لهذا التصريح أو ذاك .
ويبدوا أن خضرون عمر لا يكتفي فقط بالتعليق على الكتب المعروفة التي أصدرها ناصر خوجة .
بل نجده يقدم بعض الآراء الأخرى في كتب أخرى لناصر خوجة خصصها لأستاذه جان سيناك على غرار كتاب (سيناك لدى أدموند شارلو ) مقدما نبذة عن أدموند شارلو بأنه من مواليد الجزائر ومن المثقفين المقاومين للنازية ولنظام فيشي ومن المناصرين للقضايا العادلة في العالم .
في هذا الكتاب يكشف خضرون عمر عن مضمون الكتاب انطلاقا من عنوانه (سيناك لدى أدموند شارلو ) بوصف العنوان ( عتبة نصية ) بمفهوم الناقد الفرنسي جيرار جينيت كاشفا عن صلة سيناك بهذا الناشر شارلو الذي نشر وشجع كتاب آخرين من صنف سيناك من الجزائريين وغير الجزائريين .
وهنا يعتبر خضرون عمر بأن هذا الكتاب يعد مرجعا مهما من مراجع الكتابة النقدية في الجزائر ودرسا بليغا للنقاد المتخصصين في النقد الشعري والنقد الفني في مجالات الأدب المتعددة وفي حقول الفن التشكيلي .
أو على غرار كتاب (جان سيناك ناقدا ) الكتاب الذي لم يترجم بعد للغة العربية وهو كتاب ضخم يجمع فيه ناصر خوجة بعض مقالات جان سيناك لمحاولة قراءتها بوصفها تعبر عن الحس النقدي الذي مارسه جان سيناك .
ولأول مرة في تاريخ النقد الأدبي الجزائري والنقد الفني معا يكشف حميد ناصر خوجة بحسب شهادة خضرون عمر عن انبثاق مدرسة فنية جزائرية ، هي ما يدعى ( مدرسة الاشارات ) في الفن للدلالة على اتجاه في الرسم فريد في العالم أصبح يتميز به الفن في شمال إفريقيا مستخلصا من كلام ناصر خوجة القائل بأن :
” سيناك هو من نطق بهذه العبارة ( مدرسة الاشارات ) عام 1955 ، عندما قدم لوحات خدة في صالونات باريس ثم سعى إلى دعوة رسامين آخرين مثل مارتينيز وأكسوح وأطلق على هذا الاتجاه اسم مدرسة الإشارات ” (08) .
ولعل السؤال الذي يفرض نفسه من بين أسئلة أخرى عديدة ناقشها خضرون عمر في هذا الفصل من كتابه (حميد ناصر خوجة الى آخر نفس في الشعر ) .
هو ما موقع رواية (توم أو النعيم البائس ) ، الرواية الوحيدة التي كتبها ناصر خوجة ونشرت في طبعتين واحدة في باريس وأخرى في الجزائر .. ؟.
وما موقع شعرية ناصر خوجة من خلال مجموعته الشعرية (بعد اليد ) من الرؤية النقدية لخضرون عمر .. ؟
التي تتوارى خلف شهادة الأستاذ خضرون عمر بوصفها أحد الأنساق الثقافية المضمرة بالمعنى الذي يطرحه ناقد سعودي هو الدكتور عبد الله الغذامي عبر أطروحته عن النقد الثقافي الأطروحة الماثلة في كتابه المهم ( النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربية ) .
لقد ذكرنا في مستهل هذا المقال أن الأستاذ خضرون عمر لا يجازف في اعتبار ( توم أو النعيم البائس ) سيرة ذاتية .
ومع ذلك فخضرون عمر يقدم بعض الإضاءات التي يستقيها من عوالم الرواية ( توم أو النعيم البائس ) ، ومن بعض مسارات حميد ناصر خوجة في الحياة التي يعرفها خضرون معرفة عميقة بحكم صداقته الطويلة لناصر خوجة منذ أن جاء إلى الجلفة سنة 1979 قادما إليها من الجزائر العاصمة ، ومنها اعتبار ناصر خوجة بأن ( نية ) وهو الشخصية المحورية في الرواية توأما له أو أخا طبيعيا في الإبداع والمعاناة ، ولأجل هذا السبب يستنتج خضرون عمر بأن ناصر خوجة أسمى روايته توأم ثم التوأم البصير ثم استقر على هذا العنوان (توم أو النعيم البائس ) .
