
يتحدث الروائي السوري المعروف – صاحب 12 رواية وعدد من الكتب والمؤلفات الأخرى – فواز حداد في كتابه الجديد ” لقد مررت من هذا العالم ” عن تجربته الروائية في محاولة منه لتسجيل تجربة جديدة في مجال السيرة النقدية الذاتية ، اذ قلما نجد كتابا روائيين او شعراء يكتبون مثل هذه السيرة بكل شفافية قول وجمالية تعبير وصدق أفكار .
تجربة فواز حداد الروائية تمتد الى أكثر من ثلاثين عاماص ، وإن كانت قد بدأت في فترة أطول بكثير ، عندما قرأ أول رواية وانفتح أمامه عالم يختلف عما يدور حوله ، أذهلته رحابة العالم الروائي ، عالم سيكون فيه من الخاسرين – حسب تعبيره –اذْ لن يحيط به ولا نهاية له .
لم يكن ينشر فواز حداد أعماله ، إذْ واظب على الكتابة في المسرح والسينما والقصة القصيرة والرواية دون أي محاولة منه لنشرها الا بعد أن وصل الى الاربعين من عمره ، لقد كان مشواره طويلاً ، بالرغم من قراره بأن يكون روائيا كان مبكراً لديه ، فظروفه لم تكن لتساعده وكانت الاسباب كثيرة ، الا أنه عندما بدأ النشر حينها أدرك جيداً انه لم يخطئ كثيراً لأن الروائي ينضج متأخراً .
فواز حداد كاتب الواقع ، الواقع بكل ما يحمله من أحداث واشكالات ومفارقات وتناقضات وعسف وظلم وقمع السلطات ، ورصد وسبر أعماق الشرائح والفئات و المجتمعات لذلك نراه يقول: ” ان ما أكتبه هو للأحياء ، قد يصلح مسوغا لزمن عشته ، انخرطت فيه ولم أصرف نظري عنه ، حاولت خلاله كتابة ما أعتمل فيه من خلال ما طمحت اليه ، اقتنعت به ، وأنْأفعل ما بوسعي في تقديم أفضل مافي طاقتي وما يفوق طاقتي ، عسى تشفع لي جهداًأردته أنْ يقدم شيئا ما لهذا العالم ” ص 3
وفي جدوى الكتابة يتساءل المؤلف لماذا الكتابة ؟ فالعالم كما هو جلي لا تغيره الروايات مع أنّ الجواب بسيط ، حسب كثيرين من الروائيين الطموحين ، يسهم الأدب في تغيير العالم على المدى الطويل ، وإلا ما سرّ تكرار تمثيل مسرحيات شكسبير ، وإعادة طبع روايات دويستوفسكي وتولستوي مئات المرات وبكافة اللغات . ص 5
فواز حداد يكتب عن رواياته :
المهم والمفيد والممتع في هذا الكتاب هو حديث الروائي حداد عن رواياته وبداياته الروائية فالقارئ المتابع لرواياته يدفعه الفضول المعرفي لكشف كيفية تشكل الجسم الروئي لدى كاتب الرواية ، وعندما يكشف الروائي جزءاً من أسرار كتابته الروائية يشعر القارئ بالمقابل أنه اكتسب شيئا فائضاًعن معرفته ويعوض عجزاً عن قدراته الاستكشافية .
يشبّه حداد مشاعره خلال كتابته روايته الأولى بأنها لا تقل إبهاراً عن التعرف الى الحب في فترة المراهقة ، إذْ لن تعود الدنيا بعده كما كانت قبله ، ولن تسترد صورتها الا مع الرواية الثانية وهو لم يسبغ هذه المبالغة الا من عظم النقلة بين الخواء والامتلاء .
ويعتبر المؤلف روايته الأولى” موزاييك ” بمثابة منحة حصل عليها بعد طول انتطار ، والظفر بخطواته الحقيقية الأولى في عوالمها ، وكانت منحة حصل عليها بعد طول انتطار واكتشاف اسلوب سيكون عرضة للتنوع ، من خلاله أمسك المؤلف بطرائقه في صناعة الرواية .
