مقداد مسعود :
عرفاء الأقمار…
المكوّن الروائي في..
صحراء نيسابور للقاص والروائي
حميد المختار
مقداد مسعود
وقد فهمتُ بأن هذه المواد التي تؤلف العمل الأدبي
كانت حياتي الماضية
مارسيل بروست
البحث عن الزمن الضائع
وفق جملة بروست المقبوسة من روايته الخالدة بمجلداتها الضخمة
هل يمكن اعتبار صحراء نيسابور سيرة مشفّرة تمثل المسار الروحي للمؤلف القاص والروائي حميد المختار؟!
وتحديدا هي سيرة محاولته الشجاعة لحذف قضبان السجن الذي كان فيه السجين حميد المختار؟ فهذه الرواية من مكتوباته داخل السجن…وفي السجن ليس لنا إلا العروجات والأحلام..فهما المضاد الحيوي وبه يتم الاستقواء..ولهذه الرواية أيدلوجيتها التي قد تختلف عن ايدلوجيتي كشغيل منتج قراءة..لكن عليّ ان اتعامل بأخلاقيات القراءة المنتجة بحثا عن خصوبة الابداع الفني في الرواية..وهذا ما سعت إليه أنتاجيتي في قراءة صحراء نيسابور
(*)
فعل الكتابة هو التالي..أما الخطوة الاولي فهي لفعل التجرية المعيشة ..ولاتزامن بين الفعلين..أعني بذلك ليس للكتابة فعلها الأستباقي أو فعلها المتزامن مع التجربة….فضيلة الكتابة هنا تفعليها المكثف لتجربة السارد في العروج.. وعلى حدقول السارد المشارك وهو ويعرّف نفسه ومساره قبيل نهاية المسرود الروائي..(أنا شحاذ جاء من مدينة بعيدة أبحث عن أهل الرواق الكرام وأصحاب المعنى والعرفاء وأتباع الشموس الغائبة أنتظر أطلالة أقماري في ظلام حجبي وضياعي/ ص79)..
(*)
كتابة التجربة يزودها بذاكرة أستعادية..وينقلها من الذات الى الموضوع.عبر أفق التلقي والتراسل.. تزعم قراءتي انها ستتجاور مع المكوّن الروائي وهو بالطبع مكّون مرّكب.. كما سنوضح..ربما هكذا أقيم أتصالا إنتاجيا بين أفقي كشغيل منتج قراءة وبين كشوفات النص وعرفانيته..أكرر الكتابة هي التالية…
هذا مايخبرنا به السطر الاول من النص:
(بدأ الأمر حين رن هاتف غرفتي رنينا متواصلا،وكنت منشغلا في الاطاحة بجدوى العبورالى الضفة الثانية للعقل )..في هذه الوحدة الصغرى من السرد..نلاحظ المشتبك الأتصالي بين :
*البراني / الهاتف —————– الجواني/ الأنشغال بالضفة الثانية للعقل…
في الوحدة السردية التالية،سيبوح لنا السارد المشارك بمكابداته المعرفية..(هل ثمة بعد الكتابة مايجعل الثمر قريبا من الافواه المفتوحة) وهذا التساؤل يكتسب ضرورته للسارد،بسب زمن ذاتي..(وقد جاوزت ُ الاربعين بقليل ؟)..لكن التساؤل ليس وليد
مايعتور المعرفة والأصح العرفانية من مصدات تؤدي الى
(ليس ثمة متون ولا مقام يؤدي الى احوال أو فتوح) بل مايعتور السارد المشارك من ذلك الجرح النرجسي الاشد مرارة عليه من القهوة المرة..(لقد عشت ُ خريفا حقيقيا بعد ان تركني جل الصحاب
وتركتني التي اعطيتها ثمرة فؤادي على صحن من ذهب ودم لكنها آثرت الذهب وتركت الدم يغطي قلبي المكلوم،فتزوجت من تاجر كبير في البلدة وتركتني مع وحدتي أمام صور وأقلام وصحف قديمة/ ص6)..هل ستكون تجربة العروج ضمادا لذلك الجرح؟
(بدأت ُ أنسى الأصحاب وعقدة حياتي وأحساسي بالعجز بعد ان تركتني تلك المرأة ،لقد نسيتُ كل شيء../ص19)
