
في زمن تتكاثر فيه الأقلام وقلّ فيه أصحاب الأنفاس الطويلة، وفي وقت اختار فيه الكثيرون سلوك دروب ممهّدة، مستظلّين بظلال توجيهات المؤسّسات، مهتدين بمصابيح جوائزها، وفوانيس تكريماتها، اختار أديبنا المحتفى به محسن بن هنيّة السير في ثنايا الطرق الصعبة، والأنهج الوعرة، لبناء مجده الأدبي.
بالكلمة الخالصة والصبر الطويل شعّ نجمه، وبحروفه عبّد دربه، وبالكلمات نحت آماله وأحاسيسه، وبعباراته المتينة صاغ ذاكرة الأماكن ومطامح مجتمعاتها وآلامها.
صابر محسن بن هنيّة وجاهد، وسهر الليالي يكتب ولا ينتظر المديح. ويؤلّف فنّا كمن ينقّب عن الذهب في غبار المكتبات. لا تهمّه سرعة الإنجاز ولا زركشة اللغة وفخامتها بقدر ما يعنيه منها اللّمعان، فهو رغم كونه كاتبا عصاميا إلّا أنّه أكبر من قوالب المؤسّسات، وأوسع من مناهج الأطر الأكاديميّة.
اختار محسن بن هنيّة أن يترك عالم الأعمال ويسلّم مشعل الثروة لأبنائه ويتفرّغ لعالم الأدب ومكابدته.
لم يكن التحوّل الذي أقدم عليه محسن بن هنيّة مجرّد قرار عابر، بل كان فعلا وجوديا يشبه ولادة ثانية، فقد كان رجلَ أعمال ناجحا، يملك من أسباب الرّاحة والجاه ما يكفي ليخلُد إلى الظلّ، لكنّه وفي لحظة صدق نادرة مع الذات اختار الكتابة، اختار الثروة الحقيقيّة، فضّل أن يبتعد عن حسابات الأسواق وأرقام الأرباح، ويستبدلها بجمل متوهّجة، وحروف متّقدة، ودفاتر تتزاحم فيها الأسئلة والانفعالات، لا تدرّ مالا، ولكنّها تملأ الرّوح بهجة، وتمنح الحياة معنى وتصنع الخلود.
لم يكتب محسن بن هنيّة ليمرّ الوقت، بل كتب ليصنع أثرا يضاف لبنة في صرح الأدب والمدوّنة السرديّة بالتحديد. كتب لا بصفته هاويا عابرا، بل ككاتب متمرّس متجذّر في الأدب، إن لم أقل كأرشيف حيّ لذاكرة السرد العربي، يحمل على كتفيه سجلّات المنسيّين وأسماء أولئك الذين لم تسلّط عليهم الأضواء، خصّص لهم محسن بن هنيّة سنوات من عمره لتوثيق مسيرتهم في موسوعتين فريدتين حول روائي المغرب العربي وروائي الخليج العربي، جاعلا من التوثيق فعل وفاء.
محسن بن هنيّة هو المثال الحيّ على الشغف بالكتابة، تجربته تظهر لنا كيف يمكن للإيمان بالإبداع أن يغيّر مسار الحياة، ليس فقط لصاحبها، بل للعائلة بأسرها، وللمجتمع كلّه، فقد كان ملهما ومربّيا، هو السارد المتأمّل، والموثّق المدقّق في تفاصيل الواقع وتحوّلاته، أنتج قصصا وروايات، وبرز كأيقونة للتضحية والالتزام، أثمر خلفا صالحا مستقيما ومبدعا في عالم يندر فيه التفرّغ للإبداع. تجلّت ثمرة ذلك في أبنائه، حيث نشأت ابنته كوثر بن هنيّة في هذه البيئة المشبعة بقوّة الحكي، ودوره في نقل الواقع وتحفيز التغيير، لتصبح واحدة من أبرز المخرجات في العالم العربي، تظهر أعمالها السينمائيّة مثل “الرجل الذي باع ظهره”، و”على كفّ عفريت”، و”بنات ألفة” الذي ترشّح لجائزة الأوسكار تأثّرها العميق بالقصص التي نشأت عليها وبالقيم التي توشّح بها والدها نصرة للمهمّشين وميلا للنصوص المتروكة في الظلّ والزّوايا المنسيّة.