وينبه الأستاذ خضرون عمر القاريء بأنه قد يختلط الأمر على فصيل آخر من القراء من غير المتعودين على مهارات الروائيين في التلاعب بالضمائر ، وفي منظورات الرواة والسراد وتناقض خطاباتهم أو تطابقها مع خطاب المؤلف ( المؤلف المجرد وليس المؤلف الضمني ) ، في أن النص مكتوب بضمير الغائب في فقرات قليلة من الرواية ، ثم في فقرات أخرى يعمد المؤلف المجرد إلى استعمال ضمير المتكلم كأنه هو ويقصد هنا خضرون عمر ناصر خوجة .
وهذا النوع من التلاعب الضمائري هو الذي يطلق عليه الغذامي في أطروحته عن النقد الثقافي (التورية الثقافية ) .
ومهما يكن من أمر فخضرون عمر لا يغيب عن ذهنه أبدا أن الرواية تشير إلى أحداث محددة تتوافق مع أحداث أخرى لها علاقة وطيدة بحياة ناصر خوجة ، ذاكرا منها على سبيل المثال تاريخ الميلاد ميلاد نية وميلاد ناصر خوجة ثم تاريخ لقاءه الأول بجان سيناك وغيرها .
ومن دون شك فجان سيناك لا زال يفرض نفسه على تلميذه حميد ناصر خوجة ، ليس فقط على صعيد الشعر بل أيضا على الصعيد الروائي .
فمما لا يعرفه القراء ويكشف عنه خضرون عمر أن جان سيناك ترك أيضا عملا روائيا هو النص الروائي الوحيد الذي كتبه وفضل عدم نشره عندما كان على قيد الحياة وهذا العمل بعنوان ( بذرة الأب ) .
وتأثير جان سيناك وعمله ( بذرة الأب ) يتجلى بحسب المنظور الذي يقدمه خضرون عمر في ذلك الرعب من قصته ومن عظيم أثرها في تأثر واضح بسيناك وروايته (بذرة الأب ) وفي رغبته في عدم تجاوز رواية الأب ( بذرة الأب ) لأن سيناك بحسب الشهادة التي يستقيها خضرون عمر من الناقد الفرنسي كاي كريانكي كتبها على مراحل بين فيفري 1959 و 1962 .
وأنه ضمنها إشارات واضحة لأحداث معينة من سيرته ورفض نشرها خلال حياته .
وهنا يعقد خضرون عمر نوعا من المقارنة بين ما قام به جان سيناك في ( بذرة الأب ) وحميد ناصر خوجة في (توم أو النعيم البائس ) .
من حيث أن حميد ناصر خوجة هو الآخر لم ينشر روايته (توم أو النعيم البائس ) إلا في الأيام الأخيرة من حياته .
وكان ناصر خوجة والكلام لخضرون عمر يستشهد كثيرا بذلك القول المهم لجان سيناك
” أنا لا أحب سيل الأنهار لكني لا أعرف سبيلا للاختصار لن أمحوا شيئا سأمضي بين الكلمات محمولا بعجلتي نحو نقطة الانصهار التي تدب الحياة في أشلاءها ” (09) .
ورغم أنه لا يمكن اعتبار خضرون عمر ناقدا أسلوبيا بالمعنى المتخصص وهو نفسه لا يدعي ذلك ، غير أن ما سأقف عليه في الصفحات التالية من هذا المقال .
وهو يقدم بعض الإضاءات النقدية من خلال قراءاته لنصوص حميد ناصر خوجة الشعرية توحي بنوع من التحليل الأسلوبي والثقافة الأسلوبية ، وربما كان يحصل هذا من معايشته الطويلة لنصوص ناصر خوجة الشعرية النصوص التي لا تزال بعيدة عن التناول النقدي الأكاديمي منه أو النقد المستقل الخارج عن سلطة المأسسة الأكاديمية .
