ينبعث صوت السيدة ميادة من المذياع هادئاً فخماً، مسكوناً ببُحَّات حزن لم يلمسها بليغ ولم يألفها عشاق هذا الصوت الشامي، الحلبي، البديع، من المحيط إلى الخليج:
– خليك هنا، خليك..بلاش تسافر
وبينما كانت هي تُعد حقيبة السفر، كان هو قد حزم حقائب ذاكرته وسافر في السنوات البعيدةِ، البعيدةِ الماضية.
ضحك حين رنا إلى السيدة ميادة وهي تردد:
– بتقول يومين وتغيب سنة، بلاش تسافر
توقف المذياع فجأة ودون أن يحاذيه أحد منهما، لا هي أطفأته كما دأبت أن تفعل دائماً عندما تبلغ السيدة ميادة أعلى درجات سلم حزنها في الغناء، ولا هو قذف المذياع بحذائه كعادته حتى انفرك وتفتّت وانتشر ما بداخله في أرجاء المكان، دون سبب واضح أو دافع معقول.
ساد الصمت. واصلت هي حزم حقائبها ولملمة شتات قطع الألبسة الصغيرة المندكّة بأدراج الخزانة بلا طيٍّ أو ترتيب. بينما غادر هو، دون أن يعلّق على توقف المذياع أو حزم الحقائب أو موعد السفر الذي بدأ يقترب رويداً، رويدا. السفر الذي يكاد يُعلن نهاية فصلٍ طويل من فصول حياته هو، ويُعلن في نفس الآن نهاية حياة امرأة استثنائية بكل المقاييس والأزمنة والأمكنة، استثنائية في صمتها وفي ضجيجها، واستثنائية في جسدها المتوحّش غير القابل للترويض .
عاد المذياع للاشتغال من جديد:
– أنتِ معنا سيدتي، على الهواء مباشرة. فما الذي تقولينه بشأن الخيانة التي اخترناها قضية للنقاش مع المستمعين في هذه الليلة الدافئة؟
كانت تنصت للمذيع وهي ممسكة بالسمّاعة بما بين كتفها اليسرى وتحت شحمة الأذن المثقوبة. تواصل استخراج قطع الألبسة من الحقيبة، لترتبها، فيما بعد، في دولاب غرفة الفندق الذي اعتادت اللجوء إليه وقت العجز عن البقاء هناك، وهرباً من الغرق في رتابة الزمن وروتين المشاعر وميكانيكية الأحاسيس.
عاد المذيع ليذكرها بسؤاله، بعدما لاحظ وجومها وتردّدها لبعض الوقت. ربما كان وراء صمتها القصير خوفها من البوح لأول مرة بما دارته عن الجميع. بوحها بما اعتقدت أنها قد تخلصت منه بمجرد أن حطّت بها الطائرة على مدرج مطار ليوناردو دا فينشي الدولي بروما الإيطالية.
لا فرق بين قرار البوح وقرار الحرب. البوح والحرب سيان. كلاهما يستلزمان قدراً كبيرأً من الجرأة، وقدراً كبيراً من الحب في البقاء، وقدراً كبيراً من الرغبة في تحييد كل من سوّلت له نفسه أن يُحدث ثغرة في جدار الصمت، وقدراً كبيراً من القدرة على كشف المستور المدفون في جوف الْأَرْضِ السابعة، وقدراً كبيراً من السعي نحو تعرية التفاصيل المغمورة للحياة التي اعتاد خبراء المجتمع ومفكروه أن يسمّوها حميمةً وخاصّة.
انتفضت لمّا سمعت المذيع يناديها:
– سيدتي، هل مازلت معنا على الخط؟
لم تكن أبدا على الخط، ولا يُتوقّع أن تكون يوماً ما على الخط. لها خطها المفرد، وحظها المنفرد، وحياتها الفريدة. لو كانت على نفس الخط الذي عليه هو لما كانت الآن في ليفانزو.
