صباح الأنباري:
قلما ينجح المؤلفون في اختيار اللّوحة التي تتمثل فيها رموز ومثابات متون مؤلفاتهم الشعرية أو القصصية الروائية وحتى بعض الدراسات النقدية. وقد وفّرت الشّبكة العنكبوتية لهم من الخيارات الكثيرة والدقيقة ما كان عسيراً عليهم الظفر به من قبل. في هذه المجموعة وبغض النظر عمن اختار اللّوحة فأنها تضمنت على أغلب إن لم أقل كامل الرموز الرئيسة والمهمة في قصائد المجموعة كلّها فالنخلة بشموخها العراقيّ تطلّ من سماء الزاوية العليا على مؤثثات اللّوحة وتكويناتها المتناسقة. وفي زاوية اللوحة السفلى ثمّة نخلة رسمت على الطريقة الآشورية لتكون جذراً أساسياً من جذور التواصل والرقي الحضاري لبلاد ما بين النهرين. أما السدرة التي امتدت جذورها في أرض اللّوحة فأنها شهقت ارتفاعاً وشموخاً ممثلة أُسّ الحضارة الإسلامية. في منتصف اللّوحة الى الأعلى ثمّة حمامة بيضاء هي في جوهرها رمز لبغداد السلام بمآذنها، وشناشيلها، وأقواسها العربية. وتحت تلك الشناشيل تنام العاشقة السومرية الماضي، والبغدادية الحاضر بهدوء يشي بتهويمها في عالم الجمال والرومانسية الحالمة. أسفل اللّوحة يضع الشاعر أو المصمم عنونة المجموعة الصادمة (أطفئيني بنارك) فأي إنطفاء هذا الذي أراده الشاعر في النار؟ أهو نوع من التطهّر والعماد؟ أم هو الإحتراق اللذيذ بنار المحبة الخالصة؟
فعل العنونة (أطفئيني) يشي باحتراق الشاعر في نار لا نعرف سرّ لذّتها بعد. أهي نار العشق ومكابداته؟ أم هي نار الفراق ومعاناته؟ وخلافاً للمألوف، وكسراً للتقليد، واستمراراً للذة الاحتراق يطلب الشاعر منها (من المخاطَبَةِ) أن تطفئه بنارها كي يستمر احتراقه الأزلي الى ما لا نهاية له في زمن العشق السرمديّ.
*
ومن العنونة ندخل الى ذلك العشق النقي فنجد النوافذ ساهرة وعين الشاعر نائمة عند بوابته الأولى التي قفل عليها بقواف كان وقعها على الأذن خفيفاً، وإيقاعها تطريباً، وتفاعيلها تنغيماً، ومرورها انسياباً في رحلة القصيدة شبه الغنائية الى حيث الاكتواء بنار العشق الأزلية. في القصيدة ضميران: الأول (أنا) الناطِقُ والفاعلُ والمهيمنُ على مؤثثاتها، وأجوائها، والراوي لأحداثها. والثاني (أنتِ) المخاطَبة والمتلقية والغائبة الحاضرة التي سنجد ونحن نستقرئ حروف القصيدة، ونستبطن جوانيتها أنها تتماهى في ذهن الشاعر مع أثيرته الحاضرة دوماً (بغداد).
