نصٌّ روائي استثنائي ـ صياغة وثيمة ـ لقصاصة وشاعرة عراقية مغتربة بلندن .. وفاء عبد الرزاق .. سافرت طويلا في الشعر فصيحه وشعبيِّه، وفي السرد القصصي والروائي بشاعرية باذخة. كما جابت عميقا تضاريس النفس البشرية، بحثا عن الإنسان فينا، ملتزمة بقضايا الإنسان والإبداع والسلام، حاضنة للأيتام وأطفال الشوارع .. سفيرة للنوايا الحسنة .. وراعية للفضائل الإنسانية، في وقت تعج فيه المكتبات والقنوات الفضائية بتعويذات السحر، ووصفات الطبخ، وأجساد معافاة لمطربات ومطربين ومصارعي الثيران والبشر. مَن أقدر منها، إذن، على فك طلاسم المستحيل، وفضح عمى الإنسانية، وإعاقات القلب وقحط الضمير، في زمن شديد الإعاقة لا تسعف فيه العبارة، إلا إذا اقترنت بقلب مرهف تجرحه رفرفة جناح فراشة أضناها عشق الضوء. و”أجمل ضوء لمعرفة العالم هو الكتابة .. حين تكتب، هذا يعني أنت تماما على أولى عتبات النهار”. وحين يتحول الحزن المستحيل إلى تباشير فرح عارم، يعرُجُ المعطَّلون جسدا وروحا خطوة نحو الضوء وشلالات نور الأمل الرابض خلف جليد اليأس والبؤس والقنوط وقسوة العزلة القاتلة. أمام أنانية “الأسوياء” وعجرفتهم وتسلطهم وغياباتهم الدائمة حدَّ الفقْد، ينحاز صوت أبطال الرواية المعاقين مجلجلا ومدويا ليمكُر بخطاب السلطة و”الشفقة” والقانون و”الشرائع”، لفتح كوة نور وفرح لا يعلم مقاسها الفادح إلا “المعاق” .. لا شيء يقف في وجه الإعاقة غير تكبيلات الجسد العليل، أما الروح فمنذورة للمبادرة، وتملِك من الاختيارات المسئولة ما يدين غرور “السوي”، ويجعل من الضحية شخصا قادرا ـ رغم ضعفه وبسبب ضعفه ـ على الإفلات من شرنقة العتمة، وهزم جلاديه الواقعيين والرمزيين .. هزمهم بالريشة والقلم وروح المبادرة والإرادة الحرة: “أنا عنقود الأحمدي نزيل دار رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة،، أُعلِّم الآن في حصص الرسم من له رغبة في ذلك،، وأشجع ذوي المواهب الجدد لأعينهم على تقبل الإعاقة برحابة صدر ..” (لقد طرتُ يا أبي بجسدي وروحي خارج العتمة) بل لقد جعل البطل من الكتابة .. كتابة رواية .. ضرورة حميمية و”انفتاح كلي للروح والجسد” على حد تعبير فرانز كافكا. بهذه الروح الكافكاوية، أخذت الرواية معول الهدم لتحطيم طابوهات الإعاقة، وتهشيم جليد الصمت المطبق المستحكم حولها. في رسالة إلى صديقه أوسكار بّولاك ذكر كافكا، ما يلي: “ينبغي أن يكون الكِتاب تلك الفأس التي تفلق البحر الجليدي بدواخلنا”. وفي الرسالة نفسها أعلن: “إذا لم يوقظنا الكِتاب الذي نقرأه بضربة على جمجمتنا، ففيمَ تفيد قراءته!”. بل لقد جعل البطل من الكتابة .. كتابة رواية .. ضرورة حميمية و”انفتاح كلي للروح والجسد” على حد تعبير فرانز كافكا. بهذه الروح الكافكاوية، أخذت الرواية معول الهدم لتحطيم طابوهات الإعاقة، وتهشيم جليد الصمت المطبق المستحكم حولها. في الرواية تطالعك أيضا علاقة إشكالية مع الأب، تذكرنا بالبيت الشهير لشيخ المعرة: هذا ما جناه أبي علي وما جنيت على أحد وبالروح الكافكاوية نفسها، تنسج الرواية الخيوط الواهية التي تربط ـ تَفصِل الأب عن ابنه، وتجعله يقاوم الموت بالحياة، ويمحو عار النسيان بنسيان عار الاستلاب: “إنني لا أستطيع وصف جرح مضفور في الروح من أب عدَّني عالة عليه ورماني في دار الرعاية الخاصة، وكأنه في سلوكه هذا ارتدى درعا واقيا يحميه من عاره. ليته ارتدى الواقي ساعة نزوته وكفاه استلاب إنسانيتي. هيا اقرأ يا “أحمد” واثبت لأبي أنه وهبني الموت وأنا وهبتُ نفسي الحياة”. لا شيء غير التحدي والحلم يقفان سببا يثبت فيه البطل لأب مفرط في الأكل والجنس والحرص على تنمية تجارته، تجاهَلَه وتخلى عنه “أنه وأمثاله البؤساء ولست أنا”. حين يكون