
الاجناس الادبية – الولادة والتطور، الثبات والتحول ..
لم تأت الاجناس الادبية منزلة من السماء، ولم تولد مرة واحدة في حضن المبدع الانسان، انما هي كانت منذ البدء مرادفة الى احساسات وهواجس الأنسان ضمن فترة زمنية معينة، متناسبة مع ظروف اقتصادية واجتماعية محددة، حيث يجد الانسان انه بحاجة الى التعبير عن افكاره وأحلامه وطوماحاته بهذه الطريق أو تلك ولاشك انها كانت عبارة عن حركات وإلتواءات واهتزازات للجسد، تتوسل او تغري او تخيف، وحسب علاقة الانسان بالمخاطب.
لا نريد ان نسهب في عرض تأريخ الاداب والفنون، ولكننا نريد ان نوضح عملية التطور لهذه الاداب والأجناس من جنس الى اخر: الشعر، والحكاية والرواية، قصيدة العمود والحر والنثر والنص المفتوح، القصة الطويلة، القصة القصيرة، والقصة القصيرة جدا والومضة.
وهنا لايمكن ان تختلف الرواية – هذا الفن المديني بامتياز – عن بقية الاجناس الادبية، فالرواية ولدت بإحجام وأساليب مختلفة، وكتبت وفق مدارس ادبية وفنية متنوعة. فهناك الرواية الطويلة جدا والمؤلفة من عدة اجزاء، والرواية الطويلة المؤلفة من عدة مجلدات، الرواية المتوسطة، الرواية القصيرة وهنا فلا غرابة ولا شذوذ ان يولدنوع من جنس روائي يحمل اسم الرواية القصيرة جدا.
ففي بداية كتابة الرواية التي رافقت عصر التنوير ونهوض البرجوازية الاوربية، وشغفها الكبير في اكتشاف المجهول والبحث في ادق التفاصيل، سواء في الطبيعة ومتطلبات السيطرة عليها عبر تملك ادق التفاصيل عن مكوناتها، من مياه وبحار ونباتات وحيوانات، ومكونات التربة واكتشاف المعادن المختلفة وخصائص كل منها.
ان الضرورة الملحة لكي يمد الرأسمال نفوذه في كل ارجاء المعمورة، تطلب دراسة اساليب حياة البشر وعاداتهم: مسكنهم، مأكولاتهم، درجة تعليمهم، ما يحبون وما يكرهون، دراسة تفصيلية لنفسياتهم، كمن يكتشف خواص احد المعادن لغرض تطويعه واستخدامه في مختلف الاغراض الصناعية والزراعية والحربية.
ان الحاجة للإيغال في التفاصيل انعكست بشكل كبير على الادب، وقد استجابت له استجابة كبيرة واشبعت فضوله الرواية الطويلة، التي لم تترك شاردة ولا واردة، صغيرة او كبيرة إلا ذكرتها بخصوص اسلوب حياة الشخصيات وعاداتهم: ملبسهم، مأكلهم، معمار البيوت والمدن التي يسكنوننها …. الخ. فمن يقرأ احدى هذه الروايات يستطيع ان يكوّن صورة شبه كاملة عن احوال الناس – موضوع الرواية – ومعرفة ادق تفاصيل حياتهم بما فيه شكل افرشتهم وغرف نومهم وأثاث بيوتهم، حركاتهم وسكناتهم وطريقة حديثهم، بما يميزهم عن غيرهم وتكون لدى القارئ صورة شبه كاملة التوصيف في مخيلته. كان الكاتب يضطر للسفر الى هذه الاماكن مهما بلغت من البعد والاختلاف عن بيئته، يعبر البحار ويقطع القفار؛ ليكون صورة واضحة عن ابطاله لتكون كاملة مكتملة امام انظار القارئ، فلم تكن وسائل الاتصالات متطورة بما فيه الكفاية ولم تكن الفضائيات ووسائل نقل الصورة كما هي في عصرنا الراهن، حيث اعطتنا ادق التفاصيل حول كل ما ذكرناه انفا. تتميز الرواية الطويلة بنت الوقت الفائض، بنت التلقين للمتلقي والتي لاتترك له حتى أن يلتفت الى ما حوله، المتسيدة التي لاتدع المتلقي يتخيل الحدث، يتخيل الشخصية، وشكل المكان، ولا تسمح أن ينفذ القاريء بقدرته الذاتية وحنكته على استنطاق الشخصية وفهم سلوكياتها، بل عليه أن يتلقى كل شيء من الراوي فهو كفيل أن يصف له كل شيء كل شاردة وواردة من سلوكية الشخصية((الراوي العليم والراوي كلي العلم))، ماتحب وماتكره، المكان طبيعته ومواصفاته، القمر هل كان بدرا او هلالا، تفاصيل أثاث الغرف لون الجدران واشكال الثريات، مائدة الطعام والصحون والملاعق والصواني والأباريق وووو..
