اصطففنا ننتظر خروجه من البحر.. قلوبنا ثكلى، عيوننا غائمة، يساورنا بصيص من أمل، هتفنا:
– لن نبرح مكاننا حتى يظهر.
ثم بنبرات متخمة بالحيرة:
– كيف اختفى.. كيف؟.
أشار البعض نحو بقعة يزوم ماؤها. أفصح شاهد عيان:
– دوامات هائلة حاصرته حتى خذلته فتوته.. جذبته للقاع، حاول التملص، لكن التيار اشتد.
فيما كنا نتحاور.. توافد الناس من شتى الإتجاهات وافترشوا المكان.
رددنا في تعجب:
– أكل هؤلاء من أهله؟.
تعالى صوت:
– عرفناه يتيماً!.
صوت آخر:
– بل ألفيناه أنيساً للجميع.
حكت العجائز بصوت جنائزي عن الجنّيات التي تطوف بالليل، تغوي الناس بوجه خلاب مصطنع، تُوقعهم في شراكها، ثم تغوص بهم في أعماق بلا قرار، صاح الأطفال الملتفون في براءة:
– هل تُرجعهم ياجدة؟.
– جائز..
– أحياءً أم…؟.
أجابوا بصوت جماعي، فيما كانت النوارس تعتلي رؤوس الأمواج:
– الأمل لايفنى أبداً.
دأبت تجمعات غفيرة على الحضور كل يوم، يمّثلون أمام المياه بلا ملل، قائلين في تحدي:
– اليأس مقصلة لاترحم.
تَفَقد الحارس الليلي بندقيته فوق كتفه، مُعَلقاً بلهجة العليم ببواطن الأمور:
– شاهدت هذا الأمر مراراً وتكراراً.. لا فائدة.
– أقسم بأنه سيعود.
صاح مُسن وهو يعرج مَلوحاً بعكازه.
بدأ البعض في الحكي عن مآثر الغائب:
– كان طوق نجاة في تخطي ضربات الفاقة والعوز، كم اشتقنا لهلته الصباحية المشرقة، ثغره الباسم، قفشاته وضحكاته مع الأصحاب والجيران.. رجاحة عقله رغم صغر سنه، طموحاته وأحلامه.
– أمثله ينتهي هكذا؟.
– استغفروا ربكم.
هكذا تمتم إمام الزاوية.
أحاط العسس باليمّ، أعلن قائدهم بمكبر صوت، بأنه الفتى قد هلك، ثم آمراً:
– عودوا لبيوتكم، صخور تحول دون العثور على الجثة، قد تطفو في يوم ماً.
زمجرت أصوات منددة، فأردف مُدافعاً:
– منقذ الشاطئ غير مذنب، فالراية كانت سوداء، لكنه أصر على مجابهة قدره.
غالبت النسوة أدمعهن، أطلق الرجال والشباب آهات استنفار، تكاتف الجميع، اخترقنا دوائرهم، اصرارنا وصمودنا ألجمهم وأفزعهم، فأخلوا لنا الطريق.
تأهب الغطاسون.. امتطوا اللنشات والقوارب، طوقوا بقع الموت.. أوقدنا المشاعل جلية ومكثنا نترقب.
لمّا جن الليل.. تراكمت سحب رمادية خلف أنوار المراكب البعيدة، صار البحر متلألأ بالضوء، عزّمُنا ازداد صلابة.. اعتمل في دواخلنا هاجس وحيد.
لن يقنعنا أحد برحيله..
سوف يبزغ بين الفينة والأخرى!.