الابن المعاق ثمرة نزوة عابرة، تتفاقم القسوة ولعنة الضعف، وتتبرعم الأعذار الواهية: “جئتُ نتيجة ليلة حمراء مع راقصة رمت إلى أبي هذا الكائن دون اهتمام أو رأفة .. أرسلته مع سائقها وهو في يومه الرابع،،فأصبح عائقا لأب حريص على تجارته أكثر من حرصه على ابنه،، مما جعله يلجأ إلى الدار لتحميه من شر الرعاية الخاصة واعتذار الخدم في منزله الفخم بأعذار واهية، توهم قلة حيلتهم تجاه هذا الكائن الضعيف .. بالنسبة إليهما أنا مجرد كائن غير مرغوب فيه. لعنت في سري أبي، ولعنت قسوة الإنسان …” أمام ضُعف الجسد وهوانه، تتشظى الروح المكلومة لتخاطب ضِعفها وتناجيه، وتكتب مذكراتها داخل مذكراته: “يا له من ازدواج بشخصي،،أحدث الآخر وأصوره وأعيش معه، يحاورني، ينهرني،، يبكي معي، يصبح وقحا لئيما .. وأنصت لقلبه”. لمقاومة العزلة والانطواء الحارقين، تلوذ الذات المعاقة بضِعفها لتناجيه وتحاوره وتناقشه وترسو على ضفافه، وتستأنس به من وحشة الخلوة والانزواء: “ما عاد البقاء بمفردي والانطواء على الذات يحرقان وقتي ويحيلانه إلى رماد .. صارت الذات حوارا مستديما ونقاشات حادة ولينة بيني وبين “أحمد” .. أصبح ملاذا وساحلا للرسوُّ عليه، وأصبح سمائي وأرضي، إليه أشكو وإليه أستجير، ومعه استأنست الخلوة .. صبر علي وتحملني، ثم صبرتُ عليه وغرت منه غيرة التوأم من مثيله”. وعند اكتمال الرواية، وبلوغ رحلتها الأخيرة، من رحلات التعرف على النفس، والخفي من أسرارها، تشعر الذات المنقسمة بالالتئام، وتهادن الذاتُ ذاتَها، والروحُ جسدَها، والصورةُ أصلها، في وئام وسلام ومحبة وصفح: “كان ‘أحمد’ يقف في ركن قصي في القاعة .. أشرت إليه بإشارة وداع، وبدا بناظري يصبح مثل شبح .. كانت على وجهه إشارات الصفح كأنه يقول لي لا أستحقك. .. بدأ يضمحل شيئا فشيئا،، وبالتدريج اختفى. لم تكن الرواية في يده بل كانت في يدي أوقع تلك النسخة التي قرأنا معا تفاصيلها وأقدمها هدية للمديرة. رجعتُ إلى أحمد الأصل وليس الصورة،، أو أحمد المتَخيل من قِبَلي،،وسحر ترافقني رحلتي القادمة”. هل للمعاق أن يحب كما يحب الآخرون، ويكره كما يكره الآخرون؟ يتعلق الأمر في الرواية بحب أفلاطوني ـ من طرف واحد ـ شد البطل إلى معشوقته التي عُلِّقت رجلا غيره: ” أرى من أحببتها تضع يدها بيد غيري، وأعرف نفسي أن لا رجاء .. “. لقد خلد أحمد هذه المشاعر الفياضة بالحب في لوحاته، كما خلد كافكا قصة حبه الأفلاطوني لفيليس باور في رسائله الشهيرة. تتعملق في وجه أحمد أسئلة بركانية أمام فشله في تجربة عاطفية مشروعة: “تقف في صف ‘سالم’ وتتركني،، هل لأنها لم تجد حبي ‘لحمامة’ حبا متكافئا؟ أو من حب من طرف واحد؟ أو قد عرفت عجزي التام رجوليا .. لكن قلبي من له يا ربي؟ لماذا خلقتني غير صالح لأية صفة من صفات الحياة؟” كما يقف الطب والشرع في وجه حبيبين منغوليين، ‘سالم’ و’حمامة’: “زواج المنغوليين يرفضه الكثير من الأطباء وعلماء الدين إلا إذا وجدوا ثغرة ما أو رأيا يستندون عليه ليفرحوا قلبين ربما حياتهما قصيرة .. واستطردت [سَحَر] قائلة: صديقتي … إنسانيا يجب الجمع بينهما، أقلها نعوضهما الحب الذي يفتقدانه بعيون الآخرين والنظرة الدونية من المجتمع .. نحن بحاجة إلى ثقافة إنسانية لنستوعب ذلك،، في مجتمعاتنا العربية للأسف الشديد. لا نعاملهم على أنهم بشر مثلنا، ونتصرف معهم من منطلق النقص، تُرى كيف ينظرون هم إلينا؟”. أمام فزاعة مسوخات الجسد، تقف مسوخات النفس الإنسانية عائقا في وجه المحبة والطمأنينة والسلام، لكن .. أبدا. (لن تبقى الأبواب موصدة إذا فتحنا قلوبنا للحب، واتخذناه النداء الأسمى). (أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني)
د. عبد النبي ذاكر جامعة ابن زهر ـ المغرب