يفتتح السماوي قصيدته (عيناي نائمتان.. لكن النوافذ ساهرة) بالافصاح عن هجرته الإنفرادية قائلاً: “هاجرتُ وحدي حاملاً بعضي معي” وهو مفتتح فعليّ تشي وحدانيته أن الشاعر ترك وراءه بعض المتعلقات التي لا نعرف حجم أهميتها وكلّ ما نعرفه أنه حمل بعضه وهاجر لأسباب لم نعرفها بعد أيضاً. المفتتح فسّر نفسه بنفسه فلقد تقصّد الشاعر حمل بعضه معه ليبقى بعضه الآخر مرتبطاً عبر حبله السري بمشيمة المكان وهو العارف بمخاطر الرحلة ومكابداتها:
فالطريقُ معبّدٌ بالجمرِ
ترقبهُ الضباعُ
وما تبقّى من سلالةِ”أخوةِ الصّدّيقِ يوسفَ”
والذئابُ الغادرةْ
السماوي هنا يمتطي صهوة المغامرة في رحلة غير محسوبة نتائجها. يسلّم سفينته للرياح الغاضبة، والعواصف الهوجاء، متحدياً كل شيء، وآملا في الوصول الى ما افتقده طوال زمن احتمائه بالرحم الذي لم يعد ملاذاً بعد انقلاب الحال وضراوة الأهوال، وتراكم الفواجع وطفح المواجع التي على الرغم منها يظل عاشقاً أبدياً مشدوداً الى المعشوقة، ومعتصماً بحبل وصالها الأبدي. وبعد هجرة مضنية، ورحيل قاسٍ، وحروب مدمرة يعلن لها أن: “كلّ المعاركِ خاسرةْ” ولعل (كل المعارك) هذه تشير الى معاركه الذاتية التي هي بمعنى من المعاني معاركها التي جنت عليهما بالفراق وعذاباته، وبالنوى ومعاناته. وككل عاشق نقيّ فانه يحسب انتصاره الوحيد في تغلبه على الغربة، والرجوع الى ضفافها الفراتية الدافئة. ولهذا نجده يستثني من الخسارات انتصاره الوحيد: “إلا انتصاري حين يقتلني هواكِ فالتقيكِ” في هذا البيت تتجسد مواجع الهجرة التي بدأ فعلها وأثرها يسري في جسد القصيدة منذ جملتها الأولى، بل منذ فعلها الأول (هاجرتُ) الذي ترك أثره الكبير كمحصل حاصل لعذابات طويلة سبقت زمن القصيدة. وربما لم تستطع القصيدة منحنا الكثير من تفاصيل تلك الرحلة المحفوفة بالمخاطر والمهالك، أو البوح الكامل عن كل ما فيها من المعاناة بسبب ما ألزمت نفسها به من التقفية وقيودها على الرغم من قدرة الشاعر على التحرر منها بالقدر الذي تفرضه موضوعتها وتطورات الواقع الحتمية. وقد خفف منها كونه شاعراً مطبوعاً تسير القوافي عنده كما يسير النهر في مجراه. والسماوي الهائم حباً وعشقاً يدرك وهو على أرصفة الغربة أنّ حربه ضد من أجبروه عليها خاسرة هي الأخرى إن لم يكن ملاكه الحارس، وحبيبته التي لم تزل تنبض فيه، الى جانبه. يقول في قصيدة (هيام): “وأن حربي ضد أمسي دون يومك خاسرة” الأمس هنا يشير الى تقلبات الماضي والى استشراء الظلم فيه والى معاناة الشاعر في الخارج، ومكابدات المعشوقة في الداخل. ويشير اليوم الى الحاضر الذي يأمل فيه العاشق الخلاص ممن ألحق بحبّهما الأذى.
وإذا نحيّنا خسارات العاشق جانباً وعاينّا ملذاته حسب، وجدنا أنّ تلك الملذّات كامنة في المسرّات والجمال وأنه وجد ألذّ ما فيها احتراقه في مياهها. يصرح عن ذلك قائلاً:
أن ألذّها كان
احتراقي في مياهكِ
وانطفاؤكِ في لهيبي..
وهذا يدعونا للعودة الى عنونة المجموعة (أطفئيني بنارك) فالشاعر هنا يكسر قيد المألوف من الملفوظ، والمتعارف عليه من المسرود باستخدام التضاد أو الاستبدال المقصود بين النقيض ونقيضه. فالمياه هنا تستبدل أداءها بالاحتراق، والنار تستبدل أداءها بالأنطفاء ويقصد من وراء هذا المبالغة بالاحتراق في نار العشق التي لا يخفت جمرها، ولا يبرد سعيرها. يقول قي قصيدته (رغيف من الشبق على مائدة االعفاف) المعنى نفسه:
وتَبَرّدي بحرائقي..
