أولاد حمام؛ تلك القرية البعيدة عن مدينتنا، ما كنت أتخيّل يوما أن أسكن فيها، لكن ما أكثر تدابير القدر، التي قد لا يستطيع العقل البشري تفسيرها. ليس لنا فيها أقارب، ولم يجرِ هذا الاسم يوما على لسان أي فرد من أفراد أسرتي الثمانية؛ أمي وأبي وأخواتي الأربع وجدتي لأبي، حتى جدي لأبي والذي مات منذ شهور، لم أسمعه قط يذكر هذا الاسم! لقد بنى هذا البيت الذي نعيش فيه، وورثه أبي، وأعطى لكل واحد من إخوته نصيبه، واليوم فوجئنا جميعا بأننا سننتقل إلى هذا المكان النائي!
حتى أن أمي تعجبت، وقالت متحسِّرة:
– نترك دمياط، ونعيش في قرية بعيدة، والأولاد عندما تبدأ الدراسة، كيف سيذهبون إلى مدارسهم؟ وأهلنا كلهم هنا كيف سنزورهم .. وكيف سيأتون لزيارتنا؟ كيف سنعيش في بلد غريب، لا نعرف فيه أحدا، ولا يعرفنا فيه أحد؟!
ورغم أنني أستطيع تمييز صوت أبي الجهوري الذي كان يصك الآذان كمطرقة حديدية، إلا أنني تلك الليلة لم أسمعه، كل ما وصل إلى أذني أنين! كذّبته، وحتى اليوم لا أستطيع أن أصدّق أن أبي كان يبكي. سمعت جدتي تواسيه، وتعاتب أمي وتذكِّرها بأن الديون التي تراكمت على أبي اضطرته إلى بيع البيت، وتقول متحسِّرة:
– ليتك يا حبيبي لم تفكر في دفع نصيب كل واحد من إخوتك، الدين يا ابني سواد الخدّين، الله يكون في عونك وفي عوننا!
أبي ذلك الجبل الشامخ، استطاع بعض السماسرة أن ينصبوا له فخا، وأقنعوه بمقايضة بيته ببيتٍ في تلك القرية البعيدة! حتى يستطيع تسديد ديونه بفرق الثمن الذي سيدفعه الطرف الآخر، لم تكن مقايضة عادلة، بل كانت عملية نصب تسببت في انهيار صحة أبي، فبمجرد خروجنا من البيت، وانتقالنا إلى ذلك البيت الآخر؛ مرض مرضا عضالا؛ ألزمه الفراش؛ ثم مات!
وأصبحنا في مكان لا جذور لنا فيه ولا فروع، أغرابا عن كل ما حولنا، وعن الناس، لكن العجيب أننا بدأنا نعتاد هذه الحياة الجديدة، وأمي التي لم تكن تخرج إلى الشارع إلا نادرا، تقدّمت للعمل في مستشفى القرية كممرضة، واستطاعت أن تجد لأختي الكبرى مكانا في نفس المستشفى، فقد وجدت لها عملا في قسم الحسابات، بشهادة الدبلوم التي حصلت عليها العام الماضي.
أما أخواتي الثلاث الصغيرات، فقد قررت جدتي وأمي أن يكملن دراستهن، وبالنسبة لي جاء قرارهما بأن أترك المدرسة، وأشتغل، والعجيب أنني لم أشعر بأي حزن، رغم أنني كنت في الصف الثاني الإعدادي، وكنت متميزا في دراستي بشهادة زملائي وشهادة أساتذتي، فبعد موت أبي؛ وضياع بيتنا، تبخرت كل أحلامي في هذه الدنيا.
استسلمت لقرار حرماني من استكمال دراستي؛ وخرجت مع جدتي التي لم تترك محلا أو ورشة في تلك القرية إلا وسألت صاحبها أو صاحبتها، ولكن يبدو أن اليوم كان يوم عطلة للتوفيق! فكان الرفض دائما هو الرد، ربما لأننا أغراب، ومن شدة التعب؛ جلست أنا وجدتي على جذع نخلة يابس لنستريح، فسمعنا صوت محرك؛ ففرحت جدتي، وقالت مستبشرة:
– أكيد داخل هذا البستان ورشة، هيا يا حبيبي !
– تعبت يا جدتي، تعبت وجعت، ما رأيك نرجع للبيت اليوم، وغدا نكمل.
– يا حبيب قلبي، نجرّب هذه المرة، ربنا يجبر خاطرنا!
