
يعد الشعر من وسائل التعبير الفنية التي يصوغ الشعراء من خلالها تجاربهم الذاتية ورؤيتهم العميقة للعالم، والتي تبرز أهم الموضوعات التي تشغل تصورهم للحياة بما تمور به من فرح ووجع وحنين، وما تتعرض له الذات الشاعرة من اغتراب نفسي في الزمان والمكان. كما ترتبط التجارب الشعرية (القديمة والحديثة) بالأمكنة، إذ أن وجدان الشاعر تحركه عاطفة الانتماء والارتباط العميق بالمكان في بعده الجمالي والدلالي، فيرتاد أفاقا إبداعية جديدة تساير مستجدات العالم، وتنحو إلى التجديد والتطوير على مستوى المضمون والشكل، ولهذا فإن التجربة الشعرية الحديثة للشاعر عبد اللطيف ديدوش في ديوانه «غرافيتي الجدار الأزرق»1، تتوقد جذوتها، وتتقاطع امتداداتها مع تفاعلات الشعور الإنساني، حيث تربط بين الذات والمكان في علاقة يحكمها قلق وجودي يتبدى في موضوعات تنصهر في نصوص شعرية بلغة رمزية دالة، لها وقع في نفس الملتقي بما تحدثه ديناميكية التفاعل بين القارئ والنص. ومن هذا المنطلق تتوسل هذه القراءة بالمقاربة الموضوعاتية لتحديد رؤية الشاعر في ديوان «غرافيتي الجدار الأزرق»، من خلال التمظهرات الواعية وغير الواعية للذات في ارتباطها بالمكان، ومستوى حسها الانتمائي، بين التوتر والثبات، حيث تبحث مقاربتنا في التيمات والدلالات المولدة لأفكار النصوص، قصد الوصول إلى الفكرة المهيمنة على قصائد الديوان.
1.الارتباط بالمكان/موكادور
يعد المكان حقيقة مُعاشة، يدخل في علاقة تأثير وتأثر مع الإنسان، وانفعال وتفاعل، لأنه امتداد لوجوده، يحرص على تأثيثه والعناية به، وربطه بالإبداع الأدبي -عامة-حيث شكل منه أحد عناصر تكوين بنيته، لخصوصيته الهامة ودوره في تأثيث عوالم النص الأدبي وخلق بنيته الفنية والجمالية. كما أن له أهمية بالغة في الشعر العربي قديمه وحديثه، حيث تجلى كممارسة ونشاط إنساني يرتبط وجدانيا وعاطفيا بانفعالات الذات الشاعرة، في إطار علاقة تشف عن روح شفافة وعاطفة صادقة.
ونلاحظ مبدئيا أن تجربة ديوان «غرافيتي الجدار الأزرق» امتدت في الزمان وانحصرت في المكان؛ إنها كتبت ما بين (2012 و2022)،2 بما يعني أن عمر تجربة هذا الديوان عشر سنوات، ومكان إنتاجها واحد وهو موكادور/الصويرة. إنها مرحلة تعدد فيها الزمن وتفرد فيها المكان، لأن وحدة المكان (هنا) وهيمنتها، لها ارتباط قوي بذات الشاعر، تجعل للمكان مكانة في وجدانه، أما الزمن فهو انتقالي ومنفلت لا يملك الشاعر توقيفه ولا التحكم في سيولته، ولا السيطرة عليه، إنه حسب رؤيته، زمن قاتل صفته الإفناء، ولهذا يقول:
«الزمن قناص ماهر
ينصب شباكه ليل نهار
يحشو بنادقه برصاص الوقت
يفخخ المسارات بالتيه
بفنون الموت»3.
