
منذ أن حملتني أمي على ظهرها وأبي على كتفيه ، لأمضي قدما لأركب صهوة حمار خالتي و بغل جارنا، واليوم الذي عاد أبي من السوق بحصان ارتقيت صخرة لأتمكن من إعتلاء ظهره، وبعدها ألفت الذهاب للسوق الأسبوعي برفقة أبي بعربة يجرها فرس، وفي مرحلة الإبتدائية داومت الذهاب لمدرسة القرية سيرا على الأقدام، وتاليا بدراستي الثانوية اعتدت التنقل جيئة وذهابا للثانوية على متن حافلة قديمة الطراز، انتقلت بعدها للمدينة قصد دراستي الجامعية. كنت خلال العطل أزور أسرتي مستقلة سيارات أجرة، لكني لم أعهد يوما أنني ركبت مع غريب، أو وقفت على جانب طريق أشير نحو وجهتي لسيارات عابرة.
ذات أصيل وأنا أطل من نافذة مطلة على طريق عام، وفجأة ومضت بمخيلتي ذكرى ذلك اليوم المعهود الذي حفرت تفاصيله في تلافيف ذاكرتي، أبقيته من خصوصياتي لم أفصح عنه لأي أحد ، كنت في بداية مشواري كمعلمة عينت في مدرسة بمدشر ناء عن المدينة، وحلت مناسبة عيد، عزمت قضاءه بين أسرتي، حزمت حقيبتي، وقطعت مسافة طويلة سيرا على الأقدام لأصل لمفترق الطرق والشمس شارفت على المغيب، وقفت بمحاذاة الطريق أنتظر مرور سيارة في اتجاه وجهتي، تبرمت من الوقوف وأنا أحظى بنحس لعين، سيارات قليلة تسير صوب الطريق الذي أرومه وكلها تجاهلتني، وأنا أرتعش بردا لأن الجو كان خريفيا، تملكني خوف ممزوج بأسى حين فترت حركة مرور السيارات في كل الاتجاهات والليل بدأ يرخي سدوله على المكان، شعرت بإحباط كبير وازدادت مخاوفي، تعبت عيناي من مراقبة الطريق، تخثر الدم في عروقي من الانتظار، تورّمت قدماي من الوقوف، كاد أن يلفني اليأس، وأخيرا رمقت سيارة قادمة من بعيد لوحت لها بيدي، توقفت على بعد خطوات مني، حملت حقيبتي واتجهت نحوها مسرعة، ودون وعي مني قفزت بداخلها كأنها طوق النجاة، وارتميت على المقعد بجانب السائق، ألتقط أنفاسي المتقطعة، ومن شدة ارتباكي وحيرتي لم أنبس ببنت شفة، السائق يداه على مقود السيارة وعيناه منصبتان على الطريق، لم ينظر إلي حتى، أو وجه السؤال عن وجهتي، أتذكر جيدا ردود فعله، بعد مرور وقت على مكوثي واجمة أرمقه بطرفي عيني، وعلى ضوء لوحة المفاتيح أدركت قسمات وجهه أنه في العقد الخامس من عمره، وفي خضم ذلك الصمت المطبق الذي خيم مقصورة السيارة إلا من أزيز المحرك، فكرت بداخلي أنا التي تربيت وسط بيت محافظ، حتى في علاقتي الشخصية لم تكن لي صديقة مقربة كانت وسيلتي للاسترخاء بالبيت مشاهدة التلفاز أو المطالعة كنت وحيدة ألفت مخالطة الحريم في منآى عن الجنس الخشن، تلقنت من قريباتي منذ صغري : يابنت لا تلعبي مع الذكور، أنت فتاة ابتعدي عن الفتيان، ومخافة أن أوصم بالعار ودرءا للفضيحة جلست منكسة الرأس متفادية أن تلتقي أعيننا، متربصة لأي نأمة أو تلميح …
طوال الطريق لم ينطق ولو بكلمة واحدة، مما أشعرني بحرج شديد، بين فينة وأخرى كنت أتظاهر بالنظر عبر النافذة رغم عتمة الليل، شيئا فشيئا تسرب التوتر مني، غمرني أمان كبير، لفني إرتياح عميق، بدا لي ذلك الغريب كإنسان عرفته منذ سنوات عديدة، فكرت أن أبادره بالكلام لكسر الصمت، وإشاعة بعض الإلفة حاولت أن أتطرق لموضوع ما، ضاعت كل الأفكار من جعبتي، وكأنه قرأ ما يجول بخاطري، ليبادرني بالقول: آنستي لقد عاينت تخوفك من مظاهر القلق التي ترجمتها حركاتك… أجبت : لم يسبق لي أن ركبت سيارة غريب …
استطرد قائلا: لا تخافي مما هو غير مقدر، لكن عليك توخي الحذر أحيانا…
وسرد حادثة وقوعه في فخ امرأة تمتهن إبتزاز السائقين بطريقة (*أوطو ستوب)ولكن بدهاء وفطنة أحد الدركيين تم إفلاته.
توالت أحاديثنا لم أشعر بمرور الوقت ولا بطول الطريق إلى أن وصلت وجهتي.