بمجرد أن دخلنا من باب البستان – وكان مفتوحا على مصراعيه – فوجئنا بصفوف من التماثيل الخشبية، بعضها على شكل حيوانات وطيور وأسماك، وبعضها الآخر على هيئة بشر! وأمام أحد التماثيل وجدنا رجلا كثيف شعر الرأس واللحية، كأنه لم يسمع يوما عن شيء اسمه الحلاقة! كان يمسك في يده محركا صغيرا بحجم كف اليد، ويمر بطرفه المدبب – الذي لا يكف عن الدوران – على وجه تمثال، عندما أحسَّ بوجودنا؛ التفت إلينا، وهو يضغط زرا في المحرك؛ جعله يتوقف عن الدوران، وعن إصدار ذلك الصرير المزعج؛ فبادرته جدتي قائلة:
– أبحث لحفيدي عن عمل، صحيح هو لم يعمل في هذه الصنعة من قبل، لكنه ذكي وسيتعلم بسرعة.
ابتسم الرجل ابتسامة من لم يبتسم في حياته قط، وهز رأسه في إشارة على الموافقة، فوجئت بجدتي تفلت يدي من يدها؛ وتتخلَّى عني بكل سهولة؛ وتتركني وتغادر، لكنها قبل أن تخرج من الباب، التفتت، وقالت لي:
– لا تتأخّر يا محمود! أذان العشاء تكون في البيت.
تعجّبت من قولها، فقرص الشمس كان يغطس ناحية الغرب، أي أن بيني وبين موعد العودة إلى البيت ساعة واحدة تقريبا، لكن هذا في حد ذاته جعلني أشعر ببعض الطمأنينة.
وأنا في طريق عودتي، عند منتصف المسافة تقريبا، فوجئت بأمي تهرول نحوي، وخلفها جدتي! واحتضنتني أمي بلهفة وخوف، وأخذت تسألني وهى تلهث – وأنا أسمع ضربات قلبها المتلاحقة – عما جرى معي من صاحب البستان، وجدتي التي ارتمت على الأرض من شدة التعب، تقول لها :
– يا بنتي حتى لو كان مسيحي كما يقولون، هو رجل طيب، أنا عندي نظرة في الناس.
عدنا إلى البيت، ودار حوار محموم بينهما، قالت أمي:
– يا “عمتي” الولد لا يزال صغيرا، وممكن يتأثر بكلام هذا الشخص الذي لا نعرفه.
– يا بنتي ألا تذكرين جيراننا الطيبين في دمياط أم مجدي وكيرلس وفيفيان، كنا نزورهم، وكانوا يزوروننا، أكلنا من طبخهم، وأكلوا من طبخنا، وياما سألوا علينا، ووقفوا جنبنا، وقت ما أقرب الناس تخلّوا عنا.
– فعلا كلامك صحيح، لكن هذا الشخص أنت لم تسمعي ما يقوله أهل البلد عنه، يسمونه “آزر” لأنه يصنع الأصنام، عندنا كمسلمين صناعة الأصنام حرام.
– يا بنتي يا حبيبتي هو نحَّات يعني ( أوميجي ) ، وبصراحة كل الورش والمحلات هنا رفضوا يشغلوا ابنك محمود، هذا الرجل الطيب هو الوحيد الذي قبل إنه يعمل عنده، الله يبارك له، ويرزقه بالرزق الحلال!
– يا “عمتي” أخاف ابني يتأثَّر بكلامه، وتفكيره ..
– بسيطة، كل يوم أنا وأنت وأخته “نجاح”، نساعد بعضنا في تعليمه القرآن؛ والأحاديث الشريفة، وبهذه الطريقة مستحيل يتأثر بأي كلام.
وافقت أمي على مضض، وأخذت تحذرني؛ وتنبهني؛ وتذكرني بأمور لم تذكرها لي من قبل؛ فقالت لي:
– يا محمود أنت لم تعد صغيرا، الله سبحانه وتعالى واحد أحد ليس له ابن ولا زوجة، وليس له شريك، وعيسى عليه السلام نبي مثل محمد وموسى عليهما السلام، ليس إله ولا ابن إله، إياك أن تستمع لمثل هذا الكلام يا ولدي!
الغريب أن ذلك الرجل الذي لم تتوقف أمي عن تحذيري من كلامه وتفكيره، من أول يوم لي عنده كان عندما يرتفع الأذان من مئذنة جامع القرية؛ يقول لي:
– اذهب لتصلي الفرض جماعة مع الناس في الجامع!