مايريده السارد من أحوال وفتوح صوفية، سينالها،ليس عبر الماورائيات ..بل من خلال العياني والملموس والكائن بين ظهرانينا..(أذهب الى هناك حيث الاماكن المقفلة التي تنتظر من يفتحها ويبعث فيها النور/ ص8)..وهنا سيتحقق الشرط الاول للتجربة،أعني الانتقال من..(تلك الزاوية الضيقة/ص8) الى الاماكن المقفلة..وهكذا سيتسع المجال الحيوي لسيرورة السرد وصيرورة السارد نفسه ،من خلال تجاوزه لزمنه النفسي وسعيه في المسافة، كمفتاح أو أداة فتح..للمغلق /الراسخ.. والمسافة لاتكتفي بوحدة القياس المتعارف عليها فالمسافة بين غرف الصحفي/ السارد المشارك وغرف رئيس التحرير محاطة..(بكون وبرازخ /ص9)..نلاحظ هنا المجال الحيوي في السرد مشترط بالماورائيات وليس باليومي والمعيش..إذن هي تجربة ميتافيزيقية..وسنقول قولة الصحفي ..(نطير في برازخ وهيولي مخترقين حجبا صاعدين الى مدارج وهيولي مخترقيين حجبا صاعدين الى مدراج وسلالم../ص17)
(*)
بعد كلمة (تمت) في ص118، ويعني المؤلف : تمت الرواية نقرأ التالي:
(18/8/ 2000
سجن أبي غريب)..
هذه المعلومة تجعل الرواية تنتمي الى أدب السجون..ولهذه الكتابة فاعلية الحرية بالنسبة لمنتجها..والحرية هنا مغلّفة بالتشفير..
لكنها شفرات النص تنتسب للغموض وليس للأغماض ،بكل مافي الغموض من شفافيه..تغوي أفق التلقي بأتصال نصي..ولكن أفق مَن ؟ هذا ما تجيب عليه الرواية في أحدى وحداتها السردية الصغرى..بطريقة غير مباشرة..(هذا صحيح ان الأمر يحدث عادة عبر شفرة أو رسالة لايفهمها إلاّ مَن ترسل اليه وهاأنت تفهم الرسالة اذا فهي بالتأكيد اليك أنت../ص11)
(*)
في الكتابة الأخيرة للرواية ،أي بعد سبع سنوات على سجن ابي غريب،سيتزامن تصحيحات الرواية مع استشهاد الشاعر رعد مطشر في 9/5/2007..وهكذا نلاحظ ان الكتابة الأولى للرواية،كانت رد فعل تحرري لفعل استبداد كابده المؤلف وان الكتابة المعدة للنشر تزامن بفعل ارهابي ضد من لايملك إلاّ القصيدة !!
(*)
إن كانت ثمة رحلة صوفية تشكل البعد الاهم في سيرورة الرواية
فأن الدافع لهذي الرحلة،يتشكل بقوة فاعلية التذكر..(كان الأسم الأخير في القائمة لاأدري لماذا هذا الأسم بالذات بطفولتي البعيدة،
حين كان أبي يأخذني في ليالي الخميس الى تلك المراقد ليشارك الدراويش والعرفاء في طقوسهم التي كانت تخيفني كثيرا/ ص9)
وسيكون البحث عنه
(*)
المكوّن النصي للرواية
*الشعر / السرد
*الشعر في الرواية بمثابة : خرزات
*السرد : خيط تنتظم فيه الخرزات
فالشعر لوحده يكون عائم ،دون السرد، إذن وجود الشعر مرتهن بوجود السرد..
*الواقعي/ الميتاواقع..
يمتزجان في سيرورة النص في البدء،ثم سرعان ماتفترش مساحة الميتاواقعي كل المجال الحيوي في الرواية..وللجنون مساحته ايضا /64
*الثريا الأم / الثريات الفرعية للنص
لاأتذكر صحراء الروائي الفرنسي لوكليزو..تلك الرواية المدهشة..بل صحراء التتار تلك الرواية القصيرة الفذة للروائي الايطالي دانيزيو..هكذا الأمر بالنسبة لي كقارىء منتج.. وكلمة نيسابور ستحيلني الى عمر الخيام.. من خلال البياتي في قوله
ديوانه( الذي يأتي ولايأتي)
(عدتُ الى جحيم نيسابور
لقاعها الموحش المقرور
أبحث عن عائشة يازورق الأبد)..