حطّت الرحال بليفانزو، هذه الجزيرة الأصغر بين جزر إيجاديان الثلاثة، قبالة الساحل الغربي لجزيرة صقلية، لأنها أحبّت الابتعاد عن ضجيج الحياة وصخبها، جاءت تبغي العزلة والخلوة والصمت والحديث لنفسها بعد طول فراق. لم تحدث نفسها منذ أمد بعيد. كانت تلوذ بصمتها العميق وتفضل الابتعاد عن الحديث إلى الآخرين، حتى المقربين من شلّة النادي.
لقد اختارت أن تندسَّ في ليفانزو. ربما شاءت أن تجرّب مسارات المشي الواسعة الممتدة بين السهول المدثرة بالخضرة.
– جرّبي التسلق برفق نحو قمم ليفانزو! .. لابد أن تستمتعي بإطلالات خلاّبة على مياه المتوسط..إن أنت تصبّبت عرقاً، اغطسي في إحدى شواطئ الجزيرة !، سيروق لك خليج كالا ترامونتانا المعزول، المحاط بجرف منحدرات الحجر الجيري.
هكذا كانت توصيها جيوفانا، صديقتها الإيطالية التي جاءت إلى المغرب صحبة رفيقها الملاّلي. في زمن الحجر الصحي، حين وجدت نفسها مجبرة على إغلاق فندقها العتيق بقلب فينيزيا. نصحها صديقها الملاّلي بنقل ثروتها إلى مراكش واستثمارها هناك. فنزلت بمراكش وانطلقت في اقتناء الرياضات في أنحاء متفرقة من المدينة. فيما كان الملاّلي قد انطلق في مسيرة البحث عن أفواج السياح الأجانب الراغبين في زيارة مراكش بعد انتهاء الحجر الصحي المفروض بالمغرب.
– اسمعيني جيوفانا!..العالم أجمع كان يسمي المغربَ كله مراكش، حتى وقت قريب وقبل أن يتوفّى بقليل، سمعتُ بن بلة أول رئيس للجزائر، وهو مغربي الأصول. سمعته يتحدث في قناة الجزيرة، في برنامج “شاهد على العصر”، سمعته يقول: “سافرنا إلى مراكش، جئنا من مراكش، بقينا في مراكش، التقينا في مراكش…الخ”، وكان يقصد المغرب..صارت مراكش يا جيوفانا قبلةً لمشاهير ونجوم العالم، هناك من اختار زيارتها والاستمتاع بسحرها، وغادر، وهناك من اختار الاستقرار بها نهائياً.
كان الملاّلي يتحدث بحماسة زائدة وهو يعدّد ميزات مراكش ومؤهلاتها السياحية وقدرتها الساحرة على استقطاب وجوه بارزة في السياسة والرياضة والثقافة والفكر.
ابتسمت جيوفانا، وعلّقت محاولة أن تهدِّئ من حماسة الملاّلي:
– أعلم أن مراكش شكلت وتشكل قبلة لشخصيات بارزة. الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، وزوجته هيلاري كلينتون، والرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، والمستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، وإيفانكا ترامب ابنة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وغيرها من وجوه السياسة البارزة.
لقد اعتاد المذيع أن يقفل الخط، وينتقل إلى متصل آخر، ولا ينتظر طويلا. لكنه كسر القاعدة هذه الحلقة. لم يكن معتاداً على الانتظار كل هذا الوقت. كأنّه كان يعلم بما يلوج في خاطرها في تلك الأثناء.
صارت الحقيبة فارغة إلا من عطرها الباريسي وكثير من الخواء العاطفي الذي رافقها إلى ليفانزو. كانت تمسك بسمّاعة الهاتف بيمناها، بينما كانت يسراها ممسكةً بآخر قطعة من ألبستها الحميمة. قميص النوم الأبيض، الشفاف قليلاً. القميص الذي قدّمه هديّةً لها، ذاك الرجل الأسمر، العابر لقارات ذكرياتها الخمس، الغابر في ثنايا أسئلتها المتجددة المتناسلة، والعامر بأسرارها المتجذرة ومراياها المتكسّرة. قدّم لها الهديّةً وغاب في متاهة الألبسة المعلّقة صفوفاً مصفّفةً بقلب المحل التجاري الشهير. المحل الذي يوفّر لها، كواحدة من زبوناته الوفيات، آخر ما جادت به صيحات الموضة الأمريكية.