إن كل ظرف تاريخي له خصوصية تلتصق بالتجربة الشعرية، وتكتسب من العالم حضورها في الكلمات، وتستمد شرعيتها من أحداث العالم وما يحوط عالم الشاعر من تحولات وما يطرأ من قضايا سياسية، وما يُستجد على المجتمع والعالم من الظواهر وأسباب الموت (فيروس كوفيد 19، ولقاحه “أسترازينيكا”- فاجعة التدافع بإقليم الصويرة (2017) – حروب..). وقد يكون المكان محصورا ومحددا غير أنه منفتح على تحولات العالم عبر الزمن المتحول والمتغير، أو الزمن السائل (بمفهوم زيجمونت باومان). وإن تعدد الزمن في شعر ديدوش وثبات المكان ووحدته، يدل على تشبث الشاعر بهويته وانتمائه، ومن تجليات هذا الثبات، أن الشاعر يطلق على “موكادور” الضاربة جذورها في عمق التاريخ4، اسم “تانيت”5 رمز الأمومة والخصب والنماء والحياة في الميثولوجيا لشمال أفريقيا6:
«أريد الإياب
إلى رحم
تا
ني
تْ..»7
كأنه بذلك يؤكد أن المكان/موكادور مازال معطاء، تتوق الروح إلى العودة إلى رحمه، ومازال يمثل للشاعر وجهته المقدسة المفعمة بالحياة، وبوصلة لكل الأمكنة رغم عوامل التحول الزمني؛ يقول الشاعر مخاطبا “تانيت”:
«لا تقولي خذلتني السماء
وأدتني تمائم الرعاة
وطوحت بي خيول الأزمنة
أنت بوصلة الأمكنة»8.
ومن هذا المنطلق يمكن أن نرى أن المكان يشكل حضورا ثابتا في شعر ديدوش، هو مركز الرؤية الشعرية في القصائد، إذ المكان الذي يستهوي الشاعر ويشيئه هو “موكادور” التي تسكن وجدانه:
«العطر الذي يفوح منها عرقي
القلب الذي تنبض به نبضي
الحب الذي ينضح في زحامها براءتي
هكذا أتشيأ في حضرة (تانيت)9.
إن هذا الترابط القوي بين ذات الشاعر والمكان/موكادور بلغت في شعر ديدوش مبلغ الوجع: «موكادور مُدية في الشرايين»10، فإن كان تارة يحنو عليها ويغازلها كامرأة غجرية: «عازفة غجرية على أوتار الرياح»11، فتارة أخرى يقسو عليها، ويصفها بالمدينة الفاسدة -نقيض المدينة الفاضلة- في قصيدة “ديستوبيا”، يخاطبها بقسوة مُرة:
«أيتها المدينة الندية كالسديم..
المالحة كالبحر
القاسية كالزمن اللئيم..
الناكرة للجميل»12
إن حب الشاعر لموكادور لا يمنعه من كشف مساوئها بما افتعلته المَدنيةُ الحديثة ويدُ البشر في حاضرها، إنه يقبل الجميل ويرفض القبيح. ولقد تميزت نظرته بالتخوف من مستقبل مدينته «ومن تحطم الذات وسط الحضارة المفتعلة»13، ولهذا تكرر في قصيدة “ديستوبيا” لفظة “اعفني”، هذا التكرار الذي يسبق الصور الموجعة أو المستقبحة في تمثلات الشاعر:
«اعفني من لمح طفل ينبش القمامة
اعفني من دوس شريد على الطوار»14
«اعفني من شبق القردة…
اعفني من حصتي من التفاهة»15
وقد يلاحظ القارئ أن الشاعر عندما يغازل مدينته، أو يستعيد ارتباطه الحميمي بها، يناديها أو يذكرها بـ”موكادور”، أما حين يعاتبها أو يقسو عليها، فإنه يناديها أو يصفها بـ”المدينة”، كأن الشاعر يختلف لديه المكان بين الماضي/موكادور (الأصل) الذي يرضى عنه، والحاضر(المدينة) الذي يتخوف عليه أو يغضب منه، وهو بذلك حريص على أن يُبرز التحول الطارئ على مستوى المكان، فحين يقول مثلا:
«لفظتني خارج الأحضان
أو قايضتني بالأشباه… والغرباء…
كلما أخذَت زينتها في محفل
اقتلعت أشفارَ (الأركان)
واستنبتت أهداب (الأروكاريا..)…»16.
