وسط رطوبة منداة، وتحت شعاع قنديل خافت ، يركب خيالاته في دفاتره القديمة وحيدا في قبوه بين الكتب ، لا يجالس أحدا ولا يكلم أحدا سوى كتبه ، يتأمل أفواجا من الناس كأنه يشاهدهم لأول مرة، يتوجه نحو أرض خلاء يتخذ له موضعا على منبسط ترابي يخرج مذكرته الصغيرة ، ثم يعود أدراجه متجنبا الرصيف المزدحم بالغادين والرائحين ، يتناول شيئا من طعام واقفا في مكانه وعقله يدير فكرة أو يرسم خيالا عليه أن يوثقه قبل أن يهرب منه فيسرع إلى القبو حيث مكتبه وأوراقه ، يمسك جبينه ويشرع في مد جسور الخيال ، إنه لا يتوقف في هدأة المكان وسكونه عن عصر فلسفته في الحياة ..،
وجه نحيف ولحية كثة وخطها المشيب كما وخط شعيرات في الجانبين هي كل ما تبقى من شعر الشباب الذي أسقطته محاورات الكتب وقلة اعتناء بادية على البدن الآخذ في التيبس وعينان غائرتان تهدل جفناهما ، كل هذا لا يهمه بقدر ما يفرح لصناعة شيء جميل زاخر بالحكمة ، يكون بوصلة لآخرين ضلوا طريق المعرفة ، هكذا يفكر مليا ، في خلوته ، في طريقه على الرصيف ، في إسراعه نحو السوق للتبضع ، في نزوله الدرج وفي صعوده ، في ركوبه وسيلة نقل ..، يضع كناشة صغيرة وقلما في جيب سترته ، فقد تعن لخاطره فكرة من هامش الحياة فيلتقطها سريعا لتكون وجبة معرفية دسمة لمقال أو نص أو كتاب ، العزلة شيء ممتع ! مريح ! مندى كقطرات ماء تبلل جلدك !، ناعمة هي العزلة! أسرها في نفسه وأخرج ضحكة صغيرة مائلة من فيه وهو يسترق نظرا إلى زمرة تجتمع في مقهى أو حديقة تلوك الفراغ، شيء من الاستعلاء أصابه، قد يبدو عاديا فهو خبر ذلك عند فلاسفة كثر، وشعراء عرب وغير عرب، إنه يجد شيئا من نفس هؤلاء في ذاته، لكنه ينصرف عن ذلك سريعا كمن يصفع خده ليتنبه..
وحيدا كزهرة بين صخرين يعبق فكره الذي يظل حبيس مكان ضيق، أيقن أنه لن يستطيع نشره في البعيد ، .. يخطو فوق الرصيف الفارغ من الأحياء شمس العصر حارة لافحة في ذلك المساء الصيفي حاني الهام كالمتأمل سابحا في غلوائه، وقف قليلا أمام شجرة على الرصيف وجعل يدور حولها كباحث عن شيء ضائع، أخرج كشافا من جيب سترته وأشعله وهو يدور مقلبا بعينيه في الجوانب تارة وفي داخل الشجرة تارة أخرى، شرطي أسمر البشرة طويل القامة يمتد ظله نحو الرجل، أنت، ما ذا تصنع هنا ؟ نظر إلى يده وقال: تحمل سلاحا أيها الوغد؟ وأردف ضاحكا بسخرية: وتحاول إخفاءه عني؟ تعال معي، هيا، دفع الشرطي الرجل حتى أوشك على التهاوي كورقة ذابلة، وساقه نحو مخفر قريب، ظل واقفا لما ينيف على ساعة .. وأخيرا ظهر رجل عريض المنكبين ، ذو شارب مفتول ، صارم الملامح ، نظر إليه ثم أشاح بوجهه عنه وقال لأحد الضباط : ماذا يفعل هذا المجنون هنا ؟ هذا ما ينقصني في هذا المخفر المشؤوم ، محاورة الحمقى والمجانين ، نظر بامتعاض شديد إلى الرجل وقال : أنت أيها العجوز المجنون ، تقدم ما جريمتك ؟، فكر قليلا وهو يمسك بذقنه وقال : قاتل لزوجتك ، فأنا أعرف أن العجائز سرعان ما يسأمون من زيجات يعمرن طويلا ، أو سارق لمال فقد يكبر الإنسان في السن وتزداد نفسه جشعا ، ثم أردف قائلا : هل ستتكلم أو …
قال الرجل : لا هذا ولا ذاك أيها المفتش ، أنا مجرد قاطع ..
