
تؤمن ليلى أنه في يوم من الأيام ستتمكن من نسيان حبيبها، فالحياة مليئة بالتغيرات، وكل شيء له مدّة زمنية محددة تنتهي مهما حاولنا التمسك به. لكن في تلك اللحظات، لا تزل أسيرة لهذا الحب، أحيانًا تجد لذة في ألمه، وأحيانًا أخرى تتمنى لو أنها لم تعش. تذكر لياليها مع من أحبته، حيث تبقى ذكرياتها حية، تنشر عبيرها ورمادها.
كانت تنام كل ليلة وهي تشعر بالطمأنينة، حتى وإن كان بعيدًا عنها، فهو دائمًا في قلبها. تستيقظ كل صباح لتجد رسالة منه تعبر عن افتقاده للدقائق التي يقضيها بعيدًا عنها. كان حريصًا على مرافقتها في كل مكان، يلتقط الصور ويكتب اسمها على رمال الشاطئ. يستلقي على العشب وينظر إلى نجمة في السماء، ويقول إنها روحها. وعندما تشرق الشمس، عدّ أشعة محبتها الدافئة. يجلس على الأرجوحة ويتخيلها بجانبه، يتناول لقمة ويقدم اللقمة الأخرى لها. كان علي يتمتع بجمال بسيط، بملامح تشبه ملامح الكثير من الرجال، بعينين سوداويتين صغيرتين وجسد نحيف، لكن ابتسامته وحديثه وعقله وقلبه النقي كانت تأسر القلوب، وكان الجميع يحب رفقته.
ما يثير جنونها ووساوسها وأسئلتها القاسية هو: هل كان ينبغي له أن يكذب مثل بقية الرجال؟ هل خدعها بمشاعره؟ هل كان يستمتع معها فقط؟
تضع ليلى جدولاً ليومها يسير بشكل جيد، لكن الليل يأتي ليقلب كل شيء إلى فوضى. ضباب يحجب جمال الضوء الذي يلمع في عينيها، ويجعل وجهها الناعم شاحبًا، بينما يتقلص جسدها. من بعيد، قد يظن من يراها في هذا الوضع أنها طفلة، تتكور على نفسها ويختفي كتفها. لا تسمع سوى صوت خوفها وحزنها، وتفقد ثقتها بنفسها. تجلس والدتها، أليسا، بجانبها وكأس الماء في يدها. اعتادت منذ نصف عام على الاستيقاظ على كوابيس ليلى، فتسقيها قطرة من الماء وتمسح على رأسها لتساعدها على الهدوء واستكمال نومها. في صباح اليوم التالي، قررت أليسا أن تتحدث مع ليلى عما يدور في ذهنها، فهي لا تستطع تحمل رؤية ابنتها تذوي أمام عينيها دون أن تجد حلاً يريح الجميع وكأن شيئًا لم يكن.
كل صباح، تغني خلال أعمالها اليومية. تفرش أسنانها، تغسل وجهها، وتستحم بينما تدندن بكلمات أغنيتها: “الحب عذاب ومكتوب في الكتاب”. تستمتع بالماء الدفئ ورائحة رغوة الصابون، وتغني بسعادة.
عندما تخرج من الحمام، تتوجه بسرعة إلى المطبخ لتتناول فطورها بشهية. بينما تشرب كوب الحليب، تراقبها أليسا وتكرر في نفسها ما تقوله كل يوم: “النهار ليس مقياسًا صحيحًا لصحتنا النفسية. الليل هو البصيرة، حيث يتيح لنا النظر إلى داخلنا. إذا وجدنا أنفسنا بخير، فهذا جيد، لكن إذا لم يكن الأمر كذلك، فإن المصباح سينطفئ وسنغرق في ظلام الليل العميق”.
الليل يكشف عن مشكلاتنا النفسية والجسدية على حد سواء، ويظهر آلامنا ومعاناتنا على السطح. ما لم نعالجه، سيظل يطاردنا كأشباح تهدد استقرار حياتنا في الليل.
قررت أليسا أن تخرج من صمتها وتشارك ابنتها أفكارها ومخاوفها. فقالت لها: “ليلى، اتصلي وخذي إجازة من العمل”. نظرت ليلى إلى والدتها باستغراب، لكنها في ذات الوقت فهمت ما تريده.
“أمي، أنا بصحة ممتازة. مجرد كوابيس، وكل العالم يعانيها”.
أزاحت أليسا كرسيها وتوجهت إلى غرفة ليلى، حيث تناولت هاتفها المحمول. ثم ذهبت إلى المطبخ وسلمتها إياه.
نظرت ليلى إلى والدتها، وكانت غمامة من الحزن تتلاعب في عينيها. بهدوء وثقة، طلبت منها أن تتصل مرة أخرى وتعتذر عن عملها. استجابت ليلى لأمرها. ثم، بحزم وإصرار، قالت لها: “استعدي، سنذهب إلى طبيب نفسي”.