لا بد للقارئ أن يركز على دواعي استدعاء الشاعر للشجرتين (الأركان – الأروكاريا)، فالأولى شجرة ذات أصل محلي، والثانية غير ذلك، أي إنه نوع من الاستبدال، استبدال المستورد بالأصل، وهي إشارة إلى أن مدينته فقدت مظاهر الأصالة، ومن هنا كان إحساس الشاعر بالغربة (قايضتني بالأشباه.. والغرباء..)، وهي حقيقة تواجه القارئ في علاقة الشاعر بالمدينة.
إن موكادور تحضر في شعر ديدوش تارة باسمها الحقيقي، بحمولة تاريخية عريقة، وتارة باسم مستعار “تانيت” كناية عن كونها المدينة الأم، معبودته وعشيقته الأطلسية، وتارة أخرى إشارة إلى هويتها المورية التي منحها لها التاريخ، تلك الهوية التي تسري في دماء الشاعر وتشعره بأنه معني بالتصريح بالانتماء إلى عشيقته الأطلسية.
2. تيمة الانتماء
يعد الانتماء بالنسبة للإنسان حقيقة وجودية، فهو «علاقة هوية ومصير بين الفرد البشري وجماعة محددة وما تتصل به من أرض أو حضارة أو غير ذلك»17، والإنسان يتماهى مع الوجود التاريخي والثقافي والاجتماعي المحيط، ويتأثر بعادات المجتمع الذي ولد فيه وينتسب إليه ويعيش وسطه، ويحقق كيانه من خلال عناصر مقومة، مادية ومعنوية (العقيدة والأرض واللغة والتاريخ) وهي التي تشكل هوية الشعوب ومنسوب تشبثها بالأصول. وقد لاحظنا أن الشاعر عبد اللطيف ديدوش وظف المكان/موكادور في شعره، ليحقق بذلك هويته بتحقيق هوية المكان، انطلاقا من العمق التاريخي للاسم، وقد أشار إلى ذلك في قوله:
«موكادور مُدية في الشرايين
وشم الزاي على الجبين»18.
هذه الهوية يجسدها (في ديوان الشاعر) حرف الزاي (ⵣ) من الحروف الأمازيغية (تيفيناغ)، حيث يُعد هذا رمزا دالا على الهوية الثقافية الأمازيغية أولا، ثم على كون هذا الحرف/الرمز من بين المظاهر الاجتماعية في العرف التقليدي، الذي يتجلى في وشمه على جبين النساء، وهو أيضا أحد الإشارات الدالة على أن موكادور كوشم على جبين المغرب، الساحلي، المطل على المحيط الأطلسي.
إن تيمة الانتماء تفرض هيمنتها على ديوان «غرافيتي الجدار الأزرق» إذ تحضر ضمنه مجموعة من العناصر والعبارات الشعرية والرموز الدالة على الهوية المغربية الأمازيغية والتي ساقها وعي الشاعر بدافع من حسه الانتمائي: (منقوشة بالتيفيناغ – جدوة أطلس – تنتشي بأهازيج مورية – يرقص أحواش على برزخ – شجرة أرغان – ايغود – اسلي وتسليت – شيفرة الهوية – شيفرة أمازيغية – زيت الأرغان – رقصة مورية – إيقاع أطلسي – الوطن – سليل طارق)، ولتأكيد هيمنة تيمة الانتماء، سيلاحظ القارئ أن الشاعر يعتمد تقنية التكرار اللفظي والفكري في عدة مواطن من الديوان. فتكرار (تيفيناغ – أرغان أو أركان – الأطلس – شيفرة) هو تكرار لفظي له حمولة فكرية دالة، تسيطر على البنية الشعرية وتحكم العلاقة بين الأنا/الشاعر وهويته من خلال ما يبثه من مشاعر الانتماء إلى هذه الأرض الضاربة جذورها في أعماق التاريخ، وما يستعيده من ذكريات وما يعتريه من حنين للماضي واعتزاز وفخر.