أنها تشبه خطيب مهيب يعتلي منبر متعالي يلقي خطابه ومواعظه ويروي مايشاء وما يتخيل وما يتصور ليسكبه في دماغ المتلقي الذي يجلس صامتا تحت منبره ليس له أن يضيف أو يتخيل أو يشطب ما يقتنع به بل يهز رأسه بالقبول والأستماع لما يقول سيده الراوي العليم والراوي كلي العلم، وربما تطول هذه الخطبة وهذا القبول والأستماع أياما وليالي وربما أسابيع حتى ينتهي من قراءة رواية من أربع أجزاء أو أكثر بالآف الصفحات.فالقول ماقاله هوغو والقول ماقاله ديستوفسكي والقول ماقاله تولستوي وخير ما قالوا…
الراوي في الرواية التقليدية يفرض ما يريد على القاريء المتلقي دون ان يكون له حق في الأعتراض.هذا كان في بداية نهوض البرجوازية وعدم تطور وسائل الانتاج ووسائل النقل والمواصلات بين القارات وبين الشعوب، وصعوبة التواصل حتى بين مناطق ومقاطعات البلد الواحد.وما أن اشتد ساعد البرجوازية وتمكنت من طرح المزيد من المنتجات الجديدة والمتطورة، حتى أخذت تبحث عن الأسواق الخارجية لتصريف الفائض وللحصول على المواد الأولية بأسعار رخيصة، فكان الأستعمار وأحتلال البلدان، مما تطلب تطور وسائل النقل والتواصل كالبواخر والقطارات والسيارات، فوفر للفرد في هذه البلدان مزيدا من المعلومات عن الآخر في قارة أخرى وشعب آخر وبلد آخر غير بلده وقومية غير قوميته، مثلا ان تعرف معلومات عن الشرقي العربي والمسلم والزنجي الأفريقي والهندي الأحمر والصيني والياباني..الخ، كما أطلع على شكل معمار السكن والعمران والطرق وما اليه من عادات وتقاليد… وبذلك إنتفت الحاجة أو تضاءلت بالنسبة للروائي للأسهاب في ذكر هذه التفاصيل كما وصفها أول من شاهدها وكتب عنها من تعريف وتوصيف للأشخاص والأماكن، فالقاريء والمتلقي قد استبطنها مسبقا، وبذلك تطلب الواقع إختزال الكثير من حجم الرواية حيث تطورت وسائل النقل والمزيد من وسائل التواصل بين القارات والشعوب، مما وضع الأديب والفنان أمام خيار لابد منه الا وهو الأبتعاد عن الأسهاب المفرط، فكانت الرواية القصيرة هي المعبر عن مثل هذا العصر حيث تتراوح صفحاتها بين اقل من 100 صفحة الى 200 صفحة وعدد كلماتها قد لاتزيد عن 20000كلمة. حيث توفرت وسائل النقل متوسطة السرعة وانتشار التلفزيونات والسينما والسفن البخارية والسيارات، وإمكانيات السفر التي تستغرق أياما أو أسابيع أحيانا… رافق كل هذا ما أفرزته الحياة من متطلبات حياتية متواضعة نسبياً لاتشغل أعظم وقت الأنسان الأعتيادي، وعدم هيمنة ثقافة الأستهلاك والتسليع كما سيكون عليه الحال لاحقاً، مما أتاح للمثقف والأنسان من الطبقة المتوسطة وبعض طبقة العمال المهرة الوقت لساعات للأهتمام بالغذاء الروحي متوسط الحجم والكلفة كالرواية مثلا، التي أتت بحجم يتلائم تماما مع وقته المتاح.
•من كتاب الرواية القصيرة جدا اضاءات نقدية تاليف حميد الحريزي