
وأنت تقرأ ما كتبه الشاعر العراقي عبد الله عباس خضير تجد نفسك أمام لغة راقية، ومفردات انتقاها بإتقان، وصورٍ شعرية تحلق بك في فضاءات مبدعة. وقد يختلف كثيراً عن شعراء قصيدة العمود من خلال استخدامه لقاموس لغوي يتقبله القارئ بشكل كبير، فهو يبتعد عن اللغة التي تعودنا عليها في مثل تلك القصائد حين يلوي الشعراء عنق قصائدهم نحو قافية معينة، وهذا ما لم نلحظه في قصائد خضير العمودية أو حتى في الشعر الحر فالمفردة تأتي منسابة وبشكل طبيعي دون تكلّف أو ضغط. فهو يكتب بلغةٌ شعريةٌ مكثفة، تجمع بين البساطة والغموض والمتناقضات.
في قصيدته “وجع من جمال” العنوان نفسه يختزل مفارقة جوهرية: الجمال ليس مصدرَ بهجةٍ، بل جرحًا وجوديًا (وأنتِ على شفتيْ وَجَعٌ مِن جَمال). والجمال هنا مُرتبطٌ بالمُتعة العابرة التي تُذكِّر الإنسان بضعفه (نكهة الجسد الغضِّ في ومضات الخيال).
يُجسِّد الشاعر في هذه القصيدة “وجع من جمال” أزمة الإنسان بين الرغبة في الامتلاك وإدراك استحالته. عبر لغةٍ تشكيليةٍ تعتمد على الانزياحات الزمنية والرمزية، يخلق عالماً يُشبه الحلم، حيث الجمال جرحٌ مفتوحٌ، والزمن سيفٌ معلقٌ. القصيدة، بهذا، ليست مجرد حديثٍ عن عشقٍ فردي، بل عن إنسانيةٍ تبحث عن خلاصها في ظلِّ انكسارات الواقع. النص يبين العشق المستحيل فالمُحبوبة تبتعد رغم حضورها الرمزي (وتبتعدينَ أفتّشُ عنكِ ثيابَ القُرى)، مما يُعيدنا إلى شعراء العذرية (كجميل بثينة) الذين حوَّلوا العشق إلى ألمٍ مُقدَّس، و”ثياب القرى” صورة شعرية تعبّر عن مدى استفحال الألم المكبوت والبحث الدائم في أمكنة احتفظت بها مخيلة الشاعر، وهو يستخدم فيها- كما في كثير من قصائد كتابه الذي يحمل ذات العنوان- مفردات حسية كـ (نكهة الجسد الغض)، (لمسة العشق)، (شطِّها والدلال)، حيث تربط هذه المفردات ما بين الجسداني والروحاني، فيما لم تخلُ القصيدة من المفردات الوجودية كـ “المحال”، “لا يُنال”، “ذُلَّ السؤال”، وهي تُجسِّد لصراع الذات مع حدود الإمكان. ومن الاستعارات المبنية على حسّ مرهف توّاق للماضي نجد (وأنتِ على راحتيْ خبزُ أمّي) وهي استعارةٌ تُوحِّد بين الحبيبة والأم (الرمز الأبدي للحماية والحنين)، والخبز رمز للهوية العراقية الأصيلة، وهو في الثقافة العراقية ليس مجرد طعام، بل هو رمز الكرامة والعطاء فارتباط الحبيبة بـ “خبز الأم” يخلق ثنائيةً بين الحنين إلى الماضي (الأم/الوطن) والرغبة في الحاضر (الحبيبة/الغربة). و”غيم التردد” كاستعارةٌ للقلق الوجودي الذي يُغَطِّي يقين الذات. ولم يخبئ الشاعر قلقه الوجودي وهو يقول: (لم أكُ أنبأتُ عن مُشتهًى لا يُنال) ووفقاً للفيلسوف واللاهوتي والشاعر الدنماركي سورين كيركغور الذي يرى أن (الوجع ناتج عن إدراك الذات لفشلها في تحقيق الكمال)
ولابد من القول إن عبد الله عباس خضير هو شاعرٌ عراقي يُنتمى إلى جيلٍ عايش تحولات العراق الجذرية (من الحروب إلى الحصار والاحتلال)، مما يمنح قصيدته بُعدًا تراجيديًا يتجاوز الذاتي إلى الجمعي. وقصيدة “وجع من جمال” ليست مجرد حديث عن عشقٍ فردي، بل هي استعارةٌ لألم وجودي مرتبط بجمالٍ يُشبه العراق: أرضًا تختزن التاريخَ والجمالَ، لكنها تُولد الوجعَ بفعل تشظيها. هنا، تتحول المُحبوبة إلى رمزٍ للوطن/الذات/الأنثى المُمزقة بين الماضي والحاضر. فالجمال المُشار إليه في القصيدة ليس جسد الأنثى فحسب، بل جمال العراق الذي أصبح مصدرَ ألمٍ (وَجعٌ من جمال). فـالومضات والخيال تُحيل إلى ذاكرةٍ مُشرقةٍ للمدى الحضاري (بابل، سومر)، بينما الواقع يُجسِّد “المُحال”.
