
لم يكن الشاعر العربي بمنأى عن الواقع السياسي الذي عاشته البلاد العربية ، وما شابها من تقلبات واضطرابات وقلاقل نتجت عن الصراعات العصبية والمذهبية والطائفية التي نشأت في زمن الفتنة الكبرى حينما ستؤول الخلافة لبني أمية وما كان من أمر الخوارج بعد قضية التحكيم في معركة الجمل الشهيرة عام 36 للهجرة ، فاستذكت جذوة الصراع بين الأطياف المختلفة والفرق المنبثقة ، كل يدافع عن سياسة حكم أو اتجاه مذهب أو فكرأو معتقد طائفة ، فتأجج الصراع الكلامي شعرا بين شعراء المذاهب السياسية ينافحون بكل قوة عن انتماءهم ويحتجون على صحته وسمو مكانته وصحة مزعمه في مقابل دحض مزاعم كل مخالف ، فانتعش شعر جديد في البيئة العربية تحت مسمى الشعر السياسي وآخر تحت مسمى الشعر المذهبي غذته الأفكار الجديدة التي تبناها شعراء إما دفعا للخوف من السلطة السياسية وإما إيمانا يدفعه الاقتناع بالمبادئ التي أسسها الوعي الجمعي فصارت ثقافة مذهبية لا يمكن للشاعر أن يتنكر لها ، ونحن إذ نفصل بين السياسي والمذهبي فإننا نقصد إلى ذلك الفصل المنهجي بين شعر أنتجته السلطة السياسية وظل مشمولا برعايتها تكفل له البقاء وتغدق عليه المنح والثناء لأنه ارتبط بالأحزاب السياسية التي نشأت في كنف الدولة بوحي من المصلحة السياسية خلال الفترات المضطربة من خلافة الإسلام ، بينما الشعر المذهبي نابع من الإيمان بالانتماء الحقيقي والراسخ للمذهب والانتصار له منذ آواخر القرن الأول الهجري لتحل محل الأحزاب السياسية وعبر شعراؤها عن أفكار مذاهبهم التي استمدت أصولها من المرجعية الدينية كمرتكز أقامت عليها بنات أفكارها وإن صبغته بشيء من السياسة غير أن غالب دفاعها كان عما هو فلسفي وكلامي وديني ، وهو الشعر الذي أود أن أعرض له لدوره الكبير في الثقافة العربية وما أحدثه من نقلة لم تظهر لكثير من الدارسين استطاعت أن تغير مجرى الفكر العربي من نطاق الشفاهية إلى نطاق العقلانية.
صحيح أن المذهبية ظهرت في المدونة الشعرية العربية القديمة في شعر الجاهليين فقد ذكر الشهرستاني في كتابه الملل والنحل بيتا لأحد الشعراء يقول فيه :
حياة ثم موت ثم بعث حديث خرافة يا أم عمرو
وجاء في الجزء التاسع من كتاب الأغاني للراغب الأصفهاني قول ينسب للأعشى :
استأثر الله بالوفاء وبالعدل وولى الملامة الرجلا
في إعلان صريح عن قدريته أي إنكار تقدير الشر على العباد وهو نفس الموقف الذي تبنته المعتزلة فيما بعد ، غير أن كلاما في القدرية والجبرية وما شابهها من معتقدات أراها نشأت في بيئة عربية تأجج فيها الصراع الكلامي بين المعتزلة والأشاعرة وتغذت من روافد ثقافية متباينة خاصة الرافد اليوناني بما حمله من فلسفة وجودية جديدة للثقافة العربية ، ما يجعل زعم الشهرستاني والراغب بعيدا عن المنطق العقلي الذي يسلم بمثل هذه الأنماط من التفكير التي أعدها سابقة على البيئة والعصر، لذا فالشعر المذهبي بحمولته الفكرية والفلسفية لم يكن ليكون له وجود تاريخي لولا دور علم الكلام وما صنعه المتكلمون بما أثاروه من جدل ديني في مسائل الخلق والصنعة والذات الإلهية والجبر والقدر والتسيير وغيرها من القضايا التي احتدم حولها الجدال ، إذ كان مسار الصراع ثنائيا ما أسهم في تغذية هذا اللون الشعري ، فقد كان الصراع قويا مع أرباب الملل والنحل الأخرى التي دافعت بشراسة عن معتقدها خاصة من النصارى واليهود ، وكان محتدما بين الفرق الكلامية أقصد المعتزلة التي دانت لها السلطة السياسية والأشاعرة وهذا الجدل الكبير سيشكل المنهل الذي سيمد الشعراء بالأفكار التي وجدوها منجزة من قبل المتكلمين فتلقفتها القريحة وصاغتها أشعارا شديدة الدفاع عن الفكرة ، وقد أسهمت الترجمات خاصة الأرغانون الأرسطي ( المنطق) ونظريات الفلسفة الهلينية في تأجيج حركة الشعر المذهبي مع بداية العصر العباسي.