واكتشفت بمرور الأيام أنه كان يؤجل أي طلبات للورشة من مسامير؛ وسنفرة؛ وغراء؛ وغير ذلك، ويكتبها في ورقة، ولا يعطيها لي لأحضرها إلا عندما يسمع الأذان، فيطلب مني أن أذهب للصلاة، ثم أحضر الطلبات!
وعندما كنت أسير في شوارع القرية، أو أدخل الجامع، كنت أسمع اسمي الجديد الذي أطلقه علىَّ الناس (صبي آزر) ، لكنني لم أكن أهتم، إذ لم أكن أعرف أحدا منهم، الجميع بالنسبة لي أغراب، ولذلك فكلامهم لم يكن له أي تأثير بالنسبة لي.
الأجر الأسبوعي الذي أعطاه لي، فاق كل تخيلاتنا، أجر لا يحصل عليه إلا شاب ذو خبرة طويلة في العمل! وقد زاد هذا من قلق أمي وخوفها، فقالت لجدتي:
– معقول خمسمائة جنيه! هذا أجري عن شهر كامل في المستشفى، بدأت أقلق أكثر يا “عمتي”!
– والله يا بنتي أنا محتارة، من منظره كنت أظنه بخيلا، وبصراحة قلت بيني وبين نفسي أن الأجرة التي سيعطيها “لمحمود” قد تقل عن المائة جنيه، لكن كلام “محمود” عنه يؤكد أنه طيب، حتى كل صلاة يطلب منه أن يذهب ليصليها في الجامع، هو يحترم عبادتنا، وأظن أنه أعطى “محمود” هذا الأجر الكبير كمساعدة لنا لأنه أكيد عرف ظروفنا.
في الورشة وهو ينحت تمثالا والمطرقة في يمينه والأزميل في شماله، أحسست بحزن شديد، إذ بدأت أرغب في تعلّم هذه الصنعة، رغم تحذيرات أمي وأخواتي البنات، وعندما أشار لي بمساعدته في حمل التمثال، سألته دون تفكير:
– هل تعرف أن صنع التماثيل حرام؟
اصفر وجهي بعد أن خرجت الكلمات من فمي؛ وأحسست برأسي تدور، بعد أن مرق السؤال من بين فكّي كالسهم؛ وندمت أشد الندم، عندما تخيلت المبلغ الكبير – الذي يعطيه لي كل أسبوع – يطير مثل الدخان من بين أصابع يدي!
ترك الرجل الأزميل والمطرقة؛ وأخرج منديله القماش؛ ومسح حبات العرق من على وجهه، ثم أشار لي بالجلوس بعدما جلس هو على الأرض؛ فجلست أمامه وأنا في غاية الارتباك والخجل؛ وسألني :
– هل سمعت عن نبي اسمه “سليمان”؟
فاجأني السؤال، لكنه خفف عني حدة الارتباك والخجل، فأجبته قائلا:
– أكيد، ومن لم يسمع عن نبي الله “سليمان” الذي سخّر له الله سبحانه وتعالى الريح والطير والجن!
ابتسم، وقال لي:
– مذكور في القرآن أن الجن كانوا يصنعون له ما يشاء من محاريب وتماثيل، أليس كذلك؟
سكت؛ وظهرت الحيرة على وجهي، فرغم كل الآيات التي كانت جدتي وأمي وأختي يرددنها عليَّ، لم أستطع تذكر آية بهذا المعنى، واستطرد الرجل :
– أنا أنحت هذه التماثيل الخشبية، وأعتبر ذلك فنا؛ النحت فن، وهذه التماثيل مثل اللوحات التي يرسمها الرسام، هل رأيتني يوما أسجد أو أركع لأي تمثال، أنا على يقين من أنني لا أغضب الله! لكن الناس لهم رأي آخر؛ ولذلك اعتزلتهم، ومعظم زبائني من الصعيد، ليس لي زبون واحد من هذه القرية، وأنت أيضا إذا أردت العمل في هذه المهنة يجب أن تؤمن بأن النحت لا يمكن أن يكون حراما!
– الناس يسمونك “آزر”، ويسمونني ” صبي أزر” !