فيسجل بأنه في ديوان حميد ناصر خوجة الشعري (بعد اليد ) بأن أغلب النصوص كتبت على مراحل متفرقة من الزمان والدليل الذي يقدمه هو تباين لغة الكتابة وتراكيبها الأسلوبية عند ناصر خوجة من نص لأخر ، قارئا بعض عناوين الأقسام التي تندرج داخلها القصائد المختارة للنشر قراءة عتباتية
القسم الاول :
أعطاه العنوان التالي :
قصائد لعشرين سنة من العمر .
وهي كما يرى خضرون عمر قصائد غزل متألمة ، ولكنها شديدة الوضوح والسذاجة .
ولأجل هذا يستنتج خضرون عمر بأن ناصر خوجة رفض نشرها في مستهل حياته الإبداعية لأنه لم يكن راضيا عنها كل الرضا .
فيما القسم الثاني :
حتى ولوكان يتسم بنوع من النضج الذي يشير إليه خضرون عمر ، لكنه لا يتوقف عنده كثيرا .
ويفضل التركيز على القسم الثالث من نصوص الديوان النصوص التي تتجلى فيها نزعة التصوف والإيمان بالنور إن شئنا استخدام المفردات الي يحاول خضرون عمر استعادتها من باطن نصوص حميد ناصر خوجة الشعرية بما يجعل خضرون عمر نفسه يحاول الاستئناس بما كتب عن نصوص ناصر خوجة الشعرية في الفترة الأخيرة من حياته على غرار ما كتبته الناقدة دونيز براهيمي القائلة :
” بان ناصر خوجة يستخدم كثيرا كلمة النور في الديوان وهو يستعمل هذه الكلمة أكثر من مرة بطريقة نادرا ما تكون غير واضحة ” (10) .
وهنا يجد خضرون عمر نفسه مجبرا على تنبيه القاريء مرة أخرى القاريء المعرب المحدود التكوين في بلاغة اللغة الفرنسية إلى واحدة من أساسيات اللغة الفرنسية المتعارف عليها ، تلك التي يرى أنها تنص على أن الكلمة إذ ابتدأت بحرف كبير وكانت في صلب الجملة ، وليس في أولها فإنما يكون ذلك لإضفاء هالة من التقديس عليها بل لإرجاعها إلى الذات الالهية في كثير من الأحيان .
وبالطبع فالأستاذ خضرون عمر لا يشك أبدا في أن هذا النزوع الصوفي في تجربة ناصر خوجة الشعرية في المنعطفات الأخيرة من حياته ، يحيل إلى مشاعر سامية خلصت حميد ناصر خوجة أخيرا من أوهام حب جسدي مستحيل ووضعته في أخضان الرباط المقدس .
هذا هو مآل مثقف نقدي كبير نشأ في أحضان الفضاء الثقافي الإبستيمي للغة الآخر وهي اللغة الفرنسية التي كتب بها كل نصوصه النصوص الشعرية والروائية والنقدية ، لكنه لم ينسلخ عن ذاته وعن موروثه الحضاري والصوفي والديني .
فهل يمكن اعتبار هذا الموقع الذي يشغله حميد ناصر هو أشبه بذلك الموقع الذي شغله قبله المفكر الفلسطيني الفذ إدوارد سعيد وهو موقع ( مفارقة الهوية ) .
بالمعنى الذي يتجلى في ذلك العنوان الصادم الذي وضعه كل من بيل أشكروفت وبال أوهاليا لكتابهما المشترك ( إدوارد سعيد مفارقة الهوية ) ..؟ .
إني أظن أن المصادفة التاريخية وحدها هي التي يمكن لها أن تجمع بين الرجلين تحت ذلك العنوان المهم الذي عبر عنه كل من بيل أشكروفت وبال أوهاليا ، عندما اعتبرا أن إدوارد سعيد المفكر العربي المسيحي العلماني الأمريكي الجنسية الفلسطيني الأصل والهوى المناهض للغرب الاستعماري وللإمبريالية الثقافية المؤسس للنظرية الديكولونيالية الذي يقول أنا من هنا وأنا من هناك ، أنه يجسد فعلا المعنى العميق من (مفارقة الهوية ) ، وكذلك يصح القول عندما يتعلق الأمر بحميد ناصر خوجة المثقف المفرنس الذي لا يعادي اللغة العربية ولا يتردد أبدا في العودة إلى منابعها الثقافية والأنتروبولوجية والموروث الحامل لأنفاسها .
