رافد حميد السنيد :
هي كسائر النخيل لكن قصتها لا تشبه الاخريات امثالها فقد جاء بها الفلاح بعد ان ابتاعها من فلاح اخر ليغرسها في بستانه مع عشر اشجار نخيل اخريات لكن جنسها يختلف عنهم فقد كانت من جنس البرحي اما الاخريات فقد كن بجنس اخر يدعى حلاوي وهذه التسميات والأجناس تطلق على كل النخيل.
وعندما اراد الفلاح غرسها في بستانه الذي هو بمساحة العشرة دوانم ويقع على ضفاف الشط منعته زوجته قائلة له
الزوجة :- يا رجل لا تغرسها في البستان فهي نخلة برحي وليست كباقي النخيل
ولكون الفلاح يحب زوجته حباً شديداً ولا يرفض لها طلب قال لها
الفلاح :- وأين تريدين ان أغرسها يا عزيزتي
الزوجة :- أغرسها في باحة البيت لنقوم انا والعيال على رعايتها
وفعلا قد فعل الزوج ما اوصته به زوجته وكان عمر النخلة سنتان وكان لدى الفلاح ثلاث اطفال ولدان وفتاة وهم باعمار مختلفة من عمر سنة وحتى ثلاث سنوات وهكذا اعتبرت النخلة هي الابن او البنت الرابعة فراح الجميع يداريها من الاب نزولا حتى الطفل الصغير وكانت هذه النخلة تسبق غيرها من النخيل في النمو حتى انها اصبحت تكبر بشكل ملحوظ وان طولها اصبح يزيد ارتفاعاً على الثلاث مترات.
وبعد مرور خمس سنوات عليها وفي موسم تطليع النخل حملت تلك النخلة ثلاث طلعات ولاول مرة وكان فرح الفلاح وزوجته وابنائهم الذين كبروا مع النخلة فرحين جدا بل انهم راحوا يرقصون فرحاً ولكن فرحهم كان منقوصاً حيث ان الحرب التي يمر بها البلد في ذلك الوقت كان قد أخذ مأخذا كبيرا فهاهي السنة الخامسة على الحرب المندلعة والتي راحت تحصد كل شيئ وأول تلك الاشياء الارواح العزيزة.
ورغم الحرب والقصف المدفعي الذي تجاوز ساحة المعركة ليصل الى المناطق السكنية الا ان الجميع كانوا ساكنين بيوتهم ولم يغادروها حيث جعلوا في كل بيت حفرة في الارض احاطوها باكياس مملوءة بالتراب مرتفعة عن الارض بنصف المتر او مايزيد قليلا وسقفها من جذوع النخل او الاشجار الاخرى اليابسة مثل (الجندل) وعليها حصران من القصب تسمى احداها (بارية) وجمعها (بواري) وعليه تراب الارض نفسه ليكون في النهاية (موضع أو ملجئ) يتحصنون به اثناء القصف المدفعي وبعد زوال القصف يعودون مرة اخرى لمزاولة اعمالهم .
وفي صبيحة يوم ليس كسائر الايام يوم ملبد بالغيوم استيقظ الفلاح وزوجته وابنائهم على اصوات عجلات كبيرة بالقرب منهم خرجوا مسرعين الى بستانهم ليروا عجب العجاب فهاهي عجلات البلد وزر ولوريات الحمل والكَريدرات تجوب بستانهم والبلدوزر يقلع كل شيئ امامه بلارحمة او شفقة ورجال بملابسهم العسكرية قد انتشروا حول ضابط لهم يرشدهم على خارطة الطريق واين ما اشار باصبعه راحت البلدوزر تطيح بكل شيئ واقف امامها .
انها ماساة كبيرة ركض الفلاح وجلس على الارض ودموعه تنهمر من عينيه واطفاله وزجته يتباكون ليكونوا مباشرة امام اسنان البلدوزر الوحشية والتي لاترحم ليوقفها وتبعته زوجته وابنائه بفعل الامر ذاته.
وفعلا توقفت البلدوزر عن العمل وشاط غضب الضابط الذي كان يشرف على العمل وسار حتى الرجل وعائلته وقال له غاضبا
الضابط :- ماالذي تفعله
الفلاح :- انا من يسأل ماذا تفعلون هنا في بستاني
الضابط :- انها تعليمات القيادة بعمل ساتر ترابي لصد العدو وهذه اصبحت ساحة حرب وقتال
الفلاح :- وما ذنبي انا وبستاني والبساتين والفلاحين الاخرين بهذا الشأن
الضابط ويزداد غضباً :- لاتجادلني هذه تعليمات وانا ضابط ينفذ الاوامر
يعطي تعليماته الى الجنود ليبعدوا الفلاح وعائلته وبالقوة من مكانهم وراح البلدوزر يحصد كل شيئ امامه وصراخ الاطفال والزوجة ونحيب الفلاح يعلو في المكان لكن لاحول ولاقوة
عاد الفلاح الى منزله وهو مهموم وحزين جدا جلس قرب نخلة البرحي وجلس الجميع اي العائلة واخذوا يبكون حتى ان النخلة من كثر ما تساقطت علىها الدموع الغزيرة المريرة التي تسقط من اعينهم لتقع على التربة والتي ابتلت لتصل الى عروق النخلة.