قصيدة (وجع من جمال) هي مرثية للذات والوطن معًا. عبر لغةٍ تخلط دمَ الجسد بتراب الأرض، يصوغ الشاعر سرديةً وجوديةً للعراقي الذي يحمل جمالًا تاريخيًا كجرحٍ نازف. القصيدة، بهذا، ليست نصًا شعريًا فحسب، بل هي وثيقةٌ أنثروبولوجيةٌ عن إنسانٍ يبحث عن معناه في ظلِّ انهيارات الزمن العراقي.
وكذا الحال في قصيدة (من أنت) حيث تُعتبر نموذجًا للشعر العربي الحديث الذي يدمج بين العمق الوجودي والصور الشعرية المبتكرة. وتطرح القصيدة أسئلةً وجوديةً حول الهوية، الزمن، والحب المفقود، من خلال لغةٍ غنية بالرمزية والانزياحات التي تُجسّد صراع الذات مع الغياب والبحث عن المعنى. في القصيدة يُحاور الشاعر كينونةً غامضة (فاتنةٌ تأتي ولا تأتي)، تعكس التناقض بين الحضور الرمزي والغياب المادي. هذا الانزياح يُثير تساؤلاتٍ حول طبيعة الوجود الإنساني (مَن تكونين؟ ومَن أنتِ؟). ويُصوَّر الزمن كقوةٍ فانية تُذكّر بالإخفاقات (عَبْرَ عصور الحب والموت)، (ما يبقى مع الوقت). استخدام كلمات مثل “سِنِيَّ النوى” و”محطاتها” يُشير إلى محاولات فاشلة لقياس الزمن أو إيقافه.
الحب في قصيدة (من أنت) ليس عاطفةً فحسب، بل بحثٌ مُضنٍ عن ذاتٍ مُتلاشية (أسرجتُ عمري كلَّه باحثًا)، (تمشي الأساطير على راحتي). اللوعة تتجسد في الانزياحات كـ (شظى خصلة) أو (طيف)، مما يُعزز فكرة الحب كذكرياتٍ هاربة.
القصيدة تقدّم رؤيةً فلسفيةً عميقةً عبر لغةٍ شعريةٍ مُكثفة. ببنائها الحرّ وصورها الجريئة، وتبقى نصًّا مفتوحًا على تأويلاتٍ متعددة، تُجسّد أزمة الإنسان المعاصر في بحثه عن معنىً في عالمٍ مليءٍ بالغياب والانزياحات.
أن قراءة واحدة لا تكفي لقصائد الشاعر العراقي العراقي عبد الله عباس خضيّر، قراءة تشعر من خلالها بلذة القراءة، ونحن اذ ولجنا الى تخوم قصيدتين فأننا نقدم نموذجاً لفعل الكتابة عند الشاعر وطريقته في انتقاء مفرداته المعبرة عن فلسفته في الحياة.