ضحك المفتش: قلها، قلها قاطع رؤوس، إرهابي أنت، سجل أيها الكاتب: لقد ثبت يما لا ينفي الشك بعد اعتراف الجاني المسمى.. أنه ينتمي إلى جماعة إرهابية وأنه كان مقبلا على تنفيذ عملية إرها..
حاول الرجل مقاطعة المفتش فانهال عليه أحدهم من الخلف بضربة أسكتته ، وجعلته يبتلع صمته وزاد المفتش : وقد أدلى الشرطي المسمى .. أنه وجد المتهم قرب شجرة على الرصيف يخطط للعملية التي كانت ستتم في هذا المساء ..
أمر المفتش بتفتيش الرجل ، مذكرة ، قلم ، وكشاف لازال مشتعلا ، نظر المفتش في المحتويات بعد أن قال : إنها أدلة مادية حاسمة في القضية ، أيها الكاتب أضف إلى المحضر : وقد عثرنا على أدلة .. تؤكد تورط المشتبه به في .. تمتم الرجل محاولا أن يقنع المفتش ،لكن ضربات انهالت عليه من كلا الجوانب منعته الكلام، فالتمس كلمة وجدت قبول المفتش الذي استدار بكرسيه ذي العجلات فأمره بالكلام فقال: سيدي هذه مجرد مذكرة أسجل فيها أفكاري يمكنك الاطلاع على ما فيها، وهذا كشاف أستخدمه عند النزول للقبو حيث كتبي ومسوداتي فقاطعه المفتش وقد تعالت ضحكاته: تريدني أن أقرأ أفكارك أيها الوغد، وأنت الآن تعترف أنك تملك كتبا وقبوا، استدار نحو الكاتب وقال: زد أيها الكاتب وقد أقر المتهم بامتلاكه للأدوات الإرهابية مع اعترافه بملكية مقر خاص تعقد فيه اجتماعات سرية لنشر الفكر الإرهابي..، فتح المذكرة وأخذ يقرأ العناوين: نحو فكر تنويري جديد للعقل العربي ـ الإعلام والإيديولوجيا ـ التفاهة ودمار المجتمع العربي ـ الثقافة والسلطة..، نظر المفتش ذاهلا إلى الرجل مليا وتفحصه من أخمص قدميه إلى هامه فقال: أنت لا يمكن أن تكون مجنونا.
تهلل وجه الرجل وانفرجت أساريره وفتح فاه بالكلام ، لكن المفتش انتفض من كرسيه كليث وقال وهو يخرج عينين يتطاير منهما شرر الغضب: أنت تتظاهر بالجنون كي لا تلفت الأنظار إليك ، لكن فطنة الشرطي كانت لك بالمرصاد، خذوه إلى الزنزانة السفلية رقم 7.
ساقه أحدهم مكبل اليدين إلى زنزانة قذرة حقيرة ، نظر إليه بعض المحتجزين الذين ينتظرون سوقهم نحو المحاكمة النهائية بذهول ، أحدهم استوقف السجان ، وقال له : لماذا جئتم بهذا الشاعر إلى هنا ، هذا فيلسوف وحكيم و.. فرد السجان : هذا ليس من شأنك أيها المعتوه ، لقد مات الفلاسفة والحكماء منذ زمن
فرد الرجل بروية : ومن أخبرك بهذا أيها السجان ؟ الفلسفة والحكمة لا تموت أبدا ما دام الإنسان كائنا مفكرا ، فقال السجان :هذا التفكير هو سبب تواجدك هنا ، ألم يقتلوا سقراط من قبل بسبب الحكمة ؟ ألم يعدموا غاليليو بسبب مخالفته للكنيسة ؟ ..
تعجب الرجل من كلام السجان وقال : أنت مختلف عمن رأيت أيها السجان ؟ فرد السجان :ها أنت أيها الفيلسوف بدأت تبحث عن محاورات تفك عزلتك ..