هذا النجاح يعكس الروح الإبداعيّة التي غرسها والدها فيها، ويبرز الرابط الوثيق بين فنّي الكتابة والسينما، حيث يجتمع السرد والتصوير لنقل القصص الإنسانيّة المؤثّرة.
إنّ ما فعله محسن بن هنيّة ليس ترفا، بل رسالة. رسالة تقول إنّ الإنسان لا يقاس بما يملك، بل بما يترك من أثر، وإنّ أجمل الثروات هي تلك التي تكتب بحبر القلب، وتقرأ بأعين الأجيال القادمة.
ولقد تتبّعت ردود أديبنا على الأسئلة الكثيرة التي طُرحت عليه من محاورين كثر، مبدعين وصحفيين، حول رؤيته للكتابة كوسيلة للهروب من الضغوط والتعبير عن الذات ومصادر الإلهام لأستخلص منها أبرز أفكاره في الكتابة كفعل وجودي وفلسفي، فالكتابة بالنسبة إليه حياة ومصالحة مع الذات والعالم ووسيلة لتحرير الإنسان وترميم النفس وعلاقتها مع الآخر. وفي خصوصيّة تجربته الروائيّة فهو لا يفضّل عملا على آخر فكل نصّ يقتطف جزءا من روحه. أمّا منهج الكتابة لديه فهو لا يؤمن بـ”الإلهام”، بل يرى أنّ النصّ يكتب ذاته، وأنّ الإبداع هو مزيج من الوعي واللاوعي.
قد نختلف معه في رؤيته الأدبيّة تلك أو مقاربته للرواية بقوله إنّها لا تدّعي العلم ولكنّها حاملة للمعرفة، ففي إطلاقه هذا وموثوقيته التامّة لا يمكن أن نميل معه لتبنيها إذ أن جنس الرواية لها أنواع وفروع كرواية الخيال العلمي على سبيل المثال، ولا تقف على ساق واحدة كما هو حادث عندنا. وسواء كنّا مساندين له في أفكاره أو متباينين معه، لا يسعنا إلّا أن نحيّيه تحيّة محبّة وتقدير على ما أنجزه، أو بصدد إنجازه، وعلى العطاء الذي ما يزال في جعبته ينتظر الإنجاز والتحقيق، عطاء لا يقاس إلّا بنبل غايته.
كما أنّني أشيد بصاحب “الأرملة السوداء”، فقد منّت الحياة الأدبيّة عليّ بمرافقة صديقا يحمل في قلبه أدبا، وفي سلوكه وفاء، وفي قلمه نبضا لا يهدأ. عرفته في منتدانا، منتدى زغوان للثقافة والفكر والأدب، لم يكن مجرّد زميل حبر وكتابة، بل كان أخا في الدرب، وصاحبا في السفر. هو لا يستعرض ذاته، بل يبذلها في سبيل الفكرة، لا يكتب من برج عاجي، بل من نبض الشارع والمشي في الأسواق. ينصت إلى همسات الحياة اليوميّة التي لا يسمعها إلّا من أنصت لها قلبه قبل أذنيه.
فله منّا التحية والعرفان، فقد كان أديبا بصيرا، وصديقا نادرا، وإنسانا يحمل وجها مشرقا من وجوه الأدب التونسي المعاصر، وكاتبا تعلّم من الحياة أكثر ممّا تعلّمه من المدارس. لقد كان معلّما علّمنا أنّ العطاء لا يقاس بعدد الكتب بل بصدق النيّة ونبل الرسالة.