ياتي صدور كتاب الاعلامي ماجد البريكان عن الدار العربية للعلوم ناشرون ببيروت الموسوم “الاعلام الامني في العراق” في الوقت الذي اجتاز فيه العراق اكثر من عشر سنوات تجربته السياسية والامنية وتحوله من الشمولية الى الديمقراطية وهو كتاب لم يكتف بسرد النظريات في الاعلام الامني وبعض التعريفات المتداولة في البحث العلمي انما راح لما هو ابعد وغاص في جذور الاعلام العراقي بالتحليل الكتابي والصوري ما اعطى فائدة كبيرة للقارئ وحل كثيرا من اشكاليات التداخل ما بين السياسة والامن والذي سقط فيه بعض اقسام الاعلام في الدوائر الامنية.
الكتاب الذي قسمه الكاتب الى ثلاثة فصول وهي بالتاكيد فصول متلازمة فمن مفهوم وفلسفة الاعلام الامني بصورة عامة من صناعة ووظائف واهداف وتخصص وسمات ومقومات في خلق الوعي الامني المجتمعي واستراتيجيات عامة لا بد من وجودها في التخطيط الاعلامي السليم ومهارات توجيهه وادارته ومن ثم الدخول الى الاعلام الامني في العراق وكل ما يتعلق به من خطاب بدءا بخطاب النظام السابق مرورا بخطاب سلطة الائتلاف المؤقتة بعد عام 2003 حتى خطاب النظام القائم اليوم والذي يرى الكاتب ان “القوات العراقية سارعت منذ اعادة تشكيلها الى توظيف ضباط برتب اغلبها رفيعة في اقسامها الاعلامية وقد اتبعت نفس الاسلوب الاعلامي لقوات الاحتلال ما احدث فجوة ما بين المجتمع وتلك القوات” لانها اتكلت الى حد كبير على الدور الاعلامي البديل لتلك القوات من خلال الحملات الاعلامية المكثفة عبر وسائل الاعلام تدعو من خلالها المواطنين الى نبذ العنف ومساندة القوات الامنية في سعيها لبسط الامن وفرض القانون. ويشير هنا الكاتب الى اهم نقاط الضعف في الاعلام الامني العراقي وحددها باثني عشر نقطة تلخصت بسمة الخطاب والوسائل والاشخاص المعنيين بادارة الخطاب الامني ومن المهم القول هنا ان الكاتب اعتمد وبشكل كبير على خزينه المعرفي وعلى تجربته الميدانية في كتابة هذا الفصل والفصل الذي يليه وهو الاعلام ومكافحة الجريمة والارهاب كونه واحداً من الصحفيين الذين عملوا وتابعوا الجهد الامني منذ عام 2003 ولحد اليوم.
ترد في الكتاب امثلة كثيرة استقاها الكاتب من وسائل اعلام مختلفة تدعم بحثه مستخدما 54 مصدرا ومرجعا و13 من الدوريات والمجلات والصحف و20 موقعا الكترونيا وهو ما اضفى على الكتاب اهمية كبيرة ومنفعة مجتمعية في تحقيق امنها ذلك لان امن المجتمعات تمر عبر الوعي والمعرفة والفهم والادراك ولا يأتي هذا الا من خلال الاعلام فيما يؤكد ان المبالغة في نشر بعض الانجازات الامنية الكبيرة في ظل ظروف غير مستقرة لا يعتبر اعلاما امنيا انما هو نوع من الدعاية التي اطلق عليها اسم الدعاية البيضاء.
ويشير الكاتب الى ان الخطاب الاعلامي الامني يمر عبر مسارين الاول عبر الاعلام التقليدي وسائل الاعلام المقروءة والمسموعة والمرئية والثاني من خلال الاعلام الالكتروني وهي شبكات التواصل الاجتماعي ومواقع الانترنت وهي اوسع واكثر انتشارا الا انه يحتاج الى تقنيين فضلا عن حاجته الى مهنيين حيث ان المعرفة الاعلامية كما ذكرها الكاتب لا تكفي اذ لا بد من الاحاطة بالعلوم الامنية مثله مثل الاعلام الاقتصادي او الاعلام الرياضي او غيرها من التصنيفات.
واشار الكاتب الى اهتمام الاعلام الغربي بالوضع العراقي كون العراق كان ساحة ساخنة للاحداث واورد انماط تغطيتها للاحداث الامنية واقسامها وفقا لمقدار اهتمامها بالاوضاع العراقية فمنها مؤسسات موجهة بشكل خاص الى الجمهور العراقي وهي المؤسسات التي وجدت لغرض مخاطبة العراقيين على وجه التحديد واهمها قناة الحرة عراق وراديو سوا فضلا عن اذاعة العراق الحر التابعة لاذاعة اوربا الحرة التي يقع مقرها في العاصمة التشيكية براغ. والقسم الثاني كما حدده الكاتب مؤسسات مهتمة بالشأن العراقي وغير موجهة للجمهور العراقي ويقصد بها كل وسائل الاعلام التي يعمل لصالحها مراسلون في العراق وتتابع الاحداث التي تجري فيه الا انها ليست مخصصة لمخاطبة العراقيين على وجه الخصوص ومنها قنوات العالم الايرانية والعربية السعودية والجزيرة القطرية وقناة واذاعة هيئة الاذاعة البريطانية BBC فضلا عن وكالات انباء عالمية واهمها رويترز البريطانية واسيوشيتد برس الامريكية ووكالة الصحافة الفرنسية AFP ووكالة اخلاص التركية للانباء IHA. والقسم الثالث من وسائل الاعلام الاجنبية هي مؤسسات غير مهتمة بالشأن العراقي وغير موجهة للجمهور العراقي وهذه ضئيلة.
