
تنفتح قصص ” طاقية السرد ” ، للشاعرة والقاصة المغربية مريم لحلو ،على آفاق معرفية متعددة تتوزع بين ما هو إبداعي ، وأسطوري ، واجتماعي … في صدورها عن رؤى موسومة بالسعة ، والتشعب ، والعمق مما يُصَعِّب مأمورية الإحاطة بجوانبها ، والغوص في سرادب مكوناتها ، واستجلاء معانيها لما تتضمنه من نصوص حبلى ب ” تيمات ” قوامها عناصر فنية وجمالية ذات أبعاد رمزية ودلالية تعكس مقدرات الكاتبة الفائقة على الخلق والإبداع . حيث تتقاطع وتتعالق أسماء أعلام من مختلف المجالات : فكرية كحسين مروة ، والجابري ، وجلال العظم ، وأدبية شعرية كنزار قباني ، وطربية مثل عبد الحليم ، وميادة ، ونجاة الصغيرة ، وبرناردين دي سان بيير في إشارة لروايته ” بول وفرجيني ” ، وأزميرالدا الفرنسية الجميلة التي سرقت من طرف الغجر واستبدلت بكوازيمودو القبيح : ” كأنها أزميرالدا الغجرية … ” ص 15، وفينوس الإلهة الرومانية وما ترمز له من حب وجمال : ” ويحب كذلك مواصلة الحديث مع فينوس وقد خرجت للتو من قصيدة حداثية . ” ص11، وتراثية ، وعقدية بطابع روحي غيبي مصحوب بأجواء وطقوس تمتح من أعماق حسية وجدانية ، تحرك المشاعر، ترجها ، وتهز ألياف الفؤاد بإيقاعاتها المؤثرة ،وما تُوَلِّده من إحساس تتجاذبه الرغبة الجامحة ، والرهبة المريبة .
وسنحاول في هذه المقاربة التمثيل لبعض عناصرها وموضوعاتها . ففي الجانب الاجتماعي صورت القاصة في قصة ” سرقات غريبة ” معاناة الأجراء من ذوي الدخل المحدود في تدبير تكاليف عيشهم براتب هزيل ينتظرون استخلاصه عند نهاية كل شهر : ” بعد تحول العالم إلى مخلوقات كئيببة تتنظر آخر الشهر فقط من أجل استخلاص رواتبها ….” ص 49، فضلا عن الالتزامات الأسرية التي تحرم الزوجة من إشباع بعض رغباتها الثقافية كما ورد في قصة ” صينية أو يابانية ” : ” أيام كنت أجد وقتا للمطالعة ؛ قبل الزواج والأولاد ، والمتاعب الكثيرة … ” ص 69، والواقع المزري الذي تعيشه مدن الهامش الصغرى من غياب لمرافق من قبيل الجامعات والمعاهد ، مما يحرم ساكنتها من الطلبة من متابعة دراستهم وتكوينهم في شعبهم المفضلة : ” أتذكر كيف حرمت من تحقيق حلمي في الالتحاق بالمعهد العالي للصحافة فقط لأنه لا يوجد بمدينتي الصغيرة .. ” ص 101، ويحضر الدين في ثنايا قصص المجموعة باستعمالات مختلفة سواء على مستوى العنوان كما في قصة ” مدهامتان ” المستوحى من سورة ” الرحمن ” القرآنية ، وفي عبارات مثل : ” أتأمل الجمال وأسْبحل… ” ص16 ، أي تقول : سبحان الله . وأيضا في : ” مصراعان بضان شهيان يقولان “هيت لك “. ” ص 32، بمعنى أَقْبِلْ وتعال من سورة ” يوسف ” في القرآن الكريم ، وأيضا : ” يخرج منها ممرضون غلاظ شداد ” المستقاة