تمهيد:
إن وراء كل عمل عبقري في أي حقل من المعرفة الإنسانية إرادة صلبة وعزيمة قوية وخيال واسع وعاطفة جياشة، فصاحب هذا الابتكار لم يضع ما وضع لنفسه بل لأجل الدفع بمركبة الوعي الإنساني لتحلق في آفاق واسعة من الفهم والإدراك لأسرار الوجود البشري في هذا الكون . وإذا كان هذا هو القاعدة التي يخضع لها كل إبداع في الغالب فإن ما وضعه الكاتب اللبناني مصطفى الرقا في كتابه ” الرحلة الكبرى: فرحة المشاهدة ونشوة الحلول” يلج دائرة فعل الإبداع من أوسع أبوابه،ومصراعاه : الكشف عن سر الوجود من خلال الرحلة في دهاليز ممكن الوجود الخاضع للصيرورة ورؤية واجب الوجود .
أول ما يصادفنا من الإشكالات المعرفية-الفنية في هذا الكتاب جنس التأليف الذي اصطفاه صاحبه كي يكون إطارا عاما لمضمون كتابه المذكور الصادر عام 2002 عن الدار العربية للعلوم والمركز الثقافي العربي، يبدو أن هذا الجنس لا ينتمي للمنظومة المتداولة في مجال الكتابة العلمية أو الأدبية ، فهل هو كتاب في العلم، في فلسفة الفلك؟ أم كتاب في أدب الرحلة ؟ أم هو ممارسة في التنظير والتعبير نادرة الوجود اقتصرت – تاريخيا- على نماذج محدودة تستهدف ضربا خاصا من المعرفة يوازيه ضرب خاص من البلاغة في القول؟
سأحاول اقتراح مخرج لهذا الإشكال في ختام هذه الكلمة المتواضعة بعد مقاربة البعدين الأساسيين في هذا المؤلف: بعد الإبلاغ و التواصل أوالتداول المعرفي النفعي وبعد التعبير الفني أوالتخييل.
1- البعد المعرفي :
يتم تناول هذا البعد عموديا بحيث يمكن النظر إلى الجوانب المعروضة في الكتاب باعتبارها تتجمع في مثلث : ما قبل الكشف ، خلال الكشف ثم ما وراء الكشف.
لقد حضر صاحبنا الحافز على الإبلاغ بالكتابة بعد تمام المشاهدة والحلول أي بعد الكشف بالرؤية أو البصيرة عن طبيعة الرحلة الكبرى،والرؤية في مقامنا هذا نسيج جامع للمتصورات والمتخيلات. ومن الثابت أن حرارة الكشف وقوته في النفس زمن تحققه تكون أقوى وأشد قبل ارتهانه بالكتابة، فهل حصلنا في تضاعيف الكتاب على التجربة بكلها قلبا وقالبا. لاشك أن ذلك ضرب من المستحيل لأن واسطة اللغة تشكل فقط سوقا للتبادل، فهي – كما عبر صاحبنا في بعض فصول الكتاب المتأخرة قائلا:” حجاب العقل بعد حجاب الحس أو ضريبة العقل على المعرفة” . لقد قال محمد بن عبد الجبار النفري ” إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة” ،ولعل تصريح صاحبنا بما لاقاه من عنت التواصل بما اكتشف يؤشر من جهة على عظمة الاكتشاف ويحيل من جهة أخرى على معاناة العارف في بيئة يضيق فيها العقل والقلب واللغة عن التصديق والتصور، فهل حصلنا في نهاية المطاف على نار التجربة أم على دخانها ورمادها؟
كان المكشوف الأكبر في هذه التجربة أن الوجود الإنساني رهين رحلة كبرى في مركبة عملاقة، مقعدها الأرض، محركها الشمس وصندوق أمتعتها مكونات المجموعة الشمسية من أقمار وكواكب. فهل هذا الاكتشاف مجرد قياس الطبيعي وتصوره بآلية التشابه مع المصنوع البشري أم هو حقيقة الحقائق أو فلسفتها أو مبدِؤها الأول؟
لقد استعان الرجل بمعطيات العلم التجريبي والرياضي والفلكي لإثبات هذه الحقيقة. إنه سعى إلى فحصها وتمحيصها من الداخل والخارج وهو ما ترك للمتلقي مجالا واسعا للتقبل والاقتناع بصواب واستقامة التصور، مع العلم أن المخاطب ليس في كل الأحوال مثقفا عاديا في هذا الكتاب بل هو متفقه في كل المعارف الدينية العلمية التجريبية، الفلسفية والفنية.
قدم مصطفى الرقا اكتشافه الكبير ” الرحلة الكبرى ” في ” المركبة الكبرى” باعتباره خلاصة رؤيته للوجود الإنساني، هذه الرؤية مزيج من أبعاد في النظر مختلفة، تعددت مراجعها المعرفية وتعقدت بحيث يمكن القول : إنه لم يأل جهدا في الاستدلال على حقيقة اكتشافه، فجدله كان صاعدا نازلا في كتب العلم القديم والعلم الحديث في فروعهما المعرفية الكبرى المؤسسة للتصورات الكبرى حول الإنسان والعالم سواء أكانت مبنية على الوحي أو العقل أو العاطفة .
