مرة أخرى تحمل أم لقمان بقايا مطبخها وتنزح، لكنها لم تنقذ -هذه المرة- سوى ثلاثة صحون بائسة!
عُرفت أم لقمان بطيب أكلاتها، يشهد بذلك سكان البناية التي تقطن في شقّة بطابقها الأرضي رفقة وحيدها لقمان، تبيع الأكلات التي تعدّها بناء على طلب أصحابها، اشتهرت بـ (نَفَسِها الحلو) في الحيّ كلّه حتى صار أهله زبائنها.
أم لقمان، امرأة توشوش صحونها، قد يبدو هذا غريبًا، لكن ثمّة علاقة عجيبة بين تلك المرأة ومطبخها؛ فهي تلاطف مقادير طبخاتها، وتدردش مع أوانيها، تصنع المخبوزات من طحين تبثُّه شكواها، فيهبها من بياضِه نفحةً تطيّب قلبها، تعدّ (المسخّن) بدجاجات ربّتها على يدها، تعرفها عز المعرفة، وخضروات زرعتها في حديقتها الصغيرة، راقبت نموّها يومًا بعد يوم، (المفتول والمنسف والمجدّرة والتبولة و..) أكلات تطبخها أم لقمان بحبّ مثلما يرسم فنان لوحة أو يكتب شاعر قصيدة!
في حرب 2008م استشهد أبو لقمان مخلِّفًا أرملة في ربيعها الثلاثين، مضرب أمثال الناس في الجمال، وطفلًا في الرابعة، أغلقت أمه باب قلبها على تربيته، ورفضت كل عرض يثنيها عن ذلك. اليوم، بعد خمس عشرة سنة من الشقاء، اشتد عودها ليسع قائمة من الهموم تقول إنها تهون كلّما ملأت عينيها من لقمان ومطبخها!
تغيّر كل شيء دفعة واحدة، امتنعت روائح الطعام عن مغازلة أنف لقمان، توقفت وشوشات أم لقمان لمطبخها الذي هُدِم، عندما دقّت حرب جديدة طبولها فوق رأسها فهمت أم لقمان أن لقمان لم يعد صغيرًا.
في الحرب صارت أم لقمان تطبخ لأحياء كاملة، لكل قاطني الخيام، تصنع كل شيء من لا شيء، من ماء وبقايا طحين تصنع أكلات عدة، كلّها طيبة، في حرب فائتة صنعت للأطفال خبزًا أسموه (خبز الحرب).
– والله زاكي، زاكي كتير يا أم لقمان ..
العجيب أنهم بعد الحرب صاروا يطلبونه.
أربعة حروب تناوبت على قلبها المتعب، في كل واحدة كان لها فقيد تختطفه، أب، أخ، وزوج. ظلت صامدة، فيما جاءت هذه الأخيرة لتجعلها ثكلى، موت لقمان قصم ظهرها، مهما حاولت إخفاء حزنها خلف كلماتها:
«أم الشهيد أنا صرت، يا سعدي..»
الوجع الكامن في عينيها الضيقتين ينعكس ظله في ابتسامتها، يُنبيك عن مرارة تلوكها في الخفاء، يا لقلوب الأمهات حين يحترفن الصبر، تتحوّل قلوبهن ساعتئذ إلى مخازن إيمان لا تنفد ..
كلما طالت الحرب تسربلت الأيام بالقهر، بالأمس وزعوا حِرامات خفيفة، كانت الحُمّى تنهش جسد أم لقمان النحيل، لكنها تبدو كرمح مغروس في قلب الصحراء، لفت الحِرام على جسد طفل نائم بجانبها، وبقيت تقاوم أوجاع الحمى وبرد شباط الخبّاط، أيصح أن يكون غير ذلك؟ نزحت أم لقمان وجيرانها مرتين وهو لا يزال بعد في منتصفه!
طنجرة كبيرة وبضعة أطباق حزينة، هو كل ما استطاعت إنقاذه من مطبخها. كانت اليوم توشوش بقاياه، تخبرها بقرب اجتماعهما في مطبخ يليق بهما، تهدهد وحشة صحونها كما تصبّر الأمُّ صغيرَها باقتراب إنضاج الطعام.
– الحرب غول نَهِم لا يشبع، يأكل الأرض والمال والعيال، ومطبخي ..
تقولها أم لقمان لكل من أتاها سائلًا عن رائحة طعامها التي اختفت بعد أن كانت تؤنس أهل الخيام.
لم تعد أم لقمان تطبخ شيئًا، لم يعد هناك ما يُطبَخ، فكّرت في طنجرتها، وصحونها. مطبخها هو سر تماسكها حتى الآن، لن تستطيع العيش إن فقدت ما تبقى منه.
أخذت بقايا مطبخها وانطلقت نحو أقرب تكيّة، شاركت في صنع الطعام لأعداد أكثر، تعمل حتى يشتد حَيْلُها، نعم حَيْلُها يشتد بين الطناجر والصحون، تعود لوجهها نضارته حين ترى الناس يأكلون مما أعدت.
لكن الحرب أبت أن تديم عليها نضارتها!
في ساعة الفجر التي تبدأ فيها أم لقمان بتحضير أوانيها، رأت الطائرات تزأر فوق الخيام تحمل النذر، اشتعلت الخيام وتفرق قاطنوها، مرة أخرى تحمل أم لقمان بقايا مطبخها وتنزح، لكنها لم تنقذ هذه المرة سوى ثلاثة صحون بائسة!
أم لقمان صانعة الطعام بكفاءة تضاهي أشهر (شيف) عزّ عليها رؤية صحونها حزينة فارغة، كانت تغسلها كل يوم بدموع ذكية.
أوصت صحونها بالصبر، طال انتظار الصحون لزاد يحيي الرماد تحتها حتى هاجمها الصّدأ، ظلّت أم لقمان تحارب الصّدأ وتصبّر أوانيها، لكنها لا تدري.. إلى متي بإمكانها الصمود، ومحاربة الصدأ وحدها؟