إنها الدقيقة الثامنة والخمسون
من الساعة السابعة مساء
في اليوم الثامن والعشرون ، الأسبوع الأخير من شهر نونبر سنة 2014 … ، كأول البدايات وآخر النهايات عند مفترق الحياة ، ليلتها صرخت بعدها ابتلعت لساني وركضت عارية كغزالة شقوا صدرها لينتزعوا كبدها ، فأخطأ المشرط المكان فأحدثوا ثقبا في قلبها
ومنذ ذاك الوقت وقلبي ينزف ليلة في الشهر ….
بعد اكتمال القمر …
انت تعلم يا ألله لاذنب لي ، فأنا مثلهن لم أفعل شيئا .
غير أني ولدت أنثى …فأجبرت على القبول يومها نسيتُ وجهي معلقا على باب الحياة
يشتعل وينطفئ في محطات الخوف والإنتظار
وكأني أضع لافتة على ظهري كتب عليها
جمالُ المرأة مقبرة ولعنة تلاحقها ..
لم أعد أملك شيئا
حتى اسمي لم يتبق لي
من أحرفه إلا تلك التاء المربوطة الخائفة
مع أن اسمي ثورية ..!
وربما رصيدي سينفذ من الكتابة الآن
لعلي لا أستطيع أن أكتب شيئا بعد !
وأنا ضائعة مثل الكثير منكم
لا أعلم على ماذا سأستند…؟
يقول الطبيب : لا شيء ..
مجرد هلوسات ..
أخبره بكل التفاصيل
هو لايصدق …!
يعتقد بأني أتخيل
كل ما أحكيه
ثم يضحك ساخرا….
ويخبرني أني بخير
وها أنا أعيش
بلا خوف
بكل حب ..
أعانقَ اللاشيء
وأتدثرَ بالخواءِ من كل جانبٍ
وانتظر سكون الليل
ثم أتهاوى أمامَ ذاتي
حرة من كل شيءٍ
إلا من الألمِ
خارج الزمن ما عاد يعنيني
والصمت أطبق على شفتي
وأقول في نفسي
ياليتني ماكنتُ يوماً ههنا
وروحي التي تسكن جسدي
تحدثهم عني
أغرق وحيدة في عالمي
حرة من كل شيءٍ
إلا من الألم
إني أتحرر
من ظلي من نفسي
وأبواب الرحيل تشرع أمامي
أنظر إلى السماء
أحنّ إلى الأرض
وأتساءل لا مكان لي
أريد أن أولد من جديد
أعبر الجسر
وبيدي قلبي المتعب
بالحنين إلى أمي
أبحث عن مكانٍ
أمارس فيه
طقوس الغياب الطويل
وأسقط عنكم
أمحو ملامح وجهي من أيامكم
وعن عيونكم
وأخلعُ عني ثوبَ الحياةِ –
مقدمة: بين غلالة المعنى وجمر اللغة
حين تتأوه اللغة، وتختلط الأزمنة بالأوجاع، وينتفخ النص من كثرة ما فيه من صراخ مكتوم، نكون أمام نص ليس للقراءة فحسب، بل للافتراس التأويلي، وللتورط الوجداني.
“نصوص غير قابلة للنشر” ليست عنوانًا يعتذر عن نفسه، بل هو صفعة أولى للقارئ، يضعه في قلب الجرح دون مخدر.
إننا أمام كتابة تمشي على حد السكين، حيث لا شيء يُراد له أن يُقال إلا عبر خيانة القول، وتكسير كل القوالب الجمالية الرتيبة.
ثورية الكور لا تكتب لتُقرأ، بل لتصرخ، وتلك أعلى درجات الشعر. فالنص ليس مجرد بوح ذاتي، بل هو وثيقة جمالية عن أنوثة مستلبة، وذاكرة دامية، وتجربة تنوء بحمولة رمزية ومعرفية تستدعي كل ما في النقد من أدوات، لا لتأويلها فقط، بل لفهم ما تقوله اللغة في لحظات انهيارها الكامل.
أولاً: البنية الأسلوبية والجمالية
لغة الهشاشة والتمرد: تنطلق الكاتبة من لغة مبنية على المفارقة: “صرخت بعدها ابتلعت لساني”، ففي حين تنتظر الذات تحريرًا عبر الصراخ، تعود إلى القمع الذاتي بابتلاع الصوت. إنها هشاشة تحاكي هشاشة الأنثى في مجتمع أبوي، لكنها لا تخضع، بل تتمرد عبر التعرية والصدمة.
كثافة الصور البيانية: النص ملغم بالصور الشعرية المركبة، كقولها: “كغزالة شقوا صدرها لينتزعوا كبدها، فأخطأ المشرط المكان فأحدثوا ثقبا في قلبها”. الغزالة هنا ليست فقط استعارة للأنوثة، بل رمز لكائن بريء مذبوح على مذبح العرف الاجتماعي والطبي.
الجمل القصيرة، النفس الطويل: تعتمد الكور على جمل قصيرة ظاهريًا، لكنها تمتد دلاليًا بشكل لولبي، كما نلحظ في: “بعد اكتمال القمر…”. الفراغ بين النقاط أكثر بلاغة مما يُقال، لأنّه يفتح النص على احتمالات لا تنتهي.