إن للكتاب قيمة علمية ودينية وأدبية وتربوية كبيرة، إنه يحاول أن يعيد رسم الخطة الأصلية التي أضاعها الإنسان بعد الهبوط بلباس الجسد لامتطاء المركبة الكبرى، وقد جاء الأنبياء على الخصوص للتذكير بها وإيضاح صراط هذه الرحلة الكبرى وغايتها الكبرى وهي قول الرحمن عز وجل في سورة ” النجم”: ” وأن إلى ربك المنتهى”.
إن المشاهدة والحلول الذين يكشف عنهما الشيخ مصطفى الرقا هما مشاهدة حال العالم والمجتمع ومقام الإنسان فيهما بالبصيرة بعد البصر والحلول فيهما حلول الكرام بالمعرفة والقلب بشرارة الدين وشرارة الفلسفة والأخلاق.
2- البعد الفني:
لن يختلف الدارسون لكتاب الكاتب اللبناني مصطفى الرقا: الرحلة الكبرى:فرحة المشاهدة ونشوة الحلول في الاعتراف بأن المؤلف جمع بين بعدين أساسيين في الكتابة هما البعد الإبلاغي التداولي النفعي المعرفي والبعد الإبداعي الفني .
قد طرقنا باب البعد الأول بشيء كبير من الاختزال أملته حيثيات الزمان والمكان، ونعرج جهة البعد الفني محاولين مقاربته بشيء من التكثيف والعمق.
إن مصطلح الرحلة في الأدبيات المتداولة يحيل إلى كل كتابة تتضمن عناصر بنائية ثابتة كالشخصية والحدث في الزمان والفضاء التاريخيين في الأغلب وذلك خلافا للرحلات ذات الطابع المتخيل المحض كروايات الخيال العلمي. فمن هو يا ترى الفاعل المنطقي للرحلة وما هي مقتضياتها الجمالية التي يرتهن بها المعنى في هذا الكتاب الموسوعي ؟
رحل مصطفى الرقا وهو في حال العقل المسافر ببصره وبصيرته وقلبه. رحل عبر الفضاء، وعبر فتوحات كتب العلم والمعرفة عبر التاريخ ، في عوالم مختلفة، منها ما هو موجود في الذهن، وما هو موجود في عالم اللفظ أو اللغة، وما هو موجود في العدد وما يحدده الحس، هي عوالم متطابقة من حيث الحقيقة متباينة من حيث طريقة صوغها وبنائها. هذه الرحلة تتميز بالخصوصية، هي رحلة قامت بها الذات في أبعادها المتعددة للبحث عن حقائق الوجود الإنساني وغاياته القريبة والبعيدة التي اختلفت حولها الرؤى والفهومات، فليس هناك ضرب واحد من الحقيقة: هناك الحقائق الدينية، الحقائق العلمية ،الحقائق الفلسفية والحقائق الأدبية.
تداول هذا العمل الإبداعي بالتناوب السيري والعلمي ، في تناسق بديع يتفتق عنهما في تركيبهما نظام يقوم على توافق الذاتي والموضوعي، المقدمات والنتائج، البراهين والتخييلات،النثري والشعري، الإشاري والعباري .
في هذا الكتاب تتوازى ثلاثة نصوص وتتناص لتؤلف رؤية مكتملة: النص المحيل على الذاتي المحض والنص المحيل على الشروحات العلمية التجريدية والتجريبية والإنسانية والشواهد من المصادر والمراجع المختلفة. ويبقى السؤال الجوهري المطروح فنيا ومعرفيا هو: هل يمكن القول بتطابق المقصديات الثلاث : مقصدية المِؤلف ومقصدية النص ومقصدية المتلقي؟
إن هذه الرحلة الكبرى كما سماها هو نفسه رحلة عجيبة من مبتدأها إلى خبرها. جامعة بين التصور والتخيل والشعور. العقل فيها يتعقل الوجود و يقيم صروح الثقافة والمجتمع،الخيال فيها خلاق وبناء والعاطفة صادقة نبيلة .
عود على بدء:
إن جنس الكتابة الذي انتقاه مصطفى الرقا لتأطير مضمون تأليفه جديد فهو لا يندرج في جنس معلوم بقواعده وتقاليده المؤسسة، هل هو كتاب في العلم المحض أم في الأدب المحض أم في منزلة بين المنزلتين ؟ هل هو كتاب في التصوف النظري أم على غرار نهج الصوفية في التأليف حيث يحكون ما يقومون به من أسفار ورحلات داخل الذات أو خارجها نثرا شعريا كما فعل النفري في “المواقف والمخاطبات” أو شعرا كما أبدع ابن الفارض المصري أو مزاوجة بين الشعر والنثر كفعل الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي في مؤلفه الموسوعي ” الفتوحات المكية” . هذه التجارب الإبداعية يصعب تجنيسها لأنها خاضعة لمنطق وبلاغة خاصين ملخصهما : قول ما لا ينقال بلغة لا يفهمها إلا من ذاق فعرف.
—————-
نعيمة زايد: شاعرة وفنانة تشكيلية