كانت، هي، من أشد المعجبات بميلانيا ترامب، الشقراء الجذّابة. فيما كان هو متيّماً بالأمريكية ستورمي دانيلز، الممثلة الإباحية الشقراء، ذات العينيين الخضراوين.
كان كلما فاز خلسة بمشاهدة ستورمي تمارس الحب في أفلامها المنتشرة على النت، يكاد ينفجر رغبةً وجنوناً، فلا يملك إلا أن يُرتّل، بتلذّذ منقطع النظير، مقطعاً من قصيدة لا يعلم أنها لنزار قباني، مستبدلاً “السوداوين” بـ”الخضراوين”…
“ذات العينيين الخضراوين
ذات العينين الصاحيتين الممطرتين
لا أطلب أبدا من ربي
إلا شيئين
أن يحفظ هاتين العينين
ويزيد بأيامي يومين
كي أكتب شعرا
في هاتين اللؤلؤتين”
لطالما تذكّر، في ذروة تلذّذه بستورمي عاريةً وهي في قبضة ممثل إباحي وسيم ومفتول العضلات، فضيحة سقوط دونالد ترامب في علاقة غرامية مع هذه الشقراء الناضجة الجذّابة، فيّكذب الشائعة مهمهماً ومعلقاً:
– كيف لرجل سمين في هيأة دب روسي، اختطفته السي آي إي من الكا جي بي أيام الحرب الباردة، يبدو وقد شارفت فصيلته على الانقراض، أن يُضاجع فرساً جامحةً قارعت أعتى الرجال، وأشد الرجال، وأشرس الرجال؟ …
– سيدتي، هل مازلت معنا على الخط؟..
نال منها الشرود طويلاً، فلم تأبه لصوت المذيع. تركته يحاور الأخصائية النفسية، ضيفة البرنامج الدائمة، وراحت تفكر في الرجل الأسمر.
هي لا تعرف حتى الآن كيف ولماذا وافقت أن تتلقّى منه هديته العجيبة، ولا تتذكر إن كانت هي من دسَّت في الحقيبة قميص النوم الأبيض، الشفاف قليلاً. لا تتذكّر غير مشهد المستخدمة المكلفة بإحدى صناديق الأداء بالمركز التجاري، وهي تدسُّ القميص الأبيض، الشفّاف قليلاً، في كيس المقتنيات نزولاً عند طلب الرجل الأسمر الذي أوصاها بوضع الهدية خفيةً في الكيس ودون أن تنتبه هي إلى ذلك، قبل أن يرمى للمستخدمة بقشيشاً ويغوص في طوفان المتبضّعين.
هي لا تفضل ارتداء الألبسة الحميمة البيضاء. هو أيضاً لا يفضل الأبيض. عندما اختلت به أول مرّة، وقبل أن تقول له “زوّجتك نفسي” وترتقي السرير رفقته، كانت ترتدي قميصاً أسود طويلاً وهفهافاً.
كانت تحرص باستمرار على اقتناء الألبسة الحميمة الرفيعة المنسوجة من القماش الأسود. ظلت تعتقد أن الأسود يمنحها الشعور بأناقة الجسد، ويقوّي حضور الجسد في الأمكنة الكثيفة الإضاءة، ويقوّي اعتقادها بأنها ماتزال في نضارة شبابها.
لقد طالعت رواية “الأسود يليق بك” بعد ولعها المبكر بالأسود بسنوات طوال. وماتزال تذكر كيف كان يُردد أستاذ اللغة العربية أمامها بصوتٍ رخيمٍ، كلما أمعنت في ارتداء الأسود وتفرّدت عن سواد زميلاتها:
– الأسود يختار سادته.