لقد تعدد ت الفرق المذهبية في هذا التاريخ من العصر الإسلامي بين إباضية وصفرية واثنا عشرية وأزارقة وغيرها من فرق الشيعة وفرق خارجية ( الخوارج)، و مرجئة وكلها فرق دافعت عن أفكارها لا بالخطابة فحسب وإنما بالشعر لما يمتلكه من قوة حجاجية وتأثيرية أكبر في الوجدان العربي ، فنظمت القصائد المدافعة والمنافحة عن المذهب حتى إن بعض الشعراء عرفوا بنصرة مذهبهم فينذرون له أنفسهم وكل قريحتهم مثل السيد الحميري الكيساني الشيعي وعمران بن حطان الشاري ، وقد شكلت قضية الجبر والاختيار أهم قضية دار حولها خلاف الشعراء فتراوحت الآراء بين قائل بالقدرية كصالح بن عبد القدوس إذ نجده يقول:
ولا أقول إذا ما جئت فاحشة إني على الذنب محمول ومجبور
ونجد الذاهبين مذهب الجبرية كأبي العتاهية يقول :
الحمد لله يقضي ما يشاء ولا يقضى عليه وما للخلق ما شاؤُوا
لم يخلق الخلق إلا للفناء معا تفنى وتبقى أحاديث وأسمـــــــاءُ
أما المرجئة الذين آمنوا بإرجاء الحكم ولاكتفاء بالإيمان وهم أصناف عدة منهم فرقة على مذهب القدرية المعتزلة وفرقة تقول بالجبر في الأعمال وهو مذهب جهم بن صفوان وفرقة لا هي بالجبرية ولا بالقدرية منها اليونسية والغسانية والثوبانية ، ومن أشهر قادتهم الحارث بن سريج المرجئ ومن أكبرشعرائهم ثابت بن فطنة الذي أوضح مذهب الإرجاء في شعره ودافع عنه قائلا:
يا هند فاستمعي لي إن سيرتنا أن نــــــــــــــعبد الله لم نشرك به أحدا
نرجي الأمور إذا كانت مشبهة ونصدق القول فيـــــــــمن جار أو عندا
المسلمون على الإسلام كلهـــمُ والمشركون اســــتووا في دينهم قددا
ولا أرى أن ذنبا بالغ أحـــــــدا م الناس شركا إذا ما وحدوا الصمدا
لا نسفك الدم إلا أن يراد بــــنا سفك الدماء طريقا واحدا جـــــــــددا
كل الخوارج مخط في مقالته ولو تعــــبد فيما قال واجتــــــــــــهدا
أما علي وعثمان فإنهمـــــــا عبدان لم يـــــــــشركا بالله مذ عــبدا
فقد شكلت المساواة والإيمان بالله والتوحيد أساسات في فكر المرجئة ونجد الرد على الخوارج قويا بتفنيد مزعمهم القائل بتكفير عثمان وعلي ، وقد وصف كثير من النقاد والدارسين والمستشرقين فكر الخوارج بالفكر الضيق لانحصاره في بيئة البداوة ما جعل ثقافتهم المذهبية ساذجة إلى حد كبير، إذ ذكر أحمد امين في الجزء الثالث من ضحى الإسلام أن غياب الثقافة اليونانية عنهم كما كان حال المعتزلة وغياب الثقافة الفارسية عنهم كحال الشيعة جعل تفكيرهم بدوي الطابع وهو نفس الطرح الذي تبنته الدكتزورة سهير القلماوي في كتابها أدب الخوارج حين قالت إن الشعور الديني للخوارج لم يكن شعور المفكرين المتفلسفين وإنما كان شعور أعراب سذج لم يدرسوا ولم يبحثوا أو يعللوا ويحللوا ولهذاكان أجدلهم خاليا من الحجاج والبرهان بالقدر الذي كان مليئا بالنغمات الدينية ، لذا كان تشبثهم بمبدإ الخروج على السلطان الذي ترك الحق في نظرهم من الثوابت في مفكرتهم العقدية وقد عبر شاعرهم خالد القسري عن ذلك بقوله :
لم أرد منه الفريضة إلا طمعا في قتله أن أنالا
فأريح الأرض منه وممن عاث فيها وعن الحق مالا