2.1 الذكرى والحنين
إن تجربة الشاعر عبد اللطيف ديدوش تنطلق في ديوان «غرافيتي الجدار الأزرق» من رؤية فكرية تملكت عاطفته، وبلغت من نفسه ووجدانه مبلغ السيطرة، فأنتجت حنينا قويا إلى الأصل:
«كم بكيت فراق أمي الشجرة
كم حزنت على وداع أبي الجبل
كم غضبت على فراق جدتي الحكاية»19.
إن هذا البوح الذي يجسد مفهوم التباعد، يستثمر لغة ذات أفعال تعبر عن مشاعر مؤلمة (بكيت – حزنت – غضبت)، وهي تستدعي في الآن نفسه، ما يوحي بكون الشاعر يحمل بداخله حنينا عميقا للمكان الأول الذي يسكن كيانه، وأحدث في عمقه الدهشة الأولى، لأن الولاء دائما يظل للمكان الذي ضم صرخة الولادة، ثم شغب الطفولة وتحمَّل فضاؤه شقاوة الصبا:
«سأَنْقب في ألبوم الصور
للسفر عبر الزمن
إلى طفل على صهوة قصب
تستهويه الغميضة
يتدحرج في زقاق وكرة القدم..»20.
الحنين حالة تثيرها الذكريات، بكل ما تنطوي عليه من قداسة في نفس الشاعر، هي حالة انجذاب نحو الماضي تتملك وجدان الشاعر وكيانه ويسكنه مكان الولادة والنشأة، حيث تلتحم حقيقة الشاعر وطبيعته بأثر من مكان نشأته ووجوده الأول:
«تلك الدار التي هجرتها
تسكنني بدون أقساط
تفتح كل صباح نوافذها لرئتي
وتبقي الباب مواربا للحنين
لعل حقيبة تؤوب من غربة العناوين…»21.
إن «المكان الذي يعيش فيه البشر مكان ثقافي، أي أن الإنسان يحول معطيات الواقع المحسوس وينظمها، لا من خلال توظيفها المادي لسد حاجاته المعيشية فقط، بل من خلال إعطائها دلالة وقيمة»22 لهذا نجد أن الدار التي هجرها الشاعر، هي جزء من تاريخه ومن كيانه وهويته، قريبة من روحه، وهو ما يجعله يشعر أنها تحوي بعضا منه ومن أثره:
«نسيت رأسي على وسادة الدوم في البيت القديم…
نسيت أقدامي في شعاب الحلم..
نسيت يدي اليمنى معلقة على سبورة سوداء..
نسيت قلبي حارسا خاصا لثلاث فراشات..
لم أتذكر ما تبقى من أبعاضي
إلا حين أدركني الوصول
إلى حيث كنت أنتظرني تحت شاهدة..»23.
نلاحظ هنا كيف كرَّر الشاعر فعل “نسيت” في سياق يستدعي التذكر، إذ النسيان هنا، يخص أعضاء الجسم التي لا يمكن أن يستغني عنها الشاعر، وكأن ذات الشاعر موزعة بين زمنين، بين الواقع/الحاضر، وما تختزنه الذاكرة من تجربة حياة وصور الماضي، فتبرز بشكل مفاجئ على سطح النفس، وهو ما يدل على ذاك الارتباط القوي بمسقط الرأس، ومنشأ الطفولة، وفضاء الدهشة الأولى الطازجة، بما يبعثه في وجدان الشاعر من أثر القيم الداعمة والمساندة لمشاعر الانتماء.