غير أنها لا تدري، الآن، كيف أعرضت عن هذه العبارة. لم تتوقف عندها، وراحت تدوّن اقتباساً من “الأسود يليق بك” في مفكرتها، لتعود إليه كلما أحسّت بالحزن وشعرت بعودة الجرح إلى الاشتعال. “الحداد ليس في ما نرتديه بل في ما نراه، إنّه يكمن في نظراتنا للأشياء. بإمكان عيون قلبنا أن تكون في حداد..ولا أحد يدري بذلك.”.
فكيف وصل القميص الأبيض، الشفّاف قليلاً، إلى قلب حقيبتها من دون أن تنتبه إليه ساعة الإعداد للسفر؟ وما الذي سمح لهذا الرجل الأسمر بأن يقتحم عليها حياتها الحميمة؟ من الذي دفع به إليها، وقذفه في وجهها فجأة، وهي في ذروة الحزن والحسرة على رحلة عمر ركبتها رفقة من كانت تشدو له طوال السنوات الأولى من قرانهما، ورأسها مغروسة في صدره:
يا للي اديت لحياتي في حبك طعم ولون
مش هتنازل عنك ابدا مهما يكون…
وجدت نفسها تغني هذا المقطع بصوت خافت وحُنوٍّ بليغ، بينما كان المذيع يردد بين الفينة والأخرى “الله، الله، الله”. وحين انتهت واستعادت توازنها الضائع، بادرتها الأخصائية النفسية بسؤال مباشر وجاف:
– لماذا تفضلين الأسود عن بقية الألوان يا سيدتي؟
ذُهلت، انحبست الكلمات والمفردات في حلقها. سقط القميص الأبيض، الشفّاف قليلاً، على الأرض. وحين لم ترد، واصلت الأخصائية مباغثتها بسلسلة أسئلة حارقة:
– أنت هنا للبوح سيدتي، ما حكاية الأسود معك؟، وما قصة القميص الأبيض الرقيق، الشفّاف قليلاً؟
ازداد ذهولها، وارتفعت درجة انحصار الكلمات والمفردات في حلقها. تملّكتها رعشةٌ عاصفةٌ وهي ترنو إلى القميص الأبيض الرقيق، الشفّاف قليلاً، ملقىً فوق أرضية الغرفة. كانت ترى فيه ملامح وجه الرجل الأسمر. تتذكر كيف انقادت لهواه وطاوعته في النزول بفندق إمبريال، ذات مساء، وكيف انتظرته نحو ساعة ونصف، قبل أن يخترق عزلتها ويطرد عنها مرارة الانتظار وحرارة الدهشة وجبروت الحيرة.
– ادخلي الغرفة رقم 23، اخلعي كل ما ترتدين ثم البسي القميص الأبيض، الشفّاف قليلاً، وانتظريني! سوف لن أتأخر…
هي الرسالة القصيرة التي بعث بها إليها على الواتساب، تاركاً الأسئلة تأكل عقلها وتكاد لا تبقي على ما تبقى من توازنها الآيل للإمحاء.
ارتدت القميص الأبيض، الشفّاف قليلاً، ووقفت تتطلع من النافذة. تترقب، تراقب القادمين نحو الفندق، علّها ترمقه. لا رجلاً أسمرَ بينهم، موج هائل من الرجال البيض النّحاف ونزر قليل من الفتيات والنساء المقبلات، الهيفاوات، الدقيقات الخصر، الضامرات البطون.
فجأة وفي الجانب الآخر من رصيف الشارع المقابل لنافذتها، تراءى لها واقفاً، متسمّراً، مشرئبَّ الرأس، ينظر نحوها من دون أدنى حركة أو إيماءة.
تراجعت إلى الخلف، أسدلت ستائر النافذة المعتّمة حتى توارت خلفها، وغرقت في حيرتها، كانت مشدوهة أمام كل ما يحدث. هل تبقى بالغرفة وتنتظره أم تخلع القميص الأبيض، الشفّاف قليلاً، وتعيد ارتداء بنطلون الجينز الرمادي المائل إلى السواد، وسُترة السّاتان السوداء الناعمة، ثم تخطف حقيبة يدها المرمية على الكنبة وتنصرف هاربة من مصير لا تعلم عن تفاصيله شيئاً؟
وهي تُولج يدها اليمنى تحت القميص الأبيض، الشفّاف قليلاً، كي ترفعه نحو رأسها وتخلعه، فُتح باب الغرفة. تراجعت ناحية جدار النافذة إلى أن التصقت به تماماً، عقدت ذراعيها واضعةً ذراعها الأيمن على الأيسر، وتسمّرت في مكانها تترقَّب دخوله.