وببردِ كأسِكِ
دَفّئيني
في هذه القصيدة يبرر استبداله لموضع الكلمات واستخلاصه للمعنى الجديد بزعمه أن إضافة الساخن للساخن يحوله الى حالة من البرودة: {بعض “السخين” يصيرُ” برداً” حين يمزج بـ”السخين”!}. وفي قصيدة (قديسة الشفتين) تأكيد للمعنى نفسه إذ يصف الشاعر نفسه قائلاً:
وأنا اللهيبُ الباردُ النيرانِ..
والماءُ الذي أمواجهُ
تُغوي بساتينَ اللذائذِ بالحريقْ
لقد جمع السماوي بين الحر والبرد، وبين الماء والنار جمعاً قائماً على تزاوج لا أساس له إلا في مشاعره المحكومة بالتقلب على الجمر والماء في آن واحد.
في عِشْقيّات السماويّ ورومانسيته الثورية تتجلى صور حبيبته المريمية، ومعشوقته البتول، وأثيرته العامرية التي أحاطتها قذارات المارقين، والراسخين في التهتّك، والمضاربين بأسواق الدعارة تحت يافطة العبادة. يقول عن هولاء جميعاً مجاهراً وفاضحاً:
أنّ جميعَ آلهةِ المدينةِ
والدّعاةَ الى الصّلاةِ
سماسرةْ
وفي هذا إشارة قطعيّة وجليّة عما يقومون به من تخريب للعقول، وتدمير للأصول، وتسخير للمعتقد، ومتاجرة بالدين والطائفية وما أهلّ به لغير الله، باسم الله خدمة لمآربهم النفعية وأرباحم الجهنّميّة ولا فرق عنده بينهم وبين غيرهم من القائمين بأمر الجياع:
والقائمين بأمرِ أرغفةِ الجياعِ
بدار دجلةَ والفراتِ
أباطرةْ
ولم يكن هؤلاء الأباطرة من قبل إلا جياعاً تنكروا للفقر والجوعى بعد أن رَقِيَ شأنهم واستحوذوا على رتب لم تكن من مستحقاتهم يوماً. يقول السماوي عنهم في قصيدة (كذبتُ عليكِ.. كذبتُ عليّ!):
جياعُ الأمسِ قد باتوا أباطرةً
وصار مؤذّناً
من كان في عهد “ابن صَبْحَةَ”
ينقرُ الطّبلا
وفي هذا إشارة لنوعين من الأشرار أو زمنين عاشهما الشاعر في مرحلتين: الأولى مرحلة النقر على الطبول وما أكثر طبالي هذه المرحلة ومهرجيها. والثانية أزاحت الأولى لتحل محلها في السلب والنهب والتطبيل والجريمة وهي لا تقل شرّاً عن شر حرامية بغداد. يقول في قصيدة (الوصول الى اليابسة):
فليسَ شرّ المارقين من الطغاةِ
على الجياعِ
أقلّ من شرّ الدهاقنةِ اللصوصِ
بدارةِ النخلِ المهيّأ للّتشرذمِ
في مزادات الدهاليز
الهجينةْ!
المعشوقة التي ألمح إليها السماوي إذن، منذ مفتتح القصيدة، أماط اللثام عن وجهها المشرق الآن بعد أن راح نسغها النقي يرتقي (دارة النخل) في (دار دجلة والفرات). إنها بغداده الثّكلى وسماوته الحزينة أو أية بقعة في خارطة عِشْقه السماويّ الذي رأى ضيم البلاد، وظلم العباد، وضياعه من ألف عشق. ومع أنّ السماوي رأى ما رأى فأنه يترفق بالماضي طاوياً صفحته الحمراء أو السوداء ليستجير بمشوقته الكلية الحكمة، والكلية الفتنة، والكلية السحر والجمال.
ومع أننا نقر بقصر رحلتنا في واحاته الظليلة، وفي براري عِشْقيّاته الخضر، وبمرورنا السريع أمام مثاباته الإبداعية الخلاقة إلا أننا نأمل أن نكون قد قدّمنا ما يمكن أن يسدّ ولو القليل من استحقاقه كإنسان مبدع، وشاعر خلّاق.