
في بعض الأحيان نصادف كتابات مشهود لها بالإبداع اللامتناهي ، وهذا العمل الأدبي المبني على الثوابت الفنية والجمالية والصور المتنوعة لا يتصف به كل قلم بل هناك تفاوتات بين شاعر وشاعر وشاعرة وشاعرة ، والنص الشعري النثري الموسوم برقة وعذوبة الصياغة الجميلة غالباً ما يشدك من القراءة الأولى بحيث يجعلك تحلق في سماء المخيال الدافىء والممتع بكل المقاييس سواء البلاغية أو المقاطع ذات المعنى والدلالة العميقين ،والشاعرة بشرى طالبي أحد الأقلام المبدعة الصامدة التي تطل علينا بنص غني بالجمال الإبداعي أسلوبا ومضمونا ورقة الكتابة الأنيقة التي يتوجب على كل عاشق للكلمة ومتعطش للحرف الشعري الشاعري أن يرتوي من وعاءها الحي .. والمتعمق في نصها المنشور أعلاه المعنون ب : [صمت يحتج …. وكلمة تنتظر الطهارة ] نص يحتوي على جمالية الصور الشعرية الشاعرية الممتعة والتي تشدك بتلقائية لأنه يترجم إحساسا يهز الكيان ويحرك لواعج الذات وكوامن الأعماق بشكل دقيق الأبعاد وعميق الأفكار وتقريبا يقدم عرضا إبداعيا يتناغى مع طبيعة الكتابة الشعرية الحداثية التي أضحت أحد مقومات الواقع المعيشي الثقافي الأدبي العربي بما يفيد برغم التخلي عن النظم الذي ورثناه عن فطاحلة الشعر العمودي .. نعم لكل زمان رجالاته ، وأنا أقول لكل زمان شعراءه ، والظرفية الثقافية جعلت أقلام العالم تنهج سردا يتماشى مع العصر الحديث باختلاف مدارسه الإبداعية والفنية .. والمتعمق في القصيدة بشكل ملفت للنظر قد يجد صورا زئبقية فياضة بالمشاعر والأحاسيس التي تترجم انعكاسات الحالة الذاتية للشاعرة ولو أن كل ذات علبة من علب الواقع تحمل في جعبتها رؤية تحاكي طبيعة تركيبة الحياة المعاشة … فالعنوان الذي يعتبر كمدخل أساسي للنص أو مفتاح القصيدة يجعلك تحلق في سماء المخيال القوي وخاصة في كلمة (صمت) يحتج… و(كلمة )تنتظر الطهارة . إنه مدخل فلسفي في زمن أضحى الصمت هو الملاذ الآمن للإنسان ، وأن الكلمة الطاهرة تخشى الإفصاح . لقد جاء على لسان المجدوب :
(الصمت حكمة ومن تفرقت الحكايم )…. إلى أن يضيف :
(لو ما تكلم فرخ اليمام ما يجي ليه الحنش هايم) … لكن إلى متى سنتحرر من كابوس السؤال الذي سكن أنفسنا وجعلنا نعيش بين مد وجزر الخوف والحرية ؟ … إلى متى نظل نعيش على إيقاع الرمزية في الكلام ؟ … نص يؤجج الإحساس بروعة الصياغة ، ويحعلك تقف أمام لوحة مشحونة بتساءلات معلقة ، نعيش الصراع المعنوي في زمن الحداثة والعولمة والتفاهة تحت مقصلة الخوف …
نص جميل جداً يتطلب الوقوف على مضامنه وتركيبته الإبداعية ، وأعتذر إن قصرت في التحليل لأنني أريد إشراك المتلقي لتتسع دائرة النقاش والحوار القيم … تحية لك أيها المبدعة الصامدة في وجه الزمن المشحون بلوحات عصيبة تكاد تفقد توازنها في زمن العولمه .
********
النص:
صمت يحتجّ…. وكلمة تنتظر الطهارة. بقلم: بشرى طالبي
سكتَ الصمتُ قليلًا،
فََسَاد الظّلام طويلًا،
ثم نطقَ الصّمت أخيرًا.
سار بين الأزقّة والدّروب،
يُلقي السمع وهو عليل،
يتوق لصوتٍ حُرٍّ أصيل،
جال ببصره ذات اليمين،
لمح جمعًا، فاستبشر خيرًا.
أخذ مقعدًا بين الجالسين،
يتأمل وُجوهَ الحاضرين،
ثقةٌ معدومة،
أقلامُ مكسورة،
وقراراتٌ مركونة،
لا صوت يُسمع إلا قيلا وقيلا،
جعجعة ولا يُرى طحينا.
طال السّكوت…
صاح الصمت: أنا لستُ عميلًا،
قد كنت للرّضا علامةً ودليلًا،
كيف صرت عارًا، وللجبن سبيلًا،
كفى!!.. لن أقول بلى..
ورأسي أبدًا لن تميلَ..
يا أهل الكلام إسمعوني:
قد كنت يوما عزيز قومي،
تَلُفُّنِي عيون الحالمينَ،
وتبوح بي قلوب العارفينَ.
أَمَا وقد أضحيت ذُلًّا ذليلًا،
أُعلنُ الآن انسحابي والرّحيلَ،
قراري، ما عاد يحتملُ التأجيلَ،
رُبّما أعود يوما،
فجرًا أو أصيلًا،
عندما يصبح الكلام حلالًا،
ويغدو الصمت خجلًا جميلًا،
يعلو وجوه العاشقين.
فأنا ماعدت ذهبًا صقيلًا،
منذ صار الكونُ بكاءً وعويلًا.
فسلامٌ عليّ يوم أرحل،
ويوم أُبْعَثُ صمتا بليغًا،
لِأرض العجائب.
ولِبلادِ الصُّم البُكمِ،
طيرا أبابيلًا..