تُعَد الحكمة من أغراض الشعر العربي المعروفة منذ نشأة الشعر، وفيها يَعرِض الشاعر ما أفاد من حكمة اكتسبها من تجاربه الحياتية الخاصة أو من تجارب الآخرين التي رآها أو سمعها، ولا يزال هذا الغرض الشعري رائجًا ما بقيَ الشعر؛ لارتباط الحكمة بالتجارب الإنسانية، وفي هذه الدراسة نلقي الضوء على ديوانٍ يحمل في عنوانه اسم الحكمة؛ هو ديوان (هي حكمةٌ لِلهِ) للشاعر والأديب المصري حسن عبد الفتاح الحضري، وهو الديوان التاسع من دواوينه المطبوعة، أما جملة إصداراته حتى الآن فهي خمسة عشر كتابًا؛ منها تسعة دواوين، وكتاب في علم العروض، وخمسة مؤلفات أدبية ونقدية، إضافة إلى عشرات الأبحاث العلمية في اللغة والأدب والنقد والتفسير وغير ذلك؛ وعَودًا إلى الديوان؛ نقف أمام العنوان كعتبة أولى من عتباته فنجد فيه ذِكر الحكمة، ثم ننتقل إلى عناوين القصائد فنجد عددًا منها معبِّرًا عن الحكمة؛ مثل (وإذا الأمور تحولت، والله يهدي من يشاء، وإذا الحقوق تُهِضِّمَتْ، وكل أمرٍ له حدٌّ، وكل سبيل له غاية، إن العلوم أمانة، وليس لِما شاء المهيمن مانع، ولكل شيء حكمة، هي الأقدار، لكل امرئ في السعي باب، والله يجزي الصابرين، ولكلِّ أمر آية)، إضافة إلى عناوين أخرى تحمل الوعظ والنصح، وقد جاء عدد كثير من قصائد هذا الديوان على هذا النحو، أما مجموع قصائد الديوان فهو ثمانٍ وأربعون قصيدة ومقطوعة، وإذا نظرنا فيها وجدنا تجليات الحكمة متوافرة بشكل يتوافق معه عنوان الديوان؛ ومن هذه التجليات قوله في قصيدة بعنوان (ملؤوا الأرض بالذنوب):
كيف يَهدي الرَّحمنُ قومًا تولَّوْا = وتَعاطَوْا في الدِّينِ كلَّ غريبِ
أمْ لهم عهدٌ عند ربِّك ماضٍ = أمْ تَناسَوْا عذابَ يومٍ قريبِ
بل لهم يومٌ يُهرَعُونَ إليه = فيُجازَى بالشَّرِّ كلُّ كذوبِ
وهنا تقود الحكمة الشاعر إلى استنكار ما يُقدِم عليه الناس من ذنوب، وكأنهم قد حصلوا على عهدٍ من الله ألَّا يعذبهم بذنوبهم، أو كأنهم نسوا أو تناسوا أن العذاب قريب منهم إذا أصروا على معصية الله.
وشعر الحكمة عند حسن الحضري ليس قاصرًا على قصائد أو مقطوعات تتفرَّد بهذا الغرض الشعري النبيل؛ فَفِي ديوانه هذا يتناول الحكمة في قصائد الغزل أيضًا؛ كقوله في قصيدة بعنوان (طافت الذكرى بقلبي):
كلُّ شيءٍ في كتابٍ حُكمُهُ = فاحمَدِ اللهَ وقًلْ خيرًا وقَرّْ
وقد يجد المجال خصبًا لتناول الحكمة في قصائد المديح النبوي؛ كقوله في إحدى قصائد هذا الديوان بعنوان (لمَّا عرجتَ إلى السماء):
هي حكمةٌ للهِ يُدرِكُ كُنْهَها = مَن كان يؤمنُ بالإلهِ ويتَّقي
دِينٌ قويمٌ ليس يَقبلُ غيرَهُ = ربُّ البريَّةِ فاصطبِرْ وترفَّقِ
وهكذا يتَّسع المجال أمامه لتناول الحكمة في القصائد الدينية؛ كقوله في قصيدة بعنوان (رمضانُ أقبَلَ):
فاخشَعْ لربِّكَ واستَعِنْه على الذي = تَلقَى مِنَ الأخطابِ والأهوالِ
فلكلِّ ضِيقٍ عند ربِّك مَخرَجٌ = ولكلِّ ذنبٍ عفوُ ربِّكَ تالِ
وهذا لا يمنع من وجود قصائد قالها خصِّيصًا في الحكمة، وفي هذا الديوان نجد منها -كمثالٍ- قصيدة بعنوان (هو يرسل الرَّحماتِ) التي يقول في مطلعها:
لا يخدعنَّك طُولُ إمهالِ = وصفاءُ عيشٍ بينَ أرسالِ
واعلَمْ بأنَّ الدَّهرَ ذو حِوَلٍ = ما بين إدبارٍ وإقبالِ
وفي هذه القصيدة يقول أيضًا:
ما هذه الدُّنيا وزينتُها = إلا كبارقِ لُمْعَةِ الآلِ
ما يَنْقَضي فيها العجيبُ ولا = يرضَى الفتى فيها بإقلالِ
هي حكمةٌ لِلَّهِ قد نطقتْ = بِبديعِ أقوالٍ وأفعالِ
فكل بيت من أبيات هذه القصيدة فيه حكمة لهذا الشاعر القدير.
