ـــ من موضوع غاية في البساطة, خلقت منه الكاتبة الجزائرية وهيبة سقاي, الدكتورة في مجال العلوم, قضية, بداخلها قضايا, سياسية واجتماعية.
ـــ خلقت الرواية جوا من أجواء محاكم التفتيش, التي لاتوجد سوى في المجتمعات المتخلفة, المستبدة, والتي كانت أوربا فيها هي سيدة الموقف في العصور الوسطى, لولا أنها نهضت وتمردت واستنارت وأنارت, بعكس بلادنا التي لاتريد جيناتها أن تخضع لعمليات الهندسة الوراثية ولا الذكاء الاصطناعي, رواية تخاطب العقلية العربية حصريا!!
ـــ كانت الساردة على طول الرواية شديدة البأس قوية الشخصية. وقد تجلت عندها شخصية المثقف في وجه السلطة. في مواجهة عنيدة تليق به وبثقافته.
ـــ تفتيشات وانتظارات وتوتر أعصاب عبر رحلتها من بيتها حتى أسوار/ أبواب, عتبات, المصلحة جهة الاستدعاء!, يدخل فيه الرعب الذي عاشه ركاب الطائرة التي كادت تهوي بهم, وقمة الإذلال, فما لزوم استدعاء مبهم ومشبوه لكاتبة بلا مبررواضح؟, وأنها ستدخل ” للمحقق, ويبدو المواطن كأنه عدو للموظف.وصورت الكاتبة مصلحة الاستدعاء بما يشبه المعتقل, وكأن في رحلة الطائرة المؤلمة إسقاطا على مايحدث لركابها في واقع حياتهم, وكأن الرعب الذي عاشته الساردة في الطائرة, كان مقدمة لما ستراه في مصلحة الاستدعاء فور وصولها. وتصوير التعامل الوظيفي في أقذر صوره.
ــ وانهمكت الساردة في لعن الواقع الذي تعيشه, في وصلة رومانسية, نفسانية مؤلمة, بيروقراطية وخوف, وأحوال متردية, وراحت في بدايات الرواية الكشف عن أزمتها, بطريقة مراوغة, لم تُفصح فيها عما أظهرته في لحظات التنوير في نهاياتها, فقد ظلت حريصة على فعل التشويق لأبعد حد, بطريقة بارعة, وفي قلب الوصف تبرز لنا أحداث.
ـــ في ص 66, تذكرنا الكاتبة بروايتها ” الفجر جرح أسود”, والتي عالجت بجدارة مسألة الهجرة غير الشرعية, وعلى لسان شخصية ثانوية في رواية”الاستدعاء”حينما تقول (لاتعاتبني على أني تركت وهجرت الوطن والأحبة, الوطن لايُهجر إلا إذا كان في فم قرش, يلتهم أحلامك وطموحاتك…)
ــــ قامت الرواية على منهج السرد الخطي, وبضمير المتكلم, وأحياناً, استباقاً واسترجاعاً, حسب متطلبات الأحداث, وبوعي فني بنسجها وتطورها, والكاتب لايختار الضمير الذي ستتحدث به روايته, طبيعة العمل هي التي تفرضه, سيأتي الضمير من المطبخ الذي نضجت فيه الرواية, فتأتي الضمائر في السرد حسب الحاجة إليها, فليس كل عمل سردي يصح له أي ضمير, ونقول أن لكل قطعة سردية في العمل ضميرها, وكما يقول الدكتور عبد الملك مرتاض ” ضمير المتكلم, الدال على الحميمية السردية, وعلى تعرية الذات, وتقديم الحكاية في شكل يتوغل بها إلى أعماق نفس الشخصية, ولضمير المتكلم القدرة المدهشة على إذابة الفروق الزمنية والسردية بين السارد والشخصية والزمن, ومن جمالياته: يجعل الحكاية المسرودة متوهجة في روح المؤلف, كما يعمل على التصاق المتلقي بالعمل السردي, متوهما أنه المؤلف نفسه”, فكانت الكاتبة/ الساردة هي البطل, وفي حالة هذا الضمير نجد أنفسنا نُقرن الكاتب بالسارد, والتي أسميها لعنة ضمير المتكلم!