من سورة ” التحريم ” : عليها ملائكة غلاظ شداد ” باستبدال الملائكة بالممرضين . كما لابد من الإشارة إلى ميزة التقاطع والتعالق التي تطبع موضوعات قصص المجموعة في العديد من السياقات . بحيث يتواشج المحلي المغربي بالقاري الإفريقي كما في قصة ” بامبارا ْو هذا حالي ” فيندغم الرقص الإفريقي داخل إهاب شعائر وحالات يتخلص فيها الجسد من طوق المادة ليرقى إلى مقامات روحية باذخة : ” فلتفحني شمس إفريقيا في عز الليل وأرى “ولاد بامبارا” متحلقين حول نارهم المقدسة بلباسهم الفاقع الألوان وأجسادهم النصف عارية يرقصون بجدية من يريد تخليص جسده وروحه من أعبائهما وكأنهم ما زالوا ، بعد كل هذه العقود ، يعانون من آلام الاغتراب والعبودية . ص85، بالرقص ” لكناوي ” المغربي ، وإن ضمنيا وتلميحيا : ” ويدور معه رأسي الذي امتلأ عن آخره بجلجلة ” القراقب ” وقرع الطبول … ” ص84، مع ذكر الأدوات التي تستعملها فرقة ” كناوى ” في احتفالاتها ، ورقصاتها من طبول ، وقراقب ، وأيضا الهجهوج : ” يهدهدني صوت الهجهوج … ” ص85، هذا التقاطع الاحتفالي الذي ما يفتأ يتأسطر بتقديم قرابين من نوع محدد كذبح جدي أسود : ” الجدي الأسود .. ذبح في الفراغ .. ” ص 85،
وتسخير وتشكيل من ” المايسترو ” لكناوي ” لَمْعلم ، وتوجيهات “لَمْقدمة ” الحازمة : ” والصوت الجهوري ل ” لَمْعلم” وتعليمات ” لَمْقدمة ” الصارمة التي تقوده بفضل مراسها ، وخبرتها إلى عالم سحري تسكنه أرواح خفية لها قدرة عجيبة على تحرير الروح وشفاء الجسد … ” ص 85، فتتشكل ليلة ” كناوية ” مغربية على إيقاع بأدوات من “قراقب ” ، و” وطبول ” ، ” و” هجهوج ” ، و” سنتير ” لتتقاطع ورقصات إفريقية بطقوس خاصة . فهذه الأجواء الروحانية بطقوسها الاحتفالية ولجتها الطفلة ياسمينة ، وانغمرت في معمعتها منبهرة ، منفعلة ، متفاعلة مما حذا بجدتها إلى تحذيرها ومنعها عن الانخراط في مثل هذه الاحتفالات محذرة وموبخة : ” ـ ماذا تفعلين وسط أولاد وبنات بامبارا ؟ أنت لست منهم .. أنت ياسمينة … أي جنون يقودك إلى هذه الجذور الموغلة في الصحراء ؟ ” ص 85، أسئلة ممهورة بفهم عميق لهذه الطقوس الاحتفالية من جدة خبرت الحياة بما راكمته من تجارب أدرجته في سياق تحذير لحفيدتها ياسمينة مما يفتح أفقا لإواليات تحفظ واحتراز يُسَيِّج متابعة، الأطفال بالخصوص ، لهذا النوع من الاحتفالات ، والانخراط بالتالي في أجوائها وطقوسها. تقاطع تمتد خيوطه وتتواشج بين ما هو ديني واحتفالي بطقوس وشعائر خاصة في استحضار لعناصر غيبية تجترح الخوارق ، وتخوض في عوالم الخفي والمجهول . وأمام صعوبة مقاربة ” تيمات ” نصوص الأضمومة ،وما يطبعها من تشعب وامتدادات نعرج على موضوعات أخرى مثل