
إن إعادة قراءة رواية “مخيم المواركة” تُعَدُّ تجربة ممتعة للاستكشاف والكشف عن الأنساق المضمرة فيها. أزعم، وبتصور تقليدي، أن رواية “مخيم المواركة” كُتبت كفيلم سينمائي بالأبيض والأسود، حيث حاول الكاتب إعادة إنتاجه، تقطيعه وتركيبه من جديد، مستخدمًا أسلوبية العرض السينمائي (المشهد) (١).
إذن، كما يشير جهاد كاظم (٢)، تُعدُّ هذه المراجعة للتاريخ مراجعة لمفهوم التاريخ نفسه ومعايير كتابته المألوفة، وهي مراجعة ليست بعيدة عن العلاقة بين التاريخ والسياسة المعاصرة.
إنّ الكتابة، عند جابر خليفة، هي مراجعة وإعادة قراءة للتاريخ. ووفقًا لبختي بن عودة، تُعتبر الكتابة الخيار الصعب الذي يرهن القدرة الذاتية في سياق خاص من دون أن تنعكس سلبًا على حلم الكتابة، فهي لا تتراجع أمام الأسطورة، لأنها أصلاً لا تعمل وفق قانون منجز مسبق يبتر الحركة في جسم معرفي (٣).
لذا، يجب على القارئ الانتباه إلى أسئلة الكتابة، كما أكد موريس بلانشو، وأن يسعى لفك شفرة النص. يُأسس الكاتب لثنائية الذات والآخر، الآخر المؤتلف والآخر المختلف. هنا، يؤسس جابر خليفة من خلال الحكاية لأسئلة الكتابة. فالكتابة، بحسب أدونيس، تُعتبر تجربة في صياغة الألفاظ، لا تجربة في رؤيا الحياة والإنسان والعالم (٤). وهذه الثلاثية (الحياة والإنسان والعالم) هي المحرك والباعث على تأسيس حكاية المواركة في مخيمهم.
إن قراءة أخرى لمخيم المواركة تكشف الكثير من الأسئلة التي حاول الروائي طرحها للقارئ من خلال تقديم الذات في مقابل الآخر، والتعويل على وعي القارئ في فكّ الملازمة. السؤال المثير الذي طرحه خليفة هو: لماذا اعتذر ملك إسبانيا من اليهود (المارانوش) ولم يعتذر من العرب؟
اقرأ معي هذه القصاصة مرة أخرى:
“المارانوش الذين أعتذر خوان كارلوس منهم، كانوا يهودًا، والمواركة الذين نسيتهم حتى مدارسنا، كانوا مواركة” (ص57).
سؤال آخر طرحه الروائي بقوة، وكعادته في القضايا الحساسة والمصيرية. يظهر جابر في صف الأمة، ويتضح هذا الأمر من خلال عنوان الرواية “مخيم المواركة” الذي يُشير إلى مفهوم اغتصاب فلسطين والمخيمات الفلسطينية بعد نكبة 1948، وربما – وهذا مجازفة في القول – يُعكس نكبة العرب في إسبانيا. إنها رؤية انعكاسية لواقع حدث وما زال يحدث، ومحاولة لاستعادة الذاكرة وإعادة قراءة التاريخ.
يبقى سؤال الجوائز، وفقًا لمفهوم خليفة لرواية أمين معلوف “ليون الأفريقي”، حيث تُعتبر كتابة غير بريئة. وهو على علم تام بذلك. لذا يتساءل موريسكي بمرارة: لماذا مُنح أمين معلوف جائزة أستورياس للأدب 2010؟ “ما فعله الكاردينال زمينز وبشاعات خوان أوستريا، تجاهلها ليون الأفريقي أو حسن الوزان، لماذا؟!” (ص57).
هذا السؤال يُحيلنا إلى سؤال بعيد الغور، طالما تم تداوله. لماذا مُنح نجيب محفوظ جائزة نوبل على رواية “أولاد حارتنا” بعد كتابتها بربع قرن؟ هذا السؤال يُطرح بعد كل مسابقة في الرواية العربية. وبالتالي، نقف أمام مساءلة الواقع الثقافي في بعده الإيديولوجي: هل هناك كتّاب جوائز؟ هل من يعمل من أجل الشهرة والمال بعيدًا عن الثقافة والوعي، وبناء الإنسان وتحصين الذات؟
مرة أخرى، مع بختي بن عودة: إن عملية الكتابة ليست بريئة، وأن ذئب الكتابة لا يصول عبثًا. السؤال المتعلق ببراءة الكتابة أو قصديتها: “لماذا؟” تجاهل ليون الأفريقي أو حسن الوزان ما فعله الكاردينال زمينز وبشاعات خوان أوستريا. هنا، يوقفنا سؤال الكتابة لنُعيد التأمل بمفهوم النظافة الذي طرحه جابر من خلال “حمام قمرين”.