تسارعت المشاهد في رأسها تباعاً وهي تروي، للمذيع والأخصائية النفسية، ما جرى قبل أن تحزم حقائبها وتقرر القدوم إلى ليفانزو بتوجيه من صديقتها جيوفاني.
كانت الريح التي تنفذ إلى غرفة النوم حارةً، حين أيقظها صوت ستائر الدّانتيل وهي تتطاير في الهواء. كان هو مستيقظاً على غير عادته، يجلس متكئاً على رأس السرير الانزلاقي، المغلف بالمخمل، غارساً سمّاعات الهاتف في أذنيه، يشاهد مقطع فيديو.
كان الصوت الخافت المنبعث من السمّاعات يوحي بصوت امرأة تئنّ وتتأوّه. حاولت الاقتراب والتطلع إلى شاشة هاتفه، غير أنه ابتعد عنها قليلاً وأدار الشاشة إلى الناحية المعاكسة.
– ماذا هناك؟ ما الذي تشاهده؟
لم يرد. نهض. دلف إلى نافذة الغرفة. أمسك بأطراف الستائر وسحبها بقوة، حتى انتزعها وألقاها إلى الأرض، وأخذ يصرخ ويضرب الجدار بقبضة يده.
رمت عنها اللحاف وانزلقت من السرير وهي ترتدي القميص الأسود، الشفّاف كثيراً. أمسكت بذراعيه، تستعطفه أن يهدأ، فالتفت إليها واجماً، ثم أمسك بحمّالة كتفها اليمنى الرفيعة، صار يحملق في عينيها، كأنه يبغي الغوص في أعماقهما.
– ما بكَ؟
أزاح يده عن الحمّالة واستدار نحو النافذة. صمتَ قليلاً، ثم خاطبها بهدوء مفرط:
– سأغادر الغرفة الآن. أريد أن أشرب سيجارةً وأحتسي كأساً. سوف تتوصلين بعد قليل بمقطع فيديو. شاهديه وابقي بالغرفة، لا تأتي ورائي! وحين تستيقظين صباح الغد، احزمي حقائبك وغادري!
غادر مغلقاً باب الغرفة خلفه. استمرت هي واقفة، تمسك بهاتفها، وتنتظر وصول المقطع اللغز.
بعد مرور برهة من الوقت، رنَّ هاتفها ربّة واحدة واهتزَّ بين أصابع يدها اليمني. ارتقت السرير بسرعة واستلقت على وجهها. ضغطت بسبّابتها فوق الفيديو ورعدَةً عنفيةً تجتاحها، تنتظر اكتشاف ما يخبئه لها هذا المقطع القصير الذي لا تتجاوز مدته الدقيقة الواحدة.
هي الغرفة رقم 23 نفسها، الستائر، السرير المخملي، ولوحة الجاكارندا المعلقة على الجدار، أعلى رأس السرير، وقد كشف بعضاً من تفاصيلها الضوء المتسرّب عبر ستائر النافذة. كانت العتمة تكاد تأكل كل ما بالغرفة لولا أنوار الشارع التي طبعت الفضاء بمسحة رومانسية فريدة.
– استمري سيدتي!، نحن في الاستماع إليك.
أمسكت بالمذياع وقذفت به إلى الخارج، عبر النافذة. رنّ هاتف الغرفة. رفعت السمّاعة، أخبرها مدير أمن الفندق أن المذياع قد سقط على أحد المارّة وأحدث له جرحاً غائراً في الرأس.
هرعت إلى الشرفة، وحين أطلّت، رأت الرجل الأسمر ملقىً على الأرض، يتطلّع نحوها ودمه يكاد يحجب عنه رؤيتها متدّثرة بالقميص الأبيض، الشفّاف قليلاً.