2.2 الفخر والاعتزاز
كل انتماء وولاء لوطن أو أرض يقوم على مبدأ الاعتزاز والافتخار والثبات على مبدأ التشبث بالأصل والاعتزاز به، لهذا فإن الغرض من حضور تيمة الفخر والاعتزاز في ديوان الشاعر مرده إلى إثارة الوعي بقيمة الانتماء وترسيخ الشعور به، لأن التحول عن هذه القيمة وارد مع ما يعرفه العالم من التغيرات، يقول: «العالم في أيد غير أمنة»24، وقد وردت في القصائد عبارات ومفردات توحي بالتوتر، للتعبير عن قبح الواقع وبشاعته، مع توظيف تقنية التكرار: (الغرقى – كفن أبيض – الحرب – الموت/الموتى/ستموت – قبر/مقبرة – قابيل – العدم – العدوى – عزلة..)، إن هذه العبارات التي توحي بالتغير والتوتر والاضطراب والاستلاب والهلاك، لها سياقاتها الدلالية التي تستدعي ضرورة ترسيخ الوعي بقيمة الانتماء، وذلك نابع من شعور الخوف والقلق من المستقبل، فتعلو نبرة الفخر والاعتزاز، في نسق لغوي يعيد قليلا من الطمأنينة للذات، لهذا فإن الشاعر تارة يفتخر ويعلن أنه سليل رجال ينتمون إلى قوة وصلابة الجبل، وإلى خصوبة شجرة الأركان العتيقة، وتارة يعلن أنه من أم سليلة الصبار، (أي الصمود والثبات)، «تسقي حيوات بثدييها (..) أنثى العناصر (..) جاءها المخاض إلى سفح الآلهة»25 و(سفح الآلهة) كناية عن جبال الأطلس، لما للاسم من ارتباط بالإله أطلس26 في الميثولوجيا الإغريقية، وتارة يجعل من الحكاية جدته «جدتي الحكاية»27، لأن الحكاية هي سر من أسرار وجود الأنا، وهي مخزون الذاكرة الجمعية، ومصدر من مصادر اكتساب القيم، وسبيل من سبل تشكيل رؤية للعالم.
والشاعر وهو يشكل انتسابه وانتماءه بصيغ لغوية فيها دلالة اعتزاز، فإنه يركز على عناصر الطبيعة التي تؤثث فضاء الأصل، ويكشف عن قيمتها ودورها التكويني، حيث يقول:
«رضعت من حلمتي الشيح والزعتر
في أحضان الأطلس»28.
وإن هذه العناصر الطبيعية (الصبار – جبل الأطلس – شجر أركان – الشيح – الزعتر) تعزز وجوده الطبيعي وتكوينه الذاتي، فهي عناصر توحي بالقوة والصبر والعطاء والليونة والنماء والخصوبة والشدة، والشاعر ينتشي بتمازجها وتماهيها مع ذاته: «أنتشي بخلطة العناصر»29. إن هذه العناصر الطبيعية تمازجت مع ذات الشاعر لينبث كغصن جذع له جذور عميقة ممسكة في الأرض، تأبى الاجتثاث، تكسبه هوية وانتماء: «منحدرا من شيفرة أمازيغية»30.
كما أن حضور شجرة الأركان مع تكرار اللفظ يجسد دلالتها الثقافية والاجتماعية والتاريخية، فهو يربط ولادته بهذه الشجرة في سياق الاعتزاز مع تشبيه الجدة بالزيتونة الباسقة:
«كانت القابلة شجرة (الأرغان)
وزيتونتنا الباسقة جدتي الحاضنة»31.
وبهذا تعكس تيمة الفخر والاعتزاز قوة انتماء الشاعر لأصله المغربي، بكل مكوناته التاريخية والثقافية، وأيضا الطبيعية (الجبل – الشجر – الأعشاب) التي تعود إلى أرض الخصب والنماء، وتوحي إلى صفات القوة والصلابة والصمود.