قطَّب ما بين حاجبيه؛ وقال بنبرة كلها ثقة:
– لا يعنيني ما يقوله الناس عني، فأنا أعرَفُ الناس بنفسي، هؤلاء الذين يزعمون أنني أغضب الله بصنع هذه التماثيل، لو اطَّلعت على قصة كل واحد فيهم لرأيت العجب، أعرف أنك صغير قد لا تفهم بعض ما أقول، لكنني متأكد من أنك ستتذكر كلامي هذا يوما ما؛ وستفهم كل كلمة منه، عند آخر هذه الحديقة يوجد مقهى ملاصق للسور من الناحية الأخرى، وكنت في البداية، أختبئ خلف السور من ناحيتي، وأستمع إلى ما يقوله الناس عني، وأثناء ذلك سمعتهم يقولون قصصا أغرب من الخيال، يأتي أحدهم فيتحدث عن أخيه أو ابن عمه أو جاره، ثم يأتي أخوه فيتحدث عنه، ومن خلال حكاياتهم عرفت أن الجميع يغضبون الله حتى شيخ القرية! الجميع عصاة يا بني، ولكل واحد خطيئته التي يخفيها عن الناس.
عندما عدت إلى البيت، وحكيت لأمي كعادتي قالت موجهة كلامها لجدتي:
– ألم أقل لكِ يا “عمتي” يريد أن يقنعه بأن صناعة الأصنام فن، هذه هى البداية فقط!
كانت جدتي مشغولة بفك اللفة التي أعطاها لي في تلك الليلة، وعندما رأت ما بداخلها؛ أشرق وجهها؛ وصكت وجهها؛ وقالت بفرح:
– لحمة.. يا رب ما أكرمك!
اندهشت أمي؛ ومدَّت يدها تفرك اللحم لتتأكد من أنه لحم حقيقي؛ وقالت:
– غدا الجمعة وقفة العيد، عيد الأضحى، أكيد يريد أن يُظهر لنا أنه يُقدِّر أعيادنا الدينية، يا له من رجل!
أمسكت لفة النقود ( أُجرتي)، وأخذت تعد أوراق النقد، وفوجئتُ بها تضرب صدرها بيدها من شدة الدهشة؛ وهي تقول:
– ألف جنيه! معقول ألف جنيه!
ردت جدتي بفرح:
– أكيد الزيادة عيدية يا حبيبتي، كل سنة وأنتم طيبين، والله العظيم أنا نظرتي في الناس لا يمكن تخيب أبدا.
مدَّت أختي الكبرى يدها إلى اللحم تفحصه؛ وقالت:
– قد تكون لحمة خنازير، سمعت أنهم يأكلونها.
ردت جدتي بكل ثقة:
– جيراننا المسيحيين في دمياط لم نعرف عنهم أكل لحوم الخنازير، “أم مجدي” أخبرتني أكثر من مرة أنهم لا يأكلونها.
أكدت كلام جدتي؛ عندما قلت:
– هو أرسلني اليوم إلى الجزار لشراء عشرة كيلو جرامات من اللحم، وأوصاني أقول للجزار إنه يكون لحم بقري، وأعطاني منها هذا الكيس.
رفعت جدتي ذراعيها إلى السماء؛ وأخذت تدعو له، والعجيب أنها كانت تدعو قائلة:
– يا رب بارك لعبدك “آزر” وارزقه بالرزق الحلال!
فلم تكن تعرف اسمه الحقيقي؛ فقلت لها:
– اسمه “عم إبراهيم”سمعت بعض الزبائن الذين يأتون إليه لشراء التماثيل، ينادونه بهذا الاسم.
– “إبراهيم” ربنا يسعد قلبه، ويفرَّحه، لكن يا حبيب قلبي أليست له زوجة أو أولاد؟
– ليس له أي أقارب يا جدتي، يعيش وحده في ذلك البيت الكبير!
قالت أختي الكبرى:
– أكيد ترهبن!
وعندما لاحظت الدهشة ترتسم على وجوهنا؛ قالت:
– عندهم في المسيحية الرجل الذي يختار أن يكون راهبا عليه ألا يتزوج، بل يعيش وحده في الدير يتعبَّد، وتوجد نساء أيضا تترهبن، وتعيش بلا زوج وبلا أولاد!
ولأنني كنت أعرف أنه ليس راهبا؛ قلت لهم موضحا:
– ” عم إبراهيم” ليس راهبا فقد كانت له زوجة وأولاد، لقد رأيت صورهم في البيت، كما أنه صنع لكل واحد منهم تمثالا يشبهه.
سألتني أمي بدهشة:
– وأين ذهبوا، هل أخبرك؟
– أخبرني أنهم ماتوا كلهم في ليلة واحدة في حادث قطار!