النزعة العجائبية في ارتباطها بوصف غريب طال تقلص حجم القاص : ” وهكذا كل يوم أنحني أكثر فأكثر حتى صار بين فمي وبين الأرض سنتمترا واحدا …” ص 17، وحدث اختفاء الحروف : ” في ظرف كل الحروف ستختفي وستتحول الكتب إلى أوراق بيضاء . ” ص18، وستذهب ، أي الحروف ، في نزهة إلى الغابة أو الشاطئ لتبديد ثقل الإحساس بالملل ، والتخلص منه : ” لعل الحروف ملت فذهبت في نزهة إلى الغابة أو شاطئ البحر !!” ص 19، وما طرأ على وجه القاصة من تحول غريب على مستوى طول أنيابها عجزت معه عن القدرة على إغلاق فمها مما نَمَّا لديها شعورا بالفزع من فقدان وجهها : ” طالت نيوبي بدرجة فظيعة لا أستطيع معها حتى قفل فمي مما يجعلني أحس أنني دون وجه … ” ص24 ، وما يفتأ هذا الطابع العجائبي يتقاطع مع انزياحات تعبيرية كما في قصة ” بلاك ” التي تبحث فيها الساردة عن نفسها : ” ولحد الساعة لم أجدني … لي رجاء وحيد .. من وجدني فليخبر أمي .. أمي فقط .. لترتاح في نومتها الأبدية … ” ص 90، بحيث تتحدث عمن يعثر عليها ويخلصها ووالدتها من ضياع مؤرق ومُضْن بإخبار والدتها الميتة بذلك! ويمكن اعتبار موضوع التحول ” تيمة ” أغنت النسيج السردي للمجموعة كما نقرأ في قصة ” سأشرح لك كيف يقع الأم ! ” : ” ويصير جنينا عملاقا في شرنقة عملاقة .. ” ص87، وهو تحول مفعم بطابع عجائبي : ” حيث يصير الفراغ غرفة للنوم و أخرى لطفل ، لم أنجبه بعد … ” ص 89، وهو تحول مُشَرَّع على آفاق تمعن في الغرابة ، والنأي عن الشائع والمألوف ، وتحول مقود السيارة إلى مقود دراجة : ” تجد مقود السيارة قد صار مقود دراجتك القديمة … ” ص98، وشاب إلى رضيع بسبب أخطاء مرحلية : ” مع توالي الأخطاء الشبابية بسرعة قياسية صار رضيعا … ” ص 111، ويتقاطع الاجتماعي بالنقدي كما في نص ” السّلم ” : ” يا أبي منزلنا هذا مثل بلادنا لن ينفع معها إصلاح أو ترميم يجب أن تهدم من الأساس ويعاد بناؤها . ” ص 107، في الدعوة لتغيير جذري يستدعي اجتثات جذور الفساد ، و قطع دابر مصادره ، وتجفيف منابعه .
وإلى جانب ” التيمات ” السابقة الموسومة بالتقاطع والتعالق تبرز مواضيع مثل التلاحم كما ورد في قصة ” واثق الخطوة ” : ” يتعانق ظلانا … وتمتزج بي ونمضي .. ” ص 42، فيتجسد التلاحم ، في أرقى صوره ، من عناق وامتزاج ، ويسمو هذا التحول إلى مراتب الاتحاد والفناء : ” حاولت احتواء جسدك والفناء فيها … ” ص 73، ويلاحظ أيضا تغلغل السؤال داخل ثنايا نصوص المجموعة ، وما يجسده ذلك من دوافع قلق وجودي أنطولوجي يستبد بذهن القاص ، ويسري في ألياف كيانه ووجدانه : ” لا تكف الأسئلة عن التنكيل بذهنك المنفلت من الصحو . ” ص 63، مما يعكر صفاء ذهنه ، ويربك سكينة دواخله .