انهمرت الدموع من عيني ليلى، وهي تقول: “أمي، أنا لست طفلة، أرجوك لا تعامليّني بهذه الطريقة. أنا أعرف مصلحتي وأستطيع تقييم وضعي”.
سألتها والدتها: “كم مضى على انفصالك عن علي؟”
أجابت ليلى: “لا أذكر”.
فقالت والدتها: “أنا أذكر، لقد مر نصف عام، وحالتك لم تتغير بل تزداد سوءًا يومًا بعد يوم”.
ردت ليلى: “أنا أحترم أنك أمي، لكن أرجوك، هذه خصوصياتي، لا تتدخلي”.
ضربت أليسا الطاولة بيدها، قائلة: “لا أستطيع أن أراك تضيعين نفسك”.
أجابت ليلى: “أمي، الأمور تحتاج إلى وقت للتعامل معها. افهميني، هذه مشاعر ليست لعبة”. ثم مسحت دموعها بيديها.
أخذتها والدتها في حضنها، وفحصتها بعينيها. للمرة الأولى، انتبهت لجسد ليلى النحيف وبشرتها وشعرها الخفيف. كانت في الخامسة والعشرين من عمرها، لكنها بدت كأنها في الثانية عشرة. “يا إلهي، ساعدني في استعادة طفلتي الحلوة”.
عصرتها بحنان، قائلة: “لقد كنت دائمًا عاقلة ولم تتعبيني أبدًا، حتى في طفولتك”. ثم قبّلت جبينها وخديها ويديها، وأجلستها على الكرسي، تداعب شعرها وخدها وتنظر إليها بحب.
وضعت ليلى رأسها على صدر والدتها، ممسكة بيديها، وبدت هادئة تمامًا. دون الحاجة إلى أي كلمات، أدركت أليسا أن ليلى قد استسلمت للأمر. بينما كانت لا تزل تمسك بيديها، غادرنا المنزل. ركبنا السيارة، وقادت ليلى نحو عيادة الطبيب اللبناني، د. أحمد المعزب.
في جَلسة العلاج، كان الطبيب يسعى لفهم تاريخ آلام أليسا، معتقدًا أن معرفته بذلك سيساعده في فهم الكثير عن ليلى. عندما جلست أليسا على كرسي العلاج، استرجعت ذكرياتها ومشاعرها من الماضي. كانت أيامها مليئة بالغيوم السوداء التي تراكمت بشكل كبير، ليست السحب الذي تعلو السماء، بل سحب من جلد ولحم وعظام، عيونها تشبه سواد الفحم، تتلألأ الآن وتبرق وتذوي. كانت تتحدث عما في داخلها، تعبر عن مشاعرها.
أليسا، تلك المرأة، كانت تردد لنفسها أبياتًا من الشعر:
“رَماني الدَهرُ بِالأَرزاءِ حَتّى
فُؤادي في غِشاءٍ مِن نِبالِ”
وفي أوقات أخرى، كانت تُرى وهي تطبخ، ترتب منزلها، تتناول طعامها، وتغتسل. وعندما تشاهد طفلًا يلعب كرة القدم في الشارع أو يمسك بيد والديه، كانت دموعها تنهمر دون وعي.
“يموت حلمي في حشـــاي. ويعيش بـــــي جرح اليـــــم”
لم تكن تشعر بالغيرة منهم، فهي لا تستطع الإنجاب، لكن أحزانها كانت تتجدد أحيانًا عندما تتذكر طفولتها، وتسترجع أسئلة الناس عن حلمها الكبير، عن ما تحب. كانت تجيب دائمًا: “أحب الأطفال كثيرًا”. لم تحب شيئًا في حياتها مثل اللعب بالدمى وتجسيد دور الأم. لم تنجب ليلى إلا بعد عشر سنوات من الانتظار والمعاناة وعمليات العلاج في مختلف مستشفيات العالم.
أدرك الطبيب أن معاناة ليلى تنبع من معاناة والدتها، نتيجة للتأثيرات النفسية التي تعرضت لها. كان التعلق بمنزلة السيف الحاد الذي يقطع عنهما شعور الطمأنينة في الحياة.
بعد عام كامل من زيارة الطبيب واتباع برنامج العلاج، اختفت الكوابيس تمامًا. أصبحت تنام بسهولة، وهي إلى ذلك تعرفت إلى شاب في عملها، حيث يلتقيان في المساء في المقاهي، ويبدو أنهما يفهمان بعضهما بشكل جيد. أعتقد أنهما يتناسبان معًا. هكذا قالت أليسا. أشعر بالتفاؤل بشأن زواج قريب.