ويقول في مقطوعة بعنوان (هي الأقدار):
وكلُّ مقدَّرٍ لا شكَّ آتٍ = وكلُّ مسطَّرٍ حتمًا يَتِمُّ
هي الأقدارُ تَبلغُ كلَّ حيٍّ = وكلٌّ عن عقيدتِهِ يَنُمُّ
وهكذا تتنوع الحكمة في شعر حسن الحضري، وتتعدد أبواب الولوج إليها، وهو في كل مرة يوظفها توظيفًا مثاليًّا متوائمًا مع السياق العام للقصيدة أو المقطوعة، ومتماشيًا مع غيرها من الأغراض الشعرية في القصيدة أو المقطوعة ذاتها.
ونجد أيضًا مفرداته وتراكيبه التي يعبِّر بها، منسجمة انسجامًا داخليًّا فيما بينها؛ ويبدو ذلك -كمثالٍ- في قصيدة بعنوان (لكلِّ امرئٍ في السَّعيِ بابٌ):
لكلِّ امرئٍ في السَّعيِ بابٌ مُلازمُهْ = صَنِيعُهُمُ شَتَّى وربُّك عالِمُهْ
وكلُّ شقيٍّ لا محالةَ واردٌ = إلى يومِ خزيٍ تَلتَقِيهِ مَظالِمُهْ
فبادِرْ إلى الرحمنِ بالخيرِ والتُّقَى = فكلُّ بعيدٍ سوف تبدو قَوادِمُهْ
فنجد هنا مفردات (السعي، باب، وارد، تلتقيه)، وهذا الانسجام والترابط بين المفردات يبرز فحولة الشاعر وقدراته الشعرية الكبيرة، ولا غرو في ذلك؛ فالشاعر حسن الحضري مفطور على الشعر والأدب، بدأت مواهبه وقدراته في صِغَرِه كما هو الشأن مع ذوي المواهب الكبيرة والمتعددة.
وفي شعر حسن الحضري تمتزج الحكمة بالدعاء والتضرع إلى الله تعالى، ومن ذلك -كمثالٍ- قوله في قصيدة بعنوان (فَزِعَ القلبُ فاستجِبْ):
فَزِعَ القلبُ فاستجِبْ، رَبَّاهُ = أنتَ نِعمَ المَوْلَى وأنتَ رَجاهُ
مَن لِقومٍ قد غرَّهم طُولُ مُكثٍ = فاستَحَبُّوا العَمَى بما أَوْلاهُ
جاوَزُوا في ضَلالِهِم كلَّ حدٍّ = ثُمَّ جاؤوا يُؤمِّلونَ رِضاهُ
رَبِّ فامنُنْ بِفَيضِ عفوِكَ إنَّا = قد بَلَغْنا مِنَ الرَّدَى مُنْتهاهُ
لم يَخِبْ عبدٌ قد دَعاكَ لأمرٍ = يَبتغي فِيهِ الخيرَ، أو يخشاهُ
وفي هذه الأبيات يتعجب الشاعر ممن يغترُّون بالحياة الدنيا ويفضِّلون العمَى على الهُدى والرشاد، وقد جاوزوا الحدَّ في الضلال ثم عادوا يؤمِّلون رضا الله تعالى؛ وبعد أن يستنكر الشاعر هذه الأفعال على مرتكبِيها؛ يَفزَع إلى الله تعالى بالدعاء؛ فالله وحده هو الذي يعطي الخير ويحفظ من الشر كما ذكر الشاعر في البيت الأخير.
والشاعر حسن الحضري من الشعراء الذين يتمسكون بالاتجاه المحافظ وجزالة اللغة، وله أشعار في معظم أغراض الشعر المعروفة، ويدافع في أشعاره عن القضايا العامة التي تتعلق بالجذور والهويَّة العربية التي يعتز بها في أشعاره وفي مؤلفاته النقدية، ونلاحظ في أشعاره أيضًا اعتزازه بجذوره العربية العريقة.
وقد نظَم الشاعر قصائد هذا الديوان بين سَنَتَيْ 2019 و2022م، كما هو واضح من تاريخ القصائد أسفل عناوينها، وصدر الديوان سنة 2023م، وهو الديوان التاسع في جملة دواوينه المنشورة.
—–
* باحث وتربوي.