ظللت أسبوعين في راحة كما أخبرني، وكنت كل يوم أتسلل إلى البستان؛ لأطمئن عليه؛ وأشتري له احتياجاته، وبعد انقضاء فترة الأجازة عدت للعمل، وبدأت أمسك المطرقة والأزميل، وأصنع بعض التماثيل الصغيرة، لكنني كنت حريصا على ألا يعلم أحد من أفراد أسرتي بهذا الأمر، فالجميع كانوا يحذرونني من لمس أي تمثال، حتى أن شيخ الجامع ناداني ذات مرة بعد أن فرغنا من الصلاة، وقال لي نفس الكلام الذي كانت أمي تردده عليَّ:
– يا بنيّ صناعة الأصنام حرام، حاول أن تتعلم صنعة أخرى لا تغضب الله سبحانه وتعالى!
لكنني رغم كل تلك التحذيرات، بدأت أتعلَّم، وأتقن هذه الصناعة؛ لدرجة أن”عم إبراهيم” تشجَّع وأعطاني بعض الطلبات المطلوبة منه لأنجزها، وشجعني على العمل أيضا أنه كان دائما يزيد من أجري!
تحسَّنت أحوالنا المادية، وبدأت أمي تُلح عليَّ كي أترك هذا العمل، لكنني تحججت بأن الرجل كان في تلك الأيام مريضا، ولا يصح أن أتركه، وهو في أمس الحاجة لوجود شخص بجانبه.
وبالفعل كان مريضا لدرجة أنه لم يعد قادرا على الوفاء بأي التزامات نحو زبائنه، وكنت أنا الذي يقوم بالعمل كله في تلك الفترة.
لم تيأس أمي، وظلت تحاول صرفي عن هذه الصنعة التي تراها محرَّمة، وكلما رأتني رددت علي نفس الكلام:
– يا بني ابدأ أي مشروع تحبه، الحمد لله تحسَّنت أحوالنا، افتح محلا، وبع فيه أي شيء، واترك صناعة الأصنام هذه!
– لا أستطيع التخلِّي عن “عم إبراهيم” في وقت مرضه، ثم إنني أحب النحت، النحت فن يا أمي، ولا يمكن أن يكون حراما.
في كل مرة يدور بيننا هذا الكلام؛ تنشب بعدها خناقة بين جدتي وأمي، وتزداد حدة الخناقة بعد أن تتهمها أمي بأنها السبب لأنها هى التي ذهبت بي عند صانع الأصنام.
عندما مرض وأحسَّ بدنو أجله؛ أخبرني أنه كان قد كلَّف حفارا للقبور بحفر وبناء قبر له عند نهاية سور حديقته، لأنه يعرف أن أهل القرية لن يوافقوا على دفنه في مقابرهم؛ وقال لي:
– أعلم أنه لن يمشي في جنازتي أحد منهم، ورغم حزني لهذا إلا أنني كنت قد عودت نفسي على أن أستغني عن الناس في حياتي، فكيف أحتاج إليهم بعد موتي!
مات “عم إبراهيم” وكما توقع لم يهتم بموته أحد من أهل القرية! ولولا أنني ذهبت مع أمي إلى دمياط؛ واتفقنا مع مغسِّل وحانوتي، لتركوه في بيته حتى يتحلل!
ربما لم ينتبه الناس إلى الزبيبة الكبيرة التي كانت ظاهرة في جبهته العريضة، أعمت الشائعات عيونهم؛ فظلوا دهرا ينكرون عليه أن يكون مسلما! وهو أيضا كما أخبرني شجعهم على ذلك؛ لأنه بعد فقد أسرته في حادث القطار المروع؛ آثر أن يعيش وحيدا بعيدا عن الناس.
العجيب أنني في آخر مرة كلمته فيها، وبعد أن أخبرته بأن أمي تريد مني أن أبتعد عن النحت؛ أمسك بذراعي؛ وقال بنبرة ذكرتني بنبرة أبي:
– إيَّاك أن تعصي أمك يا “محمود”.. إيَّاك أن تعصيها!
ألجمتني المفاجأة وقتها، فلم أتوقع منه مثل تلك الإجابة العجيبة، وهو الذي قضى أكثر عمره في نحت التماثيل!
وبلغت دهشتي ذروتها عندما قال لي:
– أهل القرية اتفقوا أكثر من مرة، على أن يحرقوا هذا البستان بما فيه من تماثيل، ويهدموه على رأسي، كنت أسمعهم من وراء السور وهم في المقهى يتآمرون ضدي، لكن أحدا منهم لم يجرؤ على الاقتراب من السور، ليتهم نفذوا ما اتفقوا عليه، وأحرقوا كل هذه التماثيل، ربما كنت انصرفت إلى عمل آخر.