ـــ الساردة لها كتاب مطبوع في إحدى دور النشر في القاهرة, وقام الناشر بدفعه “في طرد” مشحون إلى بلدها عبر البريد المستعجل جوا, فتقوم إحدى السلطات في بلدها باستدعائها ــ مصلحة البريد ــ استدعاءً مُبهما, كالذي تقوم به الأجهزة الأمنية لأمر يخص أمن البلاد, فتركب الطائرة إلى العاصمة لبعد المسافة بينها وبين مدينتها, تصل إلى جهة الاستدعاء, وتمكث فيه فترة طويلة نسبيا, تستغرق الرواية زمنا قصيرا يكاد لايتعدى النهار, ولكن الساردة تخلق من هذه الرحلة.. رحلة في غابة أو في صحراء, كما تخلق من هذا الزمن القصير دهرا طويلا في ثقل جبل!
ـــ تتبدى ملامح الشخصية المتعنتة السادية مدير المصلحة, أو كما وصفته بلغة بلادها “حضرات”, اللقب الذي يُنادى به كل مسئول كبير عندهم. تتبدى ملامح تلك الشخيصة شيئا فشيئا, ليظهر في النهاية أنه كان زميلا جامعيا لها/ بل حبيبا/ وعلى وعد بالزواج. فيلقي في وجهها قنبلته الشاذة:
” لم أكن أصدق أنه بعد كل هذا الحب وعهود الوفاء والاستمرار معا على نفس الدرب, سيأتي اليوم الذي يطلب فيه مني أن نعيش سويا تحت سقف الرذيلة والعار كعاشقين, كي يتسنى له أن يكتشف أسرار أنوثتي, ويتمرن عل طقوسها حتى الملل”
ـــ فقد صرح لها بلا خجل, من وحي تأثره بالحياة في أوربا فترة من الزمن, أراد أن ينقل ثقافة الغرب الإباحي في البلاد المحافظة بطبيعة موروثها الأخلاقي النابع من مصادر أهمها الدين, وقد تخلت عنه أوربا, وإن كان موجودا في بلادنا ــ صوريا ـ على سبيل المقدس الذي لايمكن الفرار منه, لكن أن تصل الأمور لهذا الحد؛ فهذا أمر بعيد:
” نحن ياعزيزتي مقبلان على مرحلة مهمة في حياتنا, الزواج لايحتاج حبا وماديات فقط, بل أمورا أخرى كثيرة, نحن نعرف كل شيئ عن بعضنا, ولكننا نجهل الكثير أيضا, أقترح أن نرتب للعيش سويا لأيام معدودات قبل التاريخ المحدد للفرح, كي يتسنى لنا اكتشاف أمورا نحن نجهل تماما مبادئها, وهذه هي الطريقة المتبعة في الخارج, كضمان لنجاح الحياة الزوجية…”
ـــ هكذا, يطلب من الفتاة المتعلمة المثقفة أن تسلك طريق الانحلال والإباحية, وهي الناشئة في بيئة محافظة, ظهرت من خلال الإهداء ـــ أنقله هنا بتصرف شديد ـــ على اعتبار أنه جزء/ عتبة أخرى, لها وظيفتها ودلالتها في النص, يخص الساردة/ الكاتبة, لافرق, لاعتبار دلالة ضمير المتكلم كما سبق” …إلى معلم الأجيال منذ فجر الاستقلال,…, إلى روح والدي…, الذي عاش أبي النفس, ورحل شامخا”
ـــ تعقد الساردة مقارنة بين حال المرأة العربية المثقفة, وحال وطنها الغارق في مشكلاته الاجتماعية والسياسية, وأنها: (ليست سوى أُضحية وقربان لصعاليك السياسة والدين). ـــ الرواية تمشي في اتجاهات مضفورة في بعضها, لتنتج في النهاية الدلالات والأسئلة التي هي عصب الروايات: بيرقراطية الحكومة, سادية وتعنت واستغلال الوظيفة لانتقام شخصي, الأسرة حينما تتسبب امرأة الإبن في تفكيكها, ثم نجد أحمد زوجها/ شقيق الساردة يتصرف بلباقة وكياسة للم الشمل, كان قد راح ليؤنس وحدة العجوز, والدة الساردة لحين عودتها من رحلة الاستدعاء, وما أظهرته تلك الزوجة من أنانية وانعدام للأصول, فيما يخص أهل الزوج, تشترك فيها المرأة العربية عموما تقريبا.