3.2 القلق والحزن
إن عمق الارتباط بالمكان، والتشبث بالأصل والهوية، من ضروريات الاستقرار والتمكن والاحتواء، وإن الحفاظ على هذا الارتباط حفاظ على الوجود الذاتي ومظاهر الأصالة من التلاشي (وجود يختزل تاريخ وثقافة وقيم). ولهذا تشع روح القلق والحزن في ديوان عبد اللطيف ديدوش، إذ أنها تستدعي مشاعر التوجع والألم والحسرة على ما آل إليه واقع الوطن الذي يشهد تحولات سلبية ليست في صالح المواطن «هو الممنوع من وطن مباح»32، وأن نداء كرامة الإنسان/المواطن عناوين مزيفة:
«وأن وجودك مجرد زائدة دودية
وأن ما يسمى الوطن مجرد وصلة إشهارية»33.
إن قلق الشاعر وحزنه على الوطن، نابع من شعوره بالانتماء إلى أرض الأجداد ومحبته لهذا الوطن الذي صيروه مجالا ممنوعا على المواطن، غير ممنوح له.
ولنلاحظ أن الشاعر لم يفتتح قصائده بالنصوص التي تكشف تيمة الفخر والاعتزال بالانتماء، بل نجد أن أولى القصائد تجسد مشهد الفرار من الوطن، عبر الهجرة السرية وقوارب الموت:
«الغرقى كوابيس اليقظة
الغرقى تلفظهم العتبات
تكنسهم الأرصفة
الغرقى يمتطون صهوة الأبيض
يسرجون موجة إلى الأندلس»34.
ثم بعد القصيدة الأولى، أتبعها الشاعر بقصيدة بعنوان «حافة الوجع» ليعبر عن قلقه ومشاعر الحزن والألم التي يحترق بها قلبه، تحسرا على واقع الإنسان في عالم متحول وقبيح، يقول: «لملم شظايا القلب»35. ثم عاد الشاعر في قصيدة «القبر الأبيض المتوسط» إلى مآسي ضحايا الهجرة السرية، والغرقى في بحر الموت، وهو يتساءل:
«بحر أم كفن؟؟؟
حلم أم طُعم؟؟؟
قوارب أم قبور؟؟؟»36
لقد قدم الشاعر القصائد التي يهيمن فيها القلق والحزن على قصائد الاعتزاز، (عود أبدي – حافة الوجع – ورد أكثر” محمود درويش”37) لكون قلقه وحزنه أوسع وأشمل، و« رسالة الشعر أساسا هي أن يكشف عن قيمة هذا العالم- عالم تجربة الإنسان الحي»38، فما الشعر إن لم يكن تُرجمانا لهموم الذات والإنسانية، وإن الذي يعزز هذا القول، تلك العتبة النصية التي ساقها الشاعر بعد الإهداء، والتي نسبها لروبرت فروست «تبدأ القصيدة من غصة في الحلق»، هذه المقولة التي توجه القارئ مبدئيا وتشير إلى هيمنة القلق والحزن على قصائد الديوان، لأن «التقاء الثقافة الواسعة بالتجربة الخصبة»39 جلعت رحلة الشاعر في القلق والحزن ذات طابع خاص، «إنها محاولة لمعاناة الواقع معاناة حضارية شاملة»40، فالحب والانتماء والاعتزاز والحزن وغيرها من الموضوعات قد صهرت كلها في أتون القلق على الهوية والوطن، حيث «إن تجربة الشاعر الحديث تجربة ممتازة بتفردها، وبخصوصيتها الفطرية والشعورية، وباحتكاكها بواقع الهزيمة الأسود، وبواقع الحضارة الإنسانية المتأزم، من هنا كان لا بد لها من أن تؤرق إبداع الشاعر»41، لأن الشاعر صاحب رؤية إنسانية يسكنه قلق وجودي، ويرى العالم متجها نحو المنحدر: «العالم مقذوف عالق في متاهة»42، ويرى الأشياء بدورها، تعبر عن كينونة الذات وغربتها:
«فنجان القهوة يفشي وجع الأنفاس
يبوح بغربة الكائن
يسر بأسرار الحال والمقام»43.