بأن مساره الثقافي المتقلب يعكس بالفعل المعنى القريب مما سمي ( بمفارقة الهوية ) .
وبالطبع لم أستبعد أبدا من حميد ناصر خوجة هذا ( التعالق النصي ) بنصوص التصوف تجربة الحلاج على وجه الخصوص .
وهو بالطبع لا يتنكر للعوالم الإبداعية التي ميزت نصوصه الأولى ، لكنه أيضا لا يتماهى معها ويحاول تخطيها صوب نوع من الحلول الصوفي الديني بالمعنى الايماني العميق .
هذا ما يجعلني أفسر هذه العودة أو ( العود الأبدي ) بتعبير نيتشة تفسيرا قريبا جدا من ما كان يسميه إدوارد بالأسلوب المتأخر ،
ففي كتاب له بعنوان ( عن الأسلوب المتأخر موسيقى وأدب عكس التيار ) الكتاب الذي نشر بعد رحيله عن الحياة .
يفترض إدوارد سعيد ” بأن الفترة الأخيرة أو المتأخرة من الحياة فترة تحلل الجسد واعتلال الصحة أو حلول عوامل أخرى حتى لمن لم يتقادم به العمر تعرف فيها لغة الكتاب في نهاية حياتهم لغة جديدة هي ما أسميه الأسلوب المتأخر ” (11)
وفي نظره فإن أحد العوامل الفاعلة ” في الأسلوب المتأخر الذي يتضمن توترا متنافرا ومضطربا كما يتضمن فوق ذلك نزعة انتاجية تسير بالاتجاه المعاكس عمدا ” (12) .
هذا هو المعنى المقصود مما يسميه إدوارد سعيد ( الأسلوب الأخير أو الأسلوب المتأخر ) .
وهو الأسلوب الذي يميز أغلب نصوص حميد ناصر خوجة الشعرية النصوص الأخيرة
النصوص التي حاول العودة فيها إلى أحضان الموروث الحضاري الصوفي والتعلق به وكتابة نصوص شعرية تغرف من تجارب التصوف العربية والإسلامية .
ولا أريد بالطبع أن أستفيض في هذا الملف لأن هذا المقال بالحدود المرسومة له مخصص لكتاب الأستاذ خضرون عمر (حميد ناصر خوجة الى آخر نفس في الشعر ) وليس لشعرية حميد ناصر خوجة .
وهو الأمر الذي نأجله لفرصة لاحقة بحول الله .
والله الموفق .
مصادر
01) الهجرة إلى الإنسانية فتحي المسكيني / ص 209 / منشورات الاختلاف الجزائر / منشورات ضفاف بيروت 2016
02) الهجرة إلى الإنسانية فتحي المسكيني / ص 209
03) حميد ناصر خوجة إلى آخر نفس في الشعر متبوع باليد الممدودة سيرة في أجزاء / خضرون عمر ص 71 منشورات دار فهرنهايت الجزائر 2024
04 ) أحادية الآخر اللغوية / جاك ديريدا ترجمة عمر مهيبل ص 34 / الطبعة الأولى 2008 منشورات الإختلاف والدار العربية للعلوم
05 ) عبد الكبير الخطيبي وجاك ديريدا أو الخيوط الناعمة بين الصداقة الإنسانية والصداقة الفكرية مراد الخطيبي ص 327 ضمن كتاب جاك ديريدا فيلسوف الهوامش تأملات في التفكيك والكتابة والسياسة إشراف وتحرير محمد بكاي منشورات الإختلاف وضفاف ودار الأمان الطبعة الأولى 2017
06) حميد ناصر خوجة إلى آخر نفس في الشعر متبوع باليد الممدودة سيرة في أجزاء/ خضرون عمر ص 57
07) نفس المصدر ص 47
08) نفس المصدر ص 61
09) نفس المصدر ص 73
10) نفس المصدر ص 77
11) عن الأسلوب المتأخر / موسيقى وأدب عكس التيار إدوارد سعيد ترجمة فواز طرابلسي ص 39 دار الأداب بيروت الطبعة الأولى 2015
12) عن الأسلوب المتأخر / موسيقى وأدب عكس التيار إدوارد سعيد ص 40