يشير المؤلف الى المنظر الذي جاءه عفو الخاطر ورسم بدايات روايته الاولى: ” امرأة تقف عند مدخل دكان في سوق قديم ( سوق مدحت باشا ) تصوب نظراتها الى مجرد ظل يتململ في عمق المكان ، تتبادل معه بضع كلمات يبعثرها الهواء الراكد ، ثمّأرى الظل يتقدم نحوها مشطوراً بالضوء ، بينما العتمة أسدلت أستارها على رأسه وكتفه . من هذه المرأة وما هذا الظل الذي أصبح رجلا ؟ ما الكلمات التي قيلت ؟! ” ص 14
لم تبزغ ” موزاييك ” في ذهن الروائي حداد على أنها رواية ، فالمشهد الذي أتحفه به شرود الخيال بدا مَطلعا لقصة قصيرة ، بدأت معه رحلته من دون معرفة الى أين ستقوده ، لمجرد خاطرة أنه سيكتب عن حب مستحيل ، ولم يكن يدري اذا كان سيتحقق ، وكانت جاذبيته في إستحالته .
في ” موزايييك ” حداد لم يبدأ من فكرة واضحة أو من منظر متكامل يتداعى عن آخر ، ما حصل كان لمحة استهوته وكادت الا تؤدي الى رواية ، ولا الى قصة قصيرة ، لكنها استهوته ، ومن فرط ما استعادها في خيالاته إستأثرت بأفكاره واستحوذت عليه
.
في روايته الثانية ” تياترو” يقول المؤلف بأنه لم يأت الى الرواية الثانية خالي الوفاض ، كان حدث ” الإنقلاب ” الشيئ الوحيد العالق في ذهنه من ” موزاييك ” فالكابتن ” صولاني ” من جيش الشرق الفرنسي كان مشروع انقلابي واعد ، سيصبح في ” تياترو” الزعيم ” حسني الزعيم ” قائد الانقلاب السوري الأول ، عداهكانت روايته التالية ساحة مقفرة من قلب اليأس ، وكما يحدث في الروايات ، ظهر على حين غرة المخرج المسرحي ” حسن فكرت ” من مسودات الرواية المكتوبة أمام الروائي ، من لا اقل من مائة صفحة ، عندئذ كأنما صرخ حداد وقال وجدتها ، لقد عثرت على روايتي التي سأكتبها وكنت من الجرأة والاقدام بحيث مزقت ما كتبته سابقا وبدأت بكتابة ” تياترو ” ” ص 17
وكانت روايته الثالثة ” صورة الروائي ” استكمالا من حيث التسلسل الزمني للروايتين السابقتين ، فأحداثها تدور في فترة السبعينيات مع انتشار الانقلابات في البلاد العربية ليبيا والسودان ووفاة الرئيس جمال عبد الناصر وقدوم السادات ، موازاة هذه الاحداث ، يجري تحقيق مطول مع مواطن ما ، يتعرض الى مختلف الضغوط تبلغ أقصاها في المعتقل ، بالموازاة أيضاً ، روائيان كل منهما يكتب رواية على حدة ، لا يعرفان بعضهما بعضاً ، يتراسلان بفصول روايتيهما ، يكتشفان أنّ رواية الأول تكمل رواية الثاني ، كانهما يكتبان رواية واحدة ، هذا اضافة الى مذاكرات استاذ مدرس تاريخ عن خلافات بين مؤسسي البعث .
الروايات الثلاث : ” موزاييك ” ، ” تياترو” ، ” صورة الروائي ” حددت للروائي ( وهو هنا المؤلف ) المنصة التي سينطلق منها الى المجتمع والسياسة ، مع ادراك ان أحدهما لا ينفصل عن الآخر ، وإن في اغفال السياسي افقار للرواية ، إغفال للواقع ولا يمكن الادعاء برواية جانب دون الآخر .
هامش :
الكتاب ” لقد مررت من هذا العصر ” تأليف فواز حداد ، اصدار دار المحيط 2022 91 صفحة .