كل جبار عــــــنيد أراه ترك الحق وسن الضلالا
إني شار بنفـــسي لربي تارك قيلا لديــــــهم وقالا
بائع أهلي ومالي وأرجو في جنان الخلد أهلا ومالا
أما المعتزلة فقد كان نشاطهم أكبر في القرن الثاني الهجري ومن أشهر شعرائهم صفوان الأنصاري الذي نجده يعلن عن أهم مبادئ المعتزلة في شعره إذ يقول:
له خلف شعب الصين في كل ثغرة إلى سوسها الأقصى وخلف البرابر
رجال دعاة لا يفل عزيمهم تهكم جبار ولا كيد ماكر
إذا قالوا مروا في الشتاء تطاوعوا وإن كان صيفا لم يخف شهر ناجر
بهجرة أوطان وبذل وكلفة وشدة أخطار وكد المسافر
وما كان سحبان يشق غبارهم ولا الشدق من حيَّيْ هلا بن عامر
تلقب بالغزّال واحد عصره فمن لليتامى والقبيل المكاثر
ومن لحَرُوريٍّ وآخر رافِضٍ وآخر مرجي وآخر حائر
وأمر بمعروف وإنكارمنكر وتحصين دين الله من كل كافر
يصيبون فضل القول في كل منطق كما طبقت في العظم مدية جازر
لقد ساق صفوان الأنصاري في هذه الأبيات حديثه عن واصل بن عطاء رأس المعتزلة ومكانته في المذهب وأبرز القيم التي تأسس عليها من أمر بالمعروف وإنكار للمنكر وحفظ للدين وإصابة الفضائل ، بل إننا نجد من المعتزليين من ردوا على بقية المذاهب من شيعة رافضة وحرورية ومرجئة ومتحيرين بين الجبرية والقدرية فها هو بشر بن المعتمر أحد أبرز شعراء المعتزلة يرد على الخوارج في نصبهم العداء لعلي بن أبي طالب مذكرا إياهم بفضله فيقول:
ما كان في أسلافهم أبو الحسنْ ولا ابن عباس ولا أهل السننْ
غر مصابيح الدجى مناجبُ أولئك الأعــــلام لا الأعاربُ
كمثل حُرْقوصٍ ومن كَحُرْقوصْ فقْعَةُ قاعٍ حولها قصـــــــيصْ
ليس من الحنظل يشتار العسلْ ولا من البحوريصطاد الورلْ
هيهات ما ســـــافلة كعاليــــــهْ ما معدن الحكمة أهل الباديــــهْ
ورد المعتزلة على الجهمية ومن تابعهم في مذهب الجبرية الخالصة رغم موافقة جهم بن صفوان للمعتزلة في نفي الصفات الأزلية ، ورد صفوان الأنصاري في مقارعة شعرية بديعة على بشار بن برد في زعمه أفضلية خلق إبليس من النار في البيتين الشهيرين :
إبليس أفضل من أبيكم آدم فتنبهوا يا معشر الفجار
النار عنصره وآدم طينه والطين لا يسمو سمو النار
فكان رده متفلسفا يستدعي الخلق وجمال الصنعة ومكنونها في قوله :
زعمت بأن النار أكرم عنصرا وفي الأرض تحيا بالحجارة والزند
ويخلق في أرحامها وأرومها أعاجيب لا تحصى بخَطْر ولا عقد
وفي القعر من لج البحار منافع من اللؤلؤ المكنون والعنبر الورد
كذلك سر الأرض في البحر كله وفي الغيضة الغناء والجبل الصلد
مفاخر للطين الذي كان أصلنا ونحن بنوه غير شك ولا جحد
فذلك تدبير ونفع وحكمة وأوضح برهان على الواحد الفرد
إن هذه الأمثلة التي سقناها على سبيل التمثيل لا الحصر لهي دليل قاطع على دور المعتزلة في إغناء الساحة الثقافية والأدبية ومدى تفتق فكرهم ورصانة رأيهم الذي تغذى بفلسفات عصرهم وتشرب ثقافات الدخيل وأعاد تشكيلها بعدما وظف آلياتها العقلية في خلق منطوق حجاجي ينبني على العقل الذي شكل بؤرة الاشتغال في الفكر المعتزلي متجاوزا بذلك حدود النقل التي كانت مهيمنة على المدونة الثقافية العربية .