إن الشعر تعبير عن الألم، هو صرخة الذات في اغترابها في الواقع، الشعر يجعل من الأشياء مرايا تعكس وجع الذات، الشعر هو الحاضن إذا انعدم الحضن:
«كلما ضاق الحضن
آويت إلى القوافي..»44.
إن الشعر طيب لا يقبل إلا الطيبين، الذين «لا يهدرون الأيام
لا يلغون في الكلام
يقولون الكثير بابتسامة طفل
بلسان شاعر»45
ولهذا فمهما غلبت على ديوان عبد اللطيف ديدوش روح القلق والحزن، فإن ذلك نابع من مشاعره الطيبة وحسه العميق بالانتماء. وقد انطلق من اغترابه في الواقع، ليطرح المقارنة بين الماضي والحاضر (الماضي في شكله الجميل والحاضر الموسوم بالتيه والضياع)، والإنسان لا يقلق ويحزن إلا على من (وما) يحب، لهذا نجد قلقه وحزنه وتوتره نابع من رغبة دفينة إلى التشبث بالأصول، وترسيخ الوعي بقيم الانتماء، أمام الخطر المهدد والمؤثر في ظل التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تسيطر على الواقع.
خاتمة
إن مفهوم الإبداع الشعري مفهوم شمولي، تلتقي فيه هموم الذات بهموم الجماعة، ويؤسس رؤية لها موقف من الماضي والحاضر والمستقبل أيضا، ترتبط بوعي الجماعة. ولأن الشاعر ابن بيئته، فهو مدرك للتحدي الذي يهدد كيان الإنسان ووجوده القومي، لهذا لاحظنا كيف أن الشاعر عبد اللطيف ديدوش يرسخ الوعي بقيمة الانتماء في تجربته الشعرية «غرافيتي الجدار الأزرق» التي احتلت كتابة نصوصها حيزا زمنيا بلغ عشر سنوات، وقد أبرزنا ذلك في هذه المقاربة، من خلال التيمات المهيمنة والمتضافرة، التي أسست لرؤية الشاعر للعالم من خلال إبداع شعري، تجلى فيه مستوى ارتباط الشاعر وجدانيا وعاطفيا بالمكان بحمولته التاريخية والثقافية والفكرية والاجتماعية، ودلالته الرمزية والإيحائية، ودرجة حس الشاعر الانتمائي بين التوتر والثبات، حيث تؤثر فيه تحولات الواقع والعالم واضطرابه وما يتعارض مع قناعات الشاعر وتصوراته لقيم الانتماء، في سياق يتداخل فيه موقفه من الماضي وموقفة من الحاضر.
إن الشاعر في ديوان «غرافيتي الجدار الأزرق»، إلى جانب ما تناولناه في مقاربتنا الموضوعاتية لأهم التيمات المهيمنة على القصائد، يوظف الأسطورة برؤية فنية وثقافية ورمزية وبخصوصية مغربية تثري بناء النصوص، وينهل من مرجعيات ثقافية متعددة الأبعاد، ومن حقل الفنون التشكيلية العالمية، ومن المعارف الفلسفية والتاريخية، وكل هذا وذاك يستدعي قراءات متعددة لسبر أغوار هذه القصائد التي تثير أسئلتها لتحقق شرط الإبداعي، وهو متعة الاكتشاف ولذة التلقي.
الإحالات والهوامس
1.عبد اللطيف ديدوش، غرافيتي الجدار الأزرق، شعر، منشورات بيت الشعر في المغرب، بدعم وزارة الشباب والثقافة والتواصل – قطاع الثقافة، ط.1، 2023.
2.كما هو وارد في الملاحظة التي اعتمدناها كعتبة ومدخل للقراءة: «ملاحظة: نصوص هذا الديوان كتبت في موكادور ما بين 2012 و2022»، ص: 7.
3.غرافيتي الجدار الأزرق، ص: 71.