وعلى مستوى اللغة يحضر ثابت التقاطع من خلال سياق تعبيري أسلوبي يتأرجح بين لغة تنضح شعرا : ” تحلقين وسط أفق أبيض رحب بأجنحة شفيفة … ” ص 61، وتعبير دارجي في صيغة سؤال حينا ك ” آش حب لخاطر ؟ ” ص 11 ، أو على شكل حِكَم مأثورة أحيانا مثل : ” كل منقوص منحوس ” ص 76، أو : ” الشوف ما يبرد الجوف ” ص 36، أو في إشارة إلى فئة الانتهازيين : ” كروش الحرام ” ص41 . ويحضر كذلك النَّفَس الشعري ، بشكل بارز في قصص الأضمومة مما يعكس المَلَكة الشعرية التي تمتلكها القاصة مما أضفى على المدونة السردية عمقا في الرؤية ، وجمالية في التعبير تخللتها اختراقات بلاغية من استعارة : ” عندما تمر غيوم الكآبة على وجه “غولي ” الحبيب … ” ص 15، حيث تصبح للغيوم كآبة ، وللحلكة صدر يُتَّكأ عليه : ” متكئون على صدر حكمتهم المريح .. ” ص 44، ولليلة ، كزمن ، تلابيب : ” كانت تجر تلابيب تلك الليلة … ” ص62، وجناس منتظم في إيقاع داخلي : ” فتهفهفت رياح الصَّبا والصِّبا .. ” ص35، إيقاع تشكل من دائرة حروف هي : التاء ، والهاء ، والفاء التي توالت ،وتكررت مرتيْن ، فهذا النَّفَس الشعري المتماهي مع الحِس الإبداعي للقاصة لم يلغ اعتماد عناصر السرد الأساسية من وصف ، وحوار ، ومونولوغ ، واسترجاع ، وأحداث ، وشخوص في بناء وتشكيل قصص المجموعة . وفي إطار ما انتهجته القاصة من رؤية تروم التجديد عمدت إلى استحضار القارئ في شكل انزياح خلخل نمطية القص ، وثوابته المعروفة والمتبعة ويتمثل ذلك في نص ” طاقية السرد ” حيث تقول : ” وأعرف أن قارئ اليوم يرفض قذائف الاستطراد . ” ص59، في إثارة لمتلقّ نوعي يبحث عن الجِدّة بدل الابتذال من موقع قارئ حصيف يمتلك عدة معرفية ، ورؤية جمالية . ولا يفوت القاصة فرصة الحديث عن عناصر القص الموجز ، وذكر بعض عناصره الخاصة كالقفلة : ” متأكدة أن القفلة لا يمكن أن تأتي بهذه السرعة مثل قصة قصيرة جدا خديجة فاقدة للروح . ” ص62، وما يعكسه ذلك من تمثل لأساليب القص وعناصره ساهم في خلق نصوص أكثرا عمقا ، وجمالية في سياق التأسيس لنمط قصصي مغاير ومختلف باستعمالات وتعابير تتغيا خلق أشكال سردية جديدة ، حيث تقول في نص ” أقل من الوزن الطبيعي .. ” : ” -لقد نجت من موت أدبي محقق … يبدو نصا جميلا رغم أن وزنه أقل من الوزن الطبيعي المتعارف عليه .. ” ص 63، وما نلحظه من مقام تماهٍ بين مولود بشري وآخر قصصي يؤلف بينهما الاختلاف . و تتمظهر تجليات التجديد كذلك من خلال العنوان الذي يصاغ على شكل سؤال في قصة : ” هل تريد أن تسخر منك الملائكة ؟ ” ص 56، وهو نفس السؤال الذي تنتهي به القصة التي تظل مفتوحة على مختلف التوقعات والتأويلات : ” تستقر جملتي الأخيرة ( والمختزلة في سؤال : هل تريد أن تسخرنا منا الملائكة؟) ” ص56 ،في تزامن مع حضور سيارة الإسعاف : ” تستقر في أذنيه ( أي الجملة ) مع الصوت المرعب لصافرة سيارة الإسعاف … ” ص56 .
ف “طاقية السرد ” منجز سردي مختلف من حيث التركيب والتشكيل القصصي ، والأبعاد الدلالية والجمالية تتقاطع موضوعاته و عناصره وتتعالق من خلال رؤية إبداعية تنزع نحو التجديد والتغيير .
ــــــ
طاقية السرد (قــصص ) لمريم لحلو.ـ مطبعة نجمة الشرقـ بركان/ 2019 .