ثانيًا: التحليل البلاغي والبياني
التشبيه والاستعارة:
“كغزالة شقوا صدرها”: تشبيه فجّ وعنيف يحول الجسد الأنثوي إلى ضحية سلخ رمزي.
“أضع لافتة على ظهري كتب عليها: جمال المرأة مقبرة”: استعارة فريدة تعبر عن الإدراك العميق لأنوثة لا تُكافأ إلا بالموت المجازي.
الكناية والدلالات الضمنية:
“لم يتبق لي من اسمي إلا التاء المربوطة الخائفة”: كناية عن استلاب الهوية الأنثوية بالكامل، ولم يتبق منها سوى علامة التأنيث النحوية، وهي بذاتها “خائفة”، أي لا تفيد القوة، بل الاستضعاف.
المفارقة:
“أعيش بلا خوف، بكل حب.. أعانق اللاشيء”: هي أعمق مفارقة وجودية، حيث نفي الحياة في لحظة إعلانها.
ثالثًا: البنية النفسية والرمزية – التحليل السيكولوجي
من منظور التحليل النفسي، نستطيع إسقاط نموذج لاكان على النص، حيث الذات الأنثوية تمر من مرحلة “المرآة” (الهوية والاسم والصورة)، إلى مرحلة التفتت النفسي، ثم إلى لاوعي مفكك. إنها امرأة تقول: “أنا ثورية”، لكنها في العمق فقدت الثاء والراء والواو والياء، وبقيت فقط التاء، كعلامة رمزية للنوع الاجتماعي، وليس للشخص.
يقول فرويد: “الكتابة هي شكل من أشكال العُصاب المُمسرح”، وهذا النص هو مسرح داخلي لجسد يعيش بين متلازمة القمع والرغبة في التحرر.
رابعًا: النقد الثقافي والنسوي
لا يمكن مقاربة هذا النص دون المرور عبر بوابة النقد النسوي. #فثورية الكور لا تكتب كأنثى فقط، بل كامرأة واعية بأن الأنوثة في مجتمعها مشروع ألم لا مشروع حياة. الكاتبة هنا تهاجم البنية الذكورية بشكل ضمني لكنها مدمرة. النص كله صيحة ضد منظومة اجتماعية جعلت الجمال لعنة، والأنوثة تهمة.
بعبارة جوديث بتلر: “الهوية الجندرية تُصنع اجتماعيا أكثر مما تُولد طبيعيًا”، وهذا ما تقوله ثورية الكور الكور ببلاغة الشعر: إنها لم تختر أن تكون أنثى، لكنها دُفعت ثمن ذلك بدمها وذاتها.
خامسًا: البنيوية والتفكيكية – نحو كشف التناقضات
من منظور جاك دريدا، فإن النص ليس وحدة مغلقة بل هو تشظٍّ دائم. نجد هذا بوضوح في تكرار الفعل المضارع والانكسار الفوري:
“أعيش” يقابلها: “أتهاوى”.
“أعانق” يقابلها: “الخواء”.
“أتحرر” يقابلها: “من نفسي”.
هذا التناوب البنيوي يحوّل النص إلى لولب لغوي لا يسمح بأي يقين. فكل معنى يتحقق ينقض ذاته لاحقًا.
سادسًا: التناص والاستشهاد بالذاكرة
النص يحفل بتناص داخلي مع مرجعيات وجودية ودينية وثقافية:
التناص مع قصة الخلق: حيث تقول: “أريد أن أولد من جديد”، ما يفتح الباب لسردية رمزية جديدة خارج جنة الألم.
التناص مع المقولة: “لا ذنب لي”، توظيف ذكي لإدانة مجتمعية باستخدام لغة البراءة الدينية.
سابعًا: بين التوثيق الشعري والشهادة الإنسانية
هذا النص ليس فقط خطابًا شعريًا، بل أقرب إلى شهادة ذاتية تصلح أن تُقرأ في محكمة قضايا العنف الرمزي ضد المرأة. إننا أمام كتابة شعرية تحمل قيمة توثيقية، لا بالوقائع، بل بالوجع. تمامًا كما قال رولان بارت: “النص الجيد هو الذي يجرح القارئ، لا الذي يرضيه”.
ختاما: الشعر كفعل حرية لا كفعل تجميل
لو أن أرنست فيشر عاد اليوم ليراجع مقولته: “الفن ضرورة لا ترف”، فسيجد في نص ثورية الكور دليله الحي. لأننا أمام نص لا يُنتَج للعرض، بل للانعتاق. إنه لا يطلب التصفيق، بل يُلقي بك في قاعة جراح.
في “نصوص غير قابلة للنشر”، النص يرفض أن يُنشر لأنه يخاف أن يُمس، أن يُفهم، أو أن يُستهلك كأي بضاعة. هو نص يعيش في الحافة، حيث الصمت أعلى من الضجيج، والوجع أبلغ من البلاغة.
وهكذا، يمكن القول إن ثورية الكور كتبت ما لا يُكتب، وقالت ما يُخاف من قوله، لتجعل من الشعر آخر حصون الذات حين تتداعى كل الجدران.
سؤال أخير للقارئ وللنقاد على حد سواء: هل يمكن للغة، مهما بلغت قوتها، أن تفي وجعًا لم يُمنح يومًا حق أن يُقال؟