واشار الكاتب الى اختلاف التعابير والمصطلحات التي تذكر في النشرات الخبرية والتغطيات الاعلامية فهناك من يؤكد على المناطقية او الطائفة فيما انطوت التغطيات الاخبارية الاجنبية بعد عام 2003 على التهويل والمبالغة عند تعلقها بالوضع الامني فيما وظف التسابق الاعلامي في العراق بالصراعات ما بين الدول وكمثال ان وسائل الاعلام الاوربية والامريكية ركزت على الدور الايراني في العراق واستخدمت عبارات مثل “الميليشيات المدعومة من ايران” في وصف الجماعات والتنظيمات المسلحة التي كانت تنشط في جنوب العراق فيما كانت وسائل الاعلام الايرانية تهتم باظهار الهجمات التي كانت تتعرض لها القوات الامريكية والبريطانية وتستخدم على الدوام “قوات الاحتلال” في وصف القوات الامريكية والبريطانية.
في الفصل الاخير من الكتاب الذي خصص للاعلام ومكافحة الجريمة والارهاب واهمية ان يكون الاعلام حياديا وموضوعيا كي يحقق فرص النجاح وان يكون فعالا في معالجة ظاهرة العنف والارهاب والجريمة. وفي هذا يشير الكاتب الى ان واجبات الاعلام الامني على مستوى مكافحة الارهاب تتمثل في مجالين اساسيين اولهما مكافحة الارهاب الداخلي الذي يقع ضمن حدود البلد من خلال فضح عناصره وتنظيماتهم وخلاياهم وابراز مخططاتهم ودحض ادعاءاتهم ومناظرة افكارهم بافكار عقلانية من اجل تنوير الرأي العام المحلي، اما المجال الثاني فهو السعي لايجاد اعلام عربي يتصف بالندية في معالجة القضايا الارهابية العالمية مع وسائل الاعلام العالمية ويبرز وجهة النظر العربية من منطلق القوة وليس من منطلق المدافع.
وفي قراءة سريعة لهذا الفصل الذي نجده من الفصول المهمة والذي تتزامن معالجاته مع الوضع الامني العراقي حيث العنف والقتل الذي يطال العراقيين في معظم محافظات العراق فضلا عن مختلف انواع الاشاعات التي تؤثر على الرأي العام في ظل وسائل اعلام مختلفة تعمل وفقا لمزاجيات الداعمين لها وتسهم بشكل مباشر وغير مباشر في تفاقم ظاهرة العنف والتقاطع فيما بينها الى درجة ما يشبه الحرب الباردة فيما بينها اضف الى ذلك عدم فعالية منظمات المجتمع المدني في التقليل من تلك الظواهر، في ظل هذه الظروف لابد من مواجهة اعلامية صحيحة لان الاعلام مثل سلاح ذو حدين،كما يذكر الكاتب، يمكن ان يسهم في تحقيق التوعية الامنية او يسهم في التعاطف مع الجريمة بوصفها عملا بطوليا ويشير الى ان هناك من الدارسين من يرون ان العلاقة ما بين الاعلام والارهاب اصبحت مثل شراكة بين مؤسستين احداهما تقوم بصنع الحدث والثانية تسوقه وهذا موجود فعلا في بعض وسائل الاعلام العراقية التي تعمل خارج الحدود فيما يرى باحثون اخرون،كما يذكر الكاتب ايضا، ان الاعلام والدعاية للاعمال الارهابية لهما في كثير من الاحيان اهمية تزيد على العمل الارهابي نفسه ويشيرون الى ان الاعلام يؤمّن للفعل الارهابي ديمومته من خلال بث رسائل دعائية للارهاب عبر مختلف وسائل الاعلام .
بقي اخيرا ان نردد ما قاله الكاتب المجتهد ماجد البريكان في مقدمة كتابة الاعلام الامني في العراق “ان الاعلام الامني يستمد اهميته من اهمية الامن والاستقرار في حياة الشعوب، ولان الدول غير المستقرة أمنيا يصعب عليها النهوض سياسيا واقتصاديا” وهذا ما يحصل بالفعل في العراق حيث توقف عجلة النهوض الاقتصادي وتفاقم التناحر السياسي وفقا لمحاصصات طائفية لم يرضاها العراقيون ومؤسسة أمنية لم تجد نفسها للان ولم تؤثث بيتها كما هو مطلوب لايقاف العنف في البلاد بالرغم من وجود قادة امنيين مهنيين الا ان التدخل السياسي بالشأن الامني عرقل كثيرا من الجهود فيما لم يكن للتوجيه المعنوي في الشرطة او الجيش الدور المؤثر بالرأي العام المحلي.
————-
ورقة في ندوة نقابة الصحفيين العراقيين بالبصرة احتفاءا بصدور كتاب الاعلام الامني في العراق للصحفي ماجد البريكان.