دخل زنزانته وهو يلتقط نبرات الأسف والحسرة من السجان الذي أدهشه برده وطيبة لم يجدها في غيره ، برودة منداة لا تختلف عن برودة القبو سرت في جسده، وحده من جديد، يعصر وحدته في انتظار قادم يأخذه إلى المحكمة ليمثل أمام القضاء في رحلة جديدة تكشف الحقيقة ، غفا في زاوية من تعب ..، القاضي بسترته السوداء وشريطه الأحمر القاني ومستشاراه على اليمين واليسار، مطرقته يقرع بها الطاولة المستطيلة، الشرطي واقف في الباب والناس يحملقون، الرجل بلحيته الكثة البيضاء وجسده الهزيل الذابل واقف مسمر في مكانه أمام قاض لا يزال في عنفوان الشباب يسأله قائلا: أنت متهم بالانتماء لجماعة إرهابية وأقررت في محضر الشرطة بالمنسوب إليك ،وقد أكدت الأدلة المادية التي وجدتها الشرطة معك محاولة تنفيذ عملية إرهابية، ناهيك عن العناوين التي وجدت في مذكرتك رفقة القلم الذي كنت تستخدمه في الترويج لأفكارك الترهيبية فما قولك؟
سيادة القاضي ، إن كل ما ورد في المحضر لم يكن صحيحا ، لأنه من توهمات مفتش الشرطة الذي أمر الكاتب رغما عني، أما عن توقيعي على المحضر فقد كان تحت الإرغام ..،
القاضي: وما تقول في الأدوات التي كنت تحوزها ؟
الرجل: سيادة القاضي ، أما القلم فهو وسيلتي في كتابة ما يعن لذهني من الأفكار التي قد تتفتق في الذهن ، فأنت تعلم حال الشعراء والفلاسفة يقدرون على التقاط دقائق من الحياة لا تكون إلا لهم وأنا اخشى ضياع فكرة أو جزئية عابرة أجد فيها شيئا مغريا للكتابة ، فكيف يكون أداة للإرهاب وقد خلقه الله ومجده في كتابه قال تعالى ، {ن والقلم وما يسطرون }
القاضي: وما تقول في العناوين التي دونتها في مذكرتك؟
الرجل: أما تلك العناوين فقد فهمت خطأ سيادة القاضي ..، تبادل القاضي نظرات مع مستشاريه وقال : أكمل..
الرجل: من أجل فكر تنويري جديد للعقل العربي ـ الإعلام والتفاهة ـ الثقافة والسلطة ـالمخطط ـ وغيرها مما قرأه حضرة المفتش، فهي عناوين أود الكتابة عنها لما فيها من خير سيعود بالنفع على الناس، إذ فيها تنوير ودفع العقول لتبني التسامح والتعايش وفهم مثلهم العليا وقيمهم السامية بعيدا عن التفاهة التي صرنا نعيشها الآن بلا انقطاع، فأشار إليه القاضي بالسكوت وسأله قائلا: وماذا عن كشافك؟ ألست تستعمله في أمر مريب؟
رد الرجل بحزم : سيادة القاضي ، إن كشافي ما هو إلا رمز للبحث عن الحقيقة ؟
القاضي ( مستغربا) : البحث عن الحقيقة ؟ وفي واضحة النهار وعلى الرصيف ؟ تقول بحث عن الحقيقة ؟!
الرجل: أجل سيادة القاضي، إن الحقيقة لا تمنحنا نفسها إلا بعد طول عناء وجد في البحث، فحتى واضحة النهار لا يمكنها أن تكون طريقا للوصول إلى حقائق الأشياء مالم نستعن بالعقل لأن ما يتبدى خارج العقل مجرد ظلال.
القاضي : وكأنه يسترجع شيئا من قراءاته القديمة ، تقصد ظلال الكهف أيها الفيلسوف
الرجل : أجل سيادة القاضي ، كهف أفلاطوني يعيش بيننا
القاضي : فهمت أيها الحكيم .. ، وبدون سابق إنذار أعلن القاضي دون مشاورة : حكمت المحكمة حضوريا على المتهم ـ عفوا ـ على الفيلسوف ببراءته التامة من المنسوب إليه
وقف القاضي ونزل من مكانه وتوجه نحو الرجل، قبل رأسه وأمر الشرطي باقتياده إلى معتكفه ليستمر في البحث عن الحقيقة، وقال بصوت شديد اللهجة: أريد المفتش حالا.
ظل طويل يمتد من خلف الرجل ويد تحرك الجسد الممدد تحت ظل شجرة على الرصيف، فتح عينيه فإذا هو شرطي أسمر البشرة يقول: هل أنت بخير أيها السيد؟ لقد نمت وسط الرصيف ولولا المفتش الذي مر بسيارته ونبهني إلى وجودك تحت هذه الشجرة لكنت عرضة لخطرمحدق.
شكر الرجل للشرطي صنيعه وتحامل على قدميه بمساعدة الشرطي الذي أمره بأخذ مذكرة وقلم كانا قد سقطا منه في زمن الغفوة.