ونيسابور تحيلني ايضا الى (قصة حياة الخيام) للروائي التاريخي هارولد لامب..لكنني حين أقرأ (صحراء نيسابور) سأجد تجربة في العروج..تستحق التوقف في سيرورتها النصية.. وللصحراء هنا
وظيفة غير جغرافية ان (أختيار الصحراء مكانا للتجربة وفي الوقت نفسه للقاء العميق مع الله../22/ كاميللو باللين )
*المقبوسات / الفصول….اتصاليا
تتمفصل الرواية من سبعة فصول..ولكل فصل عتبة وفي كل عتبة نقش حروفي نقرأه ثم نعبر الى الفصل..هل للنقش وظيفة مفتاحية؟!
نقرأه فندوّر مفتاحا يجعل الطريق سالكة لنا نحو الفصول.. ومفاتيح النصوص مباركة أعني لادخل لها بمفاتيح تلك الحاجة (حاملة المفاتيح الشيطانية /ص22 صحراء نيسابور)..ولأن الرواية تشتغل يوتوبياً…فالسؤال الروائي هنا ليس عن نيسابور ..نيسابور محض سراط يوصلنا الى سدرة منتهى فالعنونة هنا ليست اشتقاقية .إذن الأمر كما يخاطب المتنبي نجد…( حلبٌ قصدنا وأنتِ السبيل)*..لذا سأطلق على الفصول السبعة/ المعابر السبعة
*المعبر الأول: عتبته : غزالية ..فهي مقبوسة من أبي حامد الغزالي
(5)
*المعبر الثاني: ينماز بمثنوية مقبوس والاتصالية بينهما مزدوجة
: فهي نسب ومجايلة بين أسد البلاغة العربية وسيد نهجها وحفيده وما خطته ريشة الحفيد..خطته من داوة الجد..: الإمام علي/ الإمام السجاد عليهما السلام ..
(27)
*المعبر الثالث..
ينهل المقبوس من رؤيا يوحنا..تلك الرؤيا ذات الخصوبة التأويلية
لما تحتويه من شفرات مركبة../
*المعبر الرابع
على عتبة الفصل مقبوس عائديته لأبن عربي
*المعبر الخامس..
يرحب بنا بيت من أشعار بابا طاهر
*المعبر السادس
نتماوج على عتبته مع منتج السيمرغ/ منطق الطير أعني فريد الدين العطار
*المعبر السابع/..
نحتسي على العتبة كأسين من حانة ابن الفارض
(*).
*أمكنة الرواية
*الواقع اليومي والأثر التاريخي / المعبر الأول
*الوثائقي / التاريخي بمظلوميته الشيعية/ المعبر الثاني من الرواية..
*التاريخي وفق سرديات شيعية/ المعبر الرابع..
(في الغرفة خمسة اشخاص تحت غطاء شفيف يرتلون أورادا بأصوات غير مسموعة../ص52) ثم الانتقال الى اليومي/55
ومن خلال اليومي في لحظته الآنية ومن خلال خبرية موجهة للسارد المشارك..نعرف انه الآن في مستشفى الامراض العقلية
(أنت مريض وينبغي تدوين أسمك في سجلات المستشفى/ص57)
في هذا المعبر سيكون على السارد الاول الإصغاء لسارد ثان ،في المستشفى وأنا كقارىء للرواية، سأكون التالي في الأصغاء استلم
مايسرده السارد الثاني على السارد الاول..
*عالم البرزخية الكبرى (ص41) تجري تراتبية ذات اصطفاف عائلي جديد..(فتجد الاب الاول في مقام الجد والأب الثاني في مقام البعل والأنثى في مقام الام/ ص43)
(فتكون الابن الاول في قطب الرحى،والريحانة في قلب الاب والولد البكر للأب الثاني..)…
(*)
في مستشفى المجانين..قسرا تجري فرمتة ذاكرة السارد…
(أخذ الدكتور المتحاذق يغدق علي بالرجات الكهربائية والأقراص المهدئة التي زاد عيارها أكثر من ذي قبل…/ص69) وهكذا يتحول الى(رجل مجهول لايعرف له أصل ولافصل أحاول الآن أن أتذكر الوجوه…نسيت ملامح الزوجة الغائبة…/ص70)..ودون قصد من الطبيب ،فأنه قد أعانه في الوصول الى الوادي الخامس/ الفصل الخامس في الرواية..(…مستعد الآن لتحولي الجديد ولعبوري برزخا آخر/ص70)..