4.هناك أدلة أثرية تعود للقرطاجيين، أنظر كتاب «تاريخ إفريقيا العام، لجمال مختار، المجلد.2، حضارات إفريقيا القديمة، اليونسكو 1985، ص: 461».
5.تانيت (Tanit): الإلهة الأولى في قرطاج، عبدت إلى جانب بعل حمون، وكانت تسمى وجه بعل. تعتبر رمز الخصب والنماء وازدهار الحياة (عبد المنعم المحجوب، كتاب رحلة حنون، مؤسسة هنداوي، 2024، ص: 22). «ويعتقد أنها أمازيغية الأصل حسب كثير من الباحثين كما تنم عن ذلك صيغتها الصرفية» (محمد أسوس، كوكرا في الميثولوجيا الأمازيغية، المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، الرباط، 2008، ص: 16).
6.جمال مختار، تاريخ إفريقيا العام، المجلد.2، حضارات إفريقيا القديمة، اليونسكو 1985، ص: 465.
7.غرافيتي الجدار الأزرق ص: 111.
8.نفسه، ص: 21.
9.نفسه، ص: 135.
10.نفسه، ص: 121.
11.نفسه، ص: 119.
12.نفسه، ص: 44.
13.محمد دخيسي، مسيرة شاعر رحلة مع محمد علي الرباوي، برانت-عين، وجدة، 2012، ص: 11.
14.غرافيتي الجدار الأزرق، ص: 45.
15.نفسه، ص: 46.
16.نفسه، ص: 121.
17.معين زيادة وآخرون: الموسوعة الفلسفية العربية، معهد الانتماء العربي، ج.1، بيروت 1986م، ص: 120.
18.غرافيتي الجدار الأزرق، ص: 121.
19.نفسه، ص: 69.
20.نفسه، ص: 49.
21.نفسه، ص: 95.
22.سيزا قاسم وجماعة من الباحثين، جماليات المكان، عيون المقالات، دار قرطبة، باندونغ، الدار البيضاء، ص.2، 1988م، ص: 64.
23.غرافيتي الجدار الأزرق، ص: 91.
24.نفسه، ص: 89.
25.نفسه، ص: 65.
26.«أطلس شخص أسطوري كان يحمل السماء أو كان يحرس العمود أو الأعمدة التي تحمل السماء. هذا الأطلس الأسطوري أعطى اسمه للبحر الخارجي أطلانتي في زمن أسطوري كذلك. وكل هذا له علاقة بجبل قريب من المحيط كما يذكر كسيل (GSELL, GERODOTE, p.109)» كتاب أحاديث هيرودوت عن الليبيين (الأمازيغ)، ترجمة وتعليق د. مصطفى أعشي، منشورات المعهد الملكي، 2009، ص: 66.
27.غرافيتي الجدار الأزرق، ص: 69.
28.نفسه، ص: 66.
29.نفسه، ص: 68.
30.نفسه، ص: 62.
31.نفسه، ص: 66.
32.نفسه، ص: 26.
33.نفسه، ص: 54.
34.نفسه، ص: 9.
35.نفسه، ص: 12.
36.نفسه، ص: 24.
37.استحضر في هذه القصيدة محمود درويش لأن شعر هذا الأخير زاخر بموضوعة الموت والقلق، خاصة في جداريته.
38.عبد القادر الرباعي، الشعر والواقع الاجتماعي في النقد الحديث، مجلة أقلام، العدد الثامن، السنة 15، أيار/مايو 1980، ص: 49.
39.أحمد المعداوي، ظاهرة الشعر الحديث، شركة النسر والتوزيع المدارس، الدار البيضاء، ط.2، 2008، ص: 61
40.أحمد المعداوي، ظاهرة الشعر الحديث، ص: 61.
41.أحمد المعداوي، ظاهرة الشعر الحديث، ص: 61.
42.غرافيتي الجدار الأزرق، ص: 86.
43.نفسه، ص: 115.
44.نفسه، ص: 123.
45.نفسه، ص: 104.