نعم شربت دموعهم حتى ارتوت بل انها كانت تنوح وتبكي لكن لايسمعها سوى الفلاح وعائلته ومثيلاتها من النخيل والاشجار الاخريات.
نهض الفلاح وقال لعائلته :- هيا انهضوا
الزوجة :- الى اين
الفلاح وبمرارة كبيرة :- لم يعد لنا هنا مكان لنرحل
الزوجة :- الى اين
الفلاح :- ارض الله واسعة
وفعلا دخلت الزوجة الى (الصريفة) وهي غرفة مبنية من القصب وعلى القصب وضع الطين ليمنع مرور الهواء ويكون سترا ايضاً وسقفها من حصران القصب وعلى شكل جمالي اي مثلث وضعت على جذع من النخل والذي امتد على السقف
لتأتي بقطعة قماش كبيرة وتضع فيها ملابسهم التي كانت بصندوق مصنوع من الحديد الخفيف ويسمى (بالسحارة) اطفالها يساعدونها بجمع الثياب وخلال دقائق معدودة حملت الزوجة عبائة الرأس وارتدتها ثم تضع قطعة القماش التي وضعت فيها ثيابهم بعد ان ربطتها بشكل مرتب وجميل ويطلق عليها اسم (بقجة) على رأسها ايضا وتقول والحسرة تملئ قلبها وبصوت ابح من كثرة النحيب والعويل
الزوجة :- هيا بنا
تمسك بيد ابنتها الصغيرة وتلقي النظرة الحزينة الكئيبة الاخيرة على بيتهم الذي رغم تواضعه الا انه كان بمثابة القصر والى نخلة البرحي.
كذلك فعل الفلاح نفس الشيء وكانت النخلة تود الذهاب معهم الا ان جذورها التي نزلت الى اقصى مدى في باطن الارض منعتها من الرحيل معهم لكن خوص سعفها راح يتمايل ذهابا وايابا دلالة على ان الحزن قد وصل الى اخر مراحله.
وبعد خروج الفلاح من بيته مع عائلته لم ينظر خلفه الى البستان لان ذلك كان من اصعب الامور عليه فهو لم يترك ارضه بطراً.
وكيف له ان ينظر والبلدوزر تقطع كل شيئ وتهدم احلام وامال السنين بل انها تأتي على بقايا عمره الفاني
راح الفلاح تاركاً مملكته التي اسسها خلال سنوات طويلة تتهدم امام عينيه بلحظات
انها لحظات تتقطع لها القلوب وتأن لها العواطف ذهب الفلاح الى عالم المجهول حيث انه لايعرف اين سيحط به القدر ولا يعرف ما سيلاقيه من اهوال الدنيا بل جل مايعرفه انه متوجه الى بيت اخته والتي تسكن محافظة اخرى عله يجد عمل وبيت اخر وبالتأكيد فانه لايعوضه عن كوخه البسيط ولا بستانه الزاهي
وما ان وصل البلدوزر الى الكوخ الذي كان سكن الفلاح حتى رفع الضابط يده الى سائق البلدوزر بعلامة توقف
وفعلا توقف السائق فصاح الضابط به الضابط
الضابط :- لاتهدم هذا البيت لاننا نريد ان نتخذه مقرا لنا
وفعلا ترك السائق الكوخ قائما ولو ان احداً كان موجود لرأى الحزن قد بان على سعفات نخلة البرحي التي تمنت لو انها اسقطت واقتلعت جذورها لتموت هي الاخرى فانها اليوم في حزن لم يشهد له مثيل فهاهم احبابها قد هجروها ورحلوا وهاهي اخواتها النخيل تسقط وتسحق بلا رحمة …اه كم ساعات مؤلمة
وهكذا مرت الايام والسنوات والنخلة واقفة في وسط الكوخ الذي اتخذه الجند مقرا لهم لكنها لم تحمل بعد ان تركها احبائها تمرة واحدة.
وكانت تشهد على كل المعارك التي كانت تجري على بعد منها فان طولها الفارع سمح لها ان تعلو الساتر الترابي الذي وضعه الجيش وترقب الاحداث التي تجري خلفه بل كانها ارتدت خوذة عسكرية ووقفت ترصد كل التحركات.
وفي احد الايام وكالعادة والقصف مستمر واذا بقذيفة مدفع تقع بالقرب منها وحولت كل شيء الى حطام و لم تسقط النخلة بل ان شظية صغيرة اصابتها عند الراس لتخترق الكرب والليف وتستقر في قلبها (الجمارة).
وكذلك تسقط تلك القذيفة عددا من الجنود القتلى وقسم اخر مصابين وبعد ذلك وبمده وجيزه اعاد الجنود الاخرين الذين لم يلحقهم اي ضرر او اذى بعد ان قاموا باخلاء الموتى والمصابين زملائهم اعمار الكوخ ليرجعوه كما كان.
لكن نخلة البرحي تحملت كل الالم وضلت واقفة وفي كل اسبوع كانت تذبل احدى سعفتها ومن ثم تموت انها مصابة لكنها كانت تقاوم بشدة فتلك الشظية التي وصلت قلبها ارادت قتلها لكن عناد النخلة وتجلدها على المصائب حال دون ذلك.
بل اكثر من ذلك فهي كانت تنتظر وكان لها امل بان يعود لها احبائها في يوم من الايام .
وتمر السنون وتموت في كل اسبوع سعفة حتى اصبح اغلب سعفها قد مات
وفي ليلة غير متوقعة وكانت كالعادة ترقب ساحة المعركة التي منذ يومين لم ترى اي تحرك او نشاط عسكري سمعت صياح الفرح والبهجة ينطلق من الجنود الذين تجمعوا حول جذعها وهم يتراقصون
نظرت الى الجانب الاخر ورأت نفس المنظر حيث راح الجنود ينزعون خوذهم ويحلقونها عاليا…ياترى ماذا حدث
انتهت الحرب ….انتهت الحرب ……هذا ما سمعته من المقاتلين وما فهمته منهم
لم تصدق ما سمعت ارادت الاحتفال معهم وان ترقص كما يرقصون حيث كانت الرياح قوية تساعدها على الرقص والاحتفال.
لكن الشظية التي اخترقت قلبها لم تبقي على حيويتها بل انها اصبحت عجوز كبيرة هرمة فسعفها الاخضر قد تحول الى اللون الاصفر ثم بعد ذلك الى اللون البني الفاتح وهو علامة الموت كالإنسان الذي بعد سواد شعره يبيض علامة شيخوخته وكبر سنه.
نعم انتهت الحرب ليعود كل شيء طبيعي ….عفوا ليس كل شيء فأشجار النخيل التي اصبحت مدفونة هي وبقية الاشجار الاخرى تحت تراب الساتر الطويل والذي يمتد بامتداد الشط لايعود ثانية.
والموتى في الحرب لايعودون والايام الجميلة التي ذهبت لاتعود ثانية ولكن هناك سؤال مهم هل سيعود احباب النخلة؟ تمضي الايام وتمر السنون والنخلة لم يبقى فيها الا سعفة واحده لم تموت لكن تحول لونها الى الاصفرار هي تموت اذا .
وبعد العشر سنوات من الانتظار واذا بها ترقب مجموعة من الناس ستة كبار ومعهم سبعة اطفال يتجهون نحو الكوخ الذي لم يبقى منه سوى جذوع النخل اما الجدران فقد تساقطت مع مرور الايام وترك الجنود له الذين كانوا يرممونه بين الحين والاخر.
تشعر النخلة ان الحياة قد دبت فيها من جديد …نعم انها تشتم رائحتهم بل انها تعرفهم جيدا أولائك هم الاطفال الذين كانوا يسكنون في هذا الكوخ انهم اخوتها فقد كبروا وتزوجوا وأنجبوا اطفالً.
يالها من لحظة لاتساويها ولايعادلها اي شعور انه اللحظة التي انتظرتها النخلة سنوات عجاف انهم لم ينسوها وهاهم اليوم يأتون لزيارتها ولكن….؟
من دون والديها ….اين هم؟
لقد علمت من خلال حيث اخوتها وهم يشرحون لنسائهم واطفالهم عن الكوخ وعن النخلة وعن تلك الايام التي قضوها هنا و بقولهم ابي وامي رحمهما الله…… انهم ماتوا وكانوا يتوقون لرؤيتها انها الايام والاقدار
يبست اخر سعفة في النخلة ولكنها ماتت فرحة لأمرين الاول رؤيتها اخوتها والثاني انها تحمل ثلاث فسائل جميلة قد احاطوا بها والاجمل مافي الامر انها ماتت واقفة ولم تنحني