ـــ نجحت الكاتبة/ الساردة, في كتم أنفاسنا طوال صفحات الرواية, فقد خلقت حالة ترقب شديدة, وحالة تشويق مستمر, من الصعب أن يتخلى عنها القارئ طوال فعل القراءة.
ـــ كل هذه الرحلة الشاقة الكئيبة تصوير لكئابة المصالح الحكومية في البلاد العربية عامة. إنسانية الإنسان المهدرة, تقرأ تجربة لمواطن الجزائر كأنك تقرأ تجربة لمواطن مصري!, وقبل النهاية بقليل, يهرول خلفها أحد العمال وهي تنصرف ” آه, لكِ لدينا طرد من القاهرة”!!
ـــ كلمة “استدعاء” العنوان, في حد ذاتها عتبة للنص أضافت بُعدا موازيا له, ومن ناحية أخرى كان لتلك الكلمة دورا كبيرا في ذلك الترقب والتشويق المتوتر.
ـــ في نهايات الرواية, وضعتنا الكاتبة/ الساردة أمام تساؤل مهم, هل كان تعنت هذا الــ “حضرات” انتقام شخصي لعدم تلبيتها اقتراحه الشاذ, أم هي بيروقراطية الأنظمة العربي؟
ـــ تمتاز رواية الاستدعاء للكاتبة وهيبة سقاي بقلة شخصياتها, وهذه ميزة كبرى للمتلقي, وربما جاء هذا من انعدام تشعب القضية التي تعالجها, فقد أخذ الحدث مسارا, مطردا في مسيرته حتى النهاية, رغم تقنية الاسترجاع والاستباق التي لجأت إليها, وكانت من فنيات الحكي.
ـــ في منتصف الرواية سيذهب فكر القارئ وتوقعه إلى أن الكتب قد صودرت سياسيا.
ـــ وبعد عملية تكتيم وتعتيم على مدى صفحات الرواية, عن السبب والداعي والمشكلة, التي سافرت الساردة من أجلها, وركبت الصعاب, وفي عملية فلاش باك, تتكشف الأمور درجة درجة.
ـــ ففي نهاية المطاف, وبعد أن صفقت الساردة الباب خلها وهي خارجة من عند هذه الـــ ” حضرات”, وخارج مكتبه, تتسلم كتبها, بفرحة الأم بالعثور على ولدها التائه في السوق.
ـــ جاءت الرواية في 12 جزء سردي, وأرى أنها انتهت عن تسلمها كتبها, وما كان من داعٍ لــ ” الفصل الأخير”, فهو حمولة زائدة لم يقدم جديدا. فما جاء فيه تمت معالجته في سياق الرواية.
• وهيبة سقاي من مواليد قسنطينة ــ الجزائر
• باحثة في علم الأحياء الدقيقة
• صدر لها قصص وروايات منها: حلم حياتي/ دموع أغرقت البحر/ الفجر جرح أسود
• (الاستدعاء.. سيرة الانتظار والألم), في 135 صفحة, طباعة فاخرة, دار النسيم القاهرة 2023