من غرابة ما يقول، بدأت أظن أن المرض قد أثر على عقله؛ وسألته وأنا في حيرة:
– معقول بعد كل هذا العمر، تتبرأ من صنعتك، التي تعتبرها فنا، ألم تخبرني أن النحت فن؟!
رد عليَّ قائلا:
– كنت أحاول إقناع نفسي حتى أستريح من الصراع الدائر بداخلي، لكن الحقيقة أنني كنت أتمنى أن يحدث شيء يبعدني عن هذه المهنة، كنت أنتظر قوة خارجية قاهرة وقادرة تجبرني على ترك النحت، ربما لو كانت أمي على قيد الحياة لأجبرتني على تركه، كما تحاول أمك أن تفعل.
قاطعته قائلا:
– هل أفهم من كلامك هذا أن النحت حرام؟!
لم يجب على سؤالي، وكأنه لم يسمعه أصلا! بل أكمل كلامه :
– ضاع عمري وأنا أنتظر من يغيِّر لي قدري، رغم أنه كان بإمكاني أن أغيره بنفسي!
ازدادت حيرتي بعد موته، لكنني لم أستطع أن أغضب أمي؛ فوافقت على الابتعاد عن النحت؛ وفتحت مشروع بوتيك ملابس، ومرت سنوات، قبل أن تذهب الرياح باسمي القديم من أذهان أهل القرية، فلم يعد أحد منهم يجرؤ على مناداتي بـ “صبي آزر” .
آل البستان بكل ما فيه إلى ورثة الرجل، ربما هو لم يكن يعرفهم، ولم يرَ أحدا منهم من قبل، لكن بينهم صلة قرابة، وكنت كل فترة أذهب إلى قبره، وأقرأ له الفاتحة، وأدعو له بالرحمة والمغفرة، وفي أحد الأيام بعدما زرته، وعدت إلى البيت، زارني في المنام، فرأيته يصرخ في وجهي؛ ويطلب مني أن أحرق التماثيل التي في البستان؛ كل التماثيل! قمت من نومي مفزوعا، لكنني لم أخبر أحدا بما رأيت، فقد كانت جدتي في تلك الأثناء مريضة جدا، وأنساني مرضها ما رأيته في المنام، ومرت الأيام ونسيت تماما، لكن في الأسبوع التالي وفي نفس اليوم الذي رأيته فيه أولا رأيته ثانيا، كاد قلبي أن يتوقف من هول ما رأيت!
في الأسبوع الثالث لم أستطع تجاهل الأمر، خصوصا أن البستان مقفول منذ موت صاحبه، ولم نرَ وجه أي واحد من الورثة، إنه مهجور بمعنى الكلمة.
فاتحت أمي في الموضوع، فقد تعودت ألا أقطع أمرا إلا بعد مشاورتها، ولا أعرف كيف وصل همسي إلى أذني جدتي! ورغم أنها كانت راقدة في الفراش تتألم، فوجئت بها تجلس بجانبي أنا وأمي! قالت وهى تستنشق الهواء بصعوبة:
– هذا الرجل وقف بجوارنا.. وحقه علينا أن ننفذ طلبه، ونخلصه من عذابه!
لم أصدق أن جدتي المريضة قامت من مرضها، أمي صرخت عندما أحست بأنفاسها وهى تتكلم، كانت مريضة جدا، وكل من رأى حالتها؛ أكد على أن الأجل قد آن، والأمانة سترد إلى صاحبها.
أخواتي البنات لا يصدقن أنها قامت من الفراش، وتتحرك في البيت بهذه الحيوية!
ونحن نمشي في الطريق نحو البستان في تلك الليلة، تذكرت جنازة “عم إبراهيم” فلم يمشِ في جنازته سوانا، جدتي هى التي خططت للأمر برمته، ورفضت أمي أن تشارك أخواتي البنات في الأمر، لكن جدتي أصرّت، حتى تتم المهمة بالسرعة المطلوبة!
عندما استيقظ أهل القرية، كانت النيران قد التهمت كل ما في البستان، واستيقظنا جميعا عصر اليوم التالي من شدة التعب والسهر في الليلة السابقة، لكن جدتي لم تستيقظ بعد تلك الليلة! وكأنها قامت من مرضها الأخير فقط لتؤدي هذه المهمة الصعبة.
إحدى قصص مجموعتي القصصية ( زلزال يوم القيامة )