أما عن الشعر المذهبي عند الشيعيين فقد كان أغزر وأكثر من غيره من شعراء المذاهب الأخرى لكثرة من تفرعوا عنها من فرق وكثرة من التزموا بمبادئها فكانت لها الغلبة كما وعددا ، وهم فرق ثلاثة هي الزيدية والكيسانية والإمامية وكل واحدة من هذه الفروع الثلاثة تنقسم إلى فرق كثيرة تختلف فيها الأفكار والمعتقدات والفلسفات النابعة من روافد دينية عديدة كالمزدكية والمانوية والزرادشتية والديصانية والربانية وغيرها وكلها تجمع على عصمة الأئمة واستخدام التقية والإيمان بالرجعة والمهدي المنتظر مع الاختلاف البين بينهم في تعاليم ومبادئ عديدة تشمل قضايا تقديس الأئمة وتكفير من يطعن في علي بن أبي طالب وغيرها من المختلفات وأشهر شعراء الشيعة من الكيسانيين الكميت بن زيد الأسدي الذي قال في حق محمد بن الحنفية الذي ادعى الكيسانيون أنه لم يمت وأنه سيعود ليقود الخيل مؤمنين بمبإ الرجعة:
ألا إن الأئمة من قريـش ولاة الحـــق أربعة سواء
علي والثلاثة من بنـــيه هم الأسباط ليس بهم خفاء
فسبط سبط إيمان وبــــر وسبط غيـــــــبته كربلاء
وسبط لا تراه العين حتى يقود الخيل يقدمــها اللواء
وقد كان كثير شيعيا غاليا يؤمن بتناسخ الأرواح وهو إذ أعلن مذهبه في شعره كان يمارس نوعا من التخفي على السلطة الأموية خوفا من بطشها ما جعله يعبر عن الاعتراف بخلافة الأمويين رغم إنكاره لها في قرارة نفسه ، ويقول في ذلك :
وكان الخلائــــــــــــــــف بعـــــد الرسول لله كلـــــــهم تابعا
شهيدان من بعد صــــــديقهم وكان ابن خولى لخهم رابعا
وكان ابنه بعده خامـــــــــسا مطيعا لمن قــــــــبله سامعا
ومروان سادس من قد مضى وكان ابنه بـــــــــعده سابعا
وقد كان الكيسانية يجلون عليا وهو ما أكده السيد الحميري الذي وجدناه يقول :
أقيم بالله وآلائـــــــــه والمرء عما قال مســــــؤول
إن علي بن أبي طالب على التقى والبر مجـــــــبول
وكان دعبل الخزاعي من روافض الشيعة الغلاة عادى العباسيين عداء واضحا لإيذائهم العلويين الذين تغنى بحبهم كثيرا في شعره ومن فرق الشيعة الزيدية الذين قالوا برجعة الأموات إلى الدنيا قبل القيامة وكان هذا المعتقد أهم خلاف بينهم وبين الإمامية لدرجات التكفير فهذا شاعر الإمامية يقول هاجيا الزيدية :
يا أيها الزيدية المهملهْ إمامكم ذو آفة مرسلهْ
يا رخمات الجو تبا لكم عضتم فأخرجتم لنا جندلهْ
وهذا رد شاعر الزيدية :
إمامنا منتصب قائم لا كالذي يطلب بالغربلهْ
كل إمام لا يرى جهرة ليس يساوي عندنا خردلهْ
إن الفرق الكلامية معتزلة وأشاعرة والفرق المذهبية من مرجئة وشيعة وخوارج وغيرها من الفروع التي انبثقت عنها استطاعت على الرغم من هذا الصراع المحتدم فكريا وعقديا وفلسفيا أن تغني الثقافة العربية وتمنحها ذلك الغنى الذي افتقرت إليه بسبب ارتكازها على المدونة الشفهية التي شكلت دعامتها لقرون من الزمن ، لذا أجد أن الشعر المذهبي الذي ظل نتفا متفرقة في كتب النقد والتاريخ والآثار والموسوعات العربية كان ذا دور كبير في إغناء الثقافة العربية وتوجيهها نحو مشروعية العقل بعيدا عن النص واعتماد البرهان كجزء جديد من مفكرة الثقافة ، ولم تلتفت كثير من الدراسات لأهميته مثلما التفتت إلى الفلسفات وإلى الترجمات وما جد من ثقافات جديدة دخيلة باعتبارها عاملا مغذيا لهذا الشعر متناسية دور الخطاب كملكة لسانية في التأثير وبث الحمية وترسيخ الفكرة في الوجدان والعقل معا.