(*)..
المعبر الخامس: يكون التحرر الذاتي تحررا جوانيا..(يتحقق المراد إذاً من بدء شموس كعبة القلب/ ص72)..وهنا يتغذى النص من بلاغة الأدعية بشكل أكثر ملموسية (المنبجسات) (الغمر)( عمود النار) كما في دعاء السمات* ثم يخبرنا السارد..(وعادت لي أطواري المفقودة وأتزاني المرتبك فأكملت هندامي وصرت متوازنة)..لكنها عودة بمقدار خطوات قصيرة، إذ..سرعان ما يفر النص الى الترميز ..
بدءاً من خان الصعاليك ودخولا في (رأيتُ فيما يرى النائم كأنني في حضرة الجبلي…./ص78)….
في الخان ستتكشف لنا العرفانية كأتصالية مرآوية موسوية
السارد ———————- النبي موسى
ومنها تتشقق :
مجنون الخان ——————— نبي الله الخضر
وقبل كل هذه الاتصاليات هناك اتصالية الجنون
السارد المجنون ———————– مجنون الخان
وهناك الأتصالية المتعادلة مرآويا
السارد / موسى———————- مجنون الخان / الخضر
وهذا معلن في ص82 من الرواية..حين يسأله مجنون الخان
(وماذا تريد إذا ؟) يجيبه السارد..(أريد ما أراد موسى من الخضر!)..وحين يسأله مجنون الخان (ياللمسكين وهل أنت مثل موسى عليه السلام؟)..يجيبه السارد..(لا ولكن حالي كحال موسى أسعى الى المعرفة والارتقاء/ 83).. فيطلب من مجنون الخان ان لايكون من آكلي السحت..وكذلك اليقظة ،إذا اراد ان يقصد الخان ..وفي طية هذه اليقظة، يكمن المسكوت عنه في النص..ثم تتحول رحلة العروج من مقام الأنا الى مقام الجماعة
(نظرتُ الى الأمام فوجدت حشودا كثيرة من البشر تتهيأ للترحال تماما كما الطيور المهاجرة التي تبحث عن أعشاشها
قرب حدائق غنّاء وخضرة وماء../ ص87)
(*)
في المعبر السادس يكون السارد المشارك في جنة عذراء..حيث الثمار والفاكهة (لم يلمسها أبليس بعد../ص90)
وهو يغذي السير يتهم في قتل شخص هو حاول مساعدته لاقتله وحين يسجن يستضيء في حلكة الطوامير بضوء عزلتهِ..
(يحتمي بعزلته من الناس ويدخل في ظلمته /ص96) كما الشيخ السجين في حكاية شيخه الجبلي..وهكذا سينتصر على الحلكة..حتى يجد من يدفعه بقوة الى أمام ..
(أسرع قبل ان تغلق الحانة أبوابها/ ص102)
(*)
المعبر السابع/ الأخير
في المعبر يشهد السارد ولادته الثانية..( أين كنت قبل حياتي هذه لقد كنت في عالم العدم وها أنا توا في عالمي الجديد /ص107)…ومن هذه العتبة سيدخل حانة الابدية…بعد ان يجتاز..(صحراء مترامية الاطراف /ص113)
*المقالة منشورة في جريدة المشرق/ 7/11/ 2013
*حميد المختار/ صحراء نيسابور/ دار الشؤون الثقافية/ بغداد / 2008
*كاميللو باللين/سبل الروح/ الحياة النسكية عند القديس باخوميوس/ دار شرقيات للنشر والتوزيع / القاهرة / ط1/ 2004
*عباس القمي/ مفاتيح الجنان/ دعاء السمات / ص109-113 / ط33/ منشورات ذوي القربى/ سنة 1427/ هجري