يجرّنا هذا السؤال إلى سؤال الحمامات، حيث حاول الروائي رفع القناع عن الثقافتين العربية، بشقها الإسلامي، والغربية، بشقها المسيحي. من خلال هذا المفهوم (الحمامات)، يطرح خليفة سؤال النظافة بمدلولها الأوسع، كاشفًا عن الرعب الذي مارسته حماة الصليب ضد العرب واليهود في تلك الحقبة. من خلال مفهوم الحمامات، أراد الدخول في بنية العلاقة مع الآخر، الآخر الذي يرفض النظافة الجسدية، فكيف بمفاهيم النظافة الأخرى المتعددة؟
رواية “مخيم المواركة” تُعتبر رواية تساؤلات مضمرة، سعى جابر خليفة، بما يملك من وعي وثقافة ومهارة سردية عالية، بعيدًا عن مفهوم القصدية والتوجيه، إلى زج وضخ مفاهيمه عن الآخر الذي بدأت صورته تتضح وتُعاد وتُسوّق بطرق جديدة، لكن مؤداها واحد. يُحسب لخليفة مهارته في تجنب المباشرة في توظيف المفهوم الإيديولوجي دون توريط القارئ في هذه القصدية.
نبوءة الراوي:
هل سبق جابر خليفة محكمة العدل الدولية في محاكمة عالمية عبر روايته “مخيم المواركة”؟ يمكن القول إن جابر خليفة، عبر روايته، نجح في تقديم محاكمة رمزية عالمية للنظام العالمي ومؤسساته، بما فيها تلك التي تُعنى بالعدالة، مثل محكمة العدل الدولية التي التفت مؤخرًا إلى ما جرى في غزة وقدمت محاكمة صورية لما يُعرف بالإبادة الجماعية.
.
تُعيد الرواية “مخيم المواركة” تمثيل الظلم الذي وقع على الموريسكيين في الأندلس، وتربطه بسياقات معاصرة تتجلى فيها ازدواجية المعايير، والتواطؤ، والاصطفاف مع الأقوياء ضد الضعفاء.
.
محاكمة عالمية عبر السرد:
لا يُنشئ جابر خليفة محكمة بالمعنى القانوني الصارم، لكنه يقدم من خلال روايته فضاءً أدبيًا يشبه قاعة محكمة كبرى، حيث يُعرض الظلم الذي مارسته قوى الهيمنة في التاريخ القديم وفي حاضرنا. الشخصيات والأحداث، خاصة ما يرتبط بالمخيم كرمز عالمي، تقدم صورة نقدية لزيف العدالة الدولية التي تدّعي الحياد، لكنها غالبًا ما تخضع لسياسات الأقوياء، تمامًا كما حدث مع الموريسكيين الذين طُردوا ونُفوا، ومع شعوب أخرى في سياقات معاصرة مثل الفلسطينيين.
.
السبق الأدبي لمحاكمة النظام العالمي
إن تأسيس القاص والروائي جابر خليفة لفكرة “المخيم” كمكان للنفي والإقصاء، وعرض الأدلة من خلال حكايات القتل والتهجير والتنصير، يميز الرواية في استباقها لآليات النقد العالمية التي تطرحها محاكم دولية مثل محكمة العدل. في المخيم، تتداخل القضايا الإنسانية بطريقة تعكس عبثية النظام العالمي الذي يدّعي التمدن بينما يعيد إنتاج المآسي ذاتها.
بما تقدم، نزعم أن جابر خليفة سبق محكمة العدل الدولية في محاكمة عالمية رمزية عبر روايته. بينما تعمل المحكمة في نطاق قانوني وإجرائي محدود، قدمت الرواية فضاءً سرديًا حرًا يستطيع مساءلة التاريخ والحاضر والنظام العالمي دون قيود، مما يجعلها أكثر شمولًا وجرأة في الطرح.
.
قراءة في العنوان:
هذا العنوان يؤسس لنقلة نوعية في طرح المضمون بأكمله عبر (العنوان/العتبة)، حيث يختصر المؤلف حياة العرب في إسبانيا بكلمتين هما عنوان الرواية. لكن جابر، ببراعته، يوسّع المفهوم ليجعل من “مخيم المواركة” رمزًا عالميًا، يمثل مخيمًا جامعًا لجنسيات العالم كافة. يوظف المؤلف مظلومية الشعب الموريسكي ليؤسس فكرة “أمم متحدة” مصغرة، تسعى لدعم قضية المخيم وفضح زيف العالم “المتحضر” الذي يبني منظومته على الاصطفاف مع الأقوى.
.
أسئلة مفتوحة:
هل يمثل هذا المخيم تضامن العالم “المتحضر” في دفع كل من يعارض سياساته إلى الهامش؟ تفتح هذه التساؤلات الباب لتأويلات عدة؛ فالرواية تُبرز فكرة النفي والاغتراب، سواء في سياقها التاريخي المتعلق بالعرب في الأندلس أو في سياق معاصر يتناول قضايا النفي والإقصاء. يمكننا بسهولة رؤية أصداء هذه القضايا في حاضرنا، حيث تعيد أحداث غزة التذكير بالتاريخ المأساوي. القتل والتشريد وعودة الفلسطينيين إلى الخيام تجعلنا نعيش مرة أخرى مأساة الموريسكيين، وكأن التاريخ يعيد نفسه.
.
الخاتمة:
في الختام، لا شيء يعدل طرح الأسئلة. فالأجوبة المؤجلة هي متعة مُعجّلة، تمنحنا لذة البحث، وتجعل من كل جواب محتمل بداية لسؤال جديد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1- معجم مصطلحات نقد الرواية، لطيف زيتوني، ص: 154.
2- الكتابة والاختلاف، جاك دريدا، ص24.
3- ظاهرة الكتابة في النقد الجديد، بختي بن عودة، ص36.
4- أدونيس، تأسيس كتابة جديدة، مواقف.