في كتابها القصصي “همس القمر في مذكرات العمر” الصادر عن دار الوطن للمطابع التجارية بدولة الكويت عام 2013 والذي يقع في 210 صفحات تحاول القاصة الكويتية لوجين حمد النشوان أن تخترق عالم السرد بقوة متناهية عبر تراتبية كتابية مختزلة مستخدمة اقصر الطرق للوصول لمبتغى القص فلم يكن الحدث إلا ممراً يأخذ القارئ الى النهايات التي غالباً ما تكون صادمة.
عتبات القص:
يبدو ان اختيار عنوان المجموعة القصصية قد هيمن على جميع سردياته، وهو الثريا التي أرادت لها القاصة أن تكون دالة حيث أن ( إختيار عنوان رواية أو قصة ما، ليس عملاً شكلياً أو اجرائياً معزولا عن نصه، إنما هو دلالة منتزعة من صميمه) (1) وبقراءة بسيطة للعنوان تبرز مفارقة تلك الدالة فيما بينها وبين الثلاث عتبات او العناوين الفرعية التي تضمنتها عتبات القص، فـ”همس القمر” قد يوحي الى الهدوء والسكينة فيما لم تكن القصص بالدلالة التي يحملها جزء العنوان الأول “همس القمر” فهي متمردة حيناً وصاخبة في أحيان أخرى.. إلا أن جزء العنوان الثاني “في مذكرات العمر” جاء مفتاحاً مباشراً

لعتبات الكتاب الثلاث “مذكرات قاتلة”و”مذكرات موظفة استقبال” و”مذكرات وطن” حيث أن العنوان هو (ليس عبارة لغوية منقطعة او إشارة مكتفية بذاتها بل هو دائماً مفتاح تأويلي أساسي لفك مغاليق النص، وعندئذ، حين يحسن المتلقي إستعماله، تتلألأ أمام عينيه كنوز القصة ونفائسها وتنبسط تحت قدميه، في طواعية، ارضها الملأى بالأسرار)(2).
مفردة “مذكرات” ربطت بين قصص الكتاب، إلا ان هذه المفردة وبالرغم من انها توحي الى تجنيس آخر وهو “أدب السيرة” لكنها لم تنح المنحى الذي يتطلبه المعنى المجرد للمفردة في أن يكون الزمان ملازماً للمكان والحدث بكل تفصيلاتهما ، فالقاصة استخدمت مفردة “مذكرات” كدالة مجازية للسرد في القصص الثمانية والثلاثين الذي تضمنتها المجموعة القصصية.
وفي قراءة سريعة للعناوين الفرعية التي تضمنتها العتبات الثلاث الرئيسة نجد أنفسنا امام مفاتيح غاية في الاختزال والعمومية فالقاصة وبأغلب القصص إستخدمت مفردات “نكرة” غير معرفة لتضع أمامنا فسحة كبيرة من التأويل والتخيّل، فمفردة بمثل “إغتصاب” تعطي دلالات كثيرة وكذا الحال في مفردة “إحتفال” أو “مزحة” أو “إهمال” أو “تباهي” أو “ضمان” أو غير ذلك من العناوين التي تحيلنا الى معانٍ أخرى إلا أن بوصلة القص تاخذنا باتجاه آخر غير الذي توقعناه او يتوقعه المتلقي وهذا الانحراف في الرؤى منح النص قوته فليس بالضرورة ان تكون العناوين مفاتيح لنهايات متوقعة والقاص المتمكن يمكنه ان يجعل من عناوينه مصدر جذب للمتلقي ذلك وبحسب اومبرتو إيكو أن (العنوان يمثل جزءاً حيويا من بنية النص الى جانب كونه مفتاحا تاويليا والعنوان في تركيبته التاويلية ينبئ عن عالم مكتظ من العلامات والشفرات التي تتحول الى دوائر تدور حول بعضها مثيراً عددا غير قليل من الدلالات والبنى الايحائية)(3). وهذا ما درجت اليه النشوان في مجموعتها القصصية، وحتى في العناوين المعرفة، وهي قليلة جداً” كان هناك فضاء رحب للتأويل استطاعت القاصة ان ترسم لمتلقيها مسارات قراءته وبقصدية اجدها في عدد من النصوص ومنها نص “الطواش” المفصل الاول للعتبة الاخيرة من المجموعة “مذكرات وطن” التي بدأتها بقطعة جريد وانهتها بلؤلؤة سوداء!
زمكانية السرد
تتشابك الأمكنة في المجموعة القصصية “همس القمر في مذكرات العمر” فيما تتماهى الأزمنة وتتمدد بتمدد الاحداث وبالرغم من عدم وضوح الزمن وبروزه إلا أن ذلك لا يعني انه غير موجود حيث أن (لا سرد بدون زمن، فمن المتعذر أن نعثر على سرد خال من الزمن، وإذا جاز لنا افتراضا أن نفكر في زمن خال من السرد، فلا يمكن أن نلغي الزمن من السرد)(4).
الأمكنة في النصوص واضحة، توصفها القاصة تارة بإيجاز وتارة أخرى تشير إليها أو تسميها، وفي أغلب القصص يجد المتلقي نفسه في تلك الأمكنة التي هي ليست غريبة عنه، ولم تكن هناك أمكنة فانتازية يمكن أن تأخذ المتلقي الى عوالم تخييلية، في قصة “اغتصاب” اشارة واضحة للمكان “ارقب خلسة ذلك المنزل القريب التابع لاحدهم”.. وفي قصة احتفال تبدو الامكنة واضحة حيث “الطريق كان مزدحما” و “حان وقت دخولنا للصالة” وفي قصة مزحة “الاعلان على ناصية الشارع هناك كان مغريا” وفي قصة اهمال “كنت وحيدة دوما في تلك الغرفة الفاخرة” وفي قصة مشاركة “خرجت من المنزل، وصلت الى المستشفى” وكذا الحال بالنسبة لبقية القصص حيث تصف القاصة امكنتها بايجاز مثل قصة حب حقيقي “محل صغير احتل مساحة صغيرة، في شارع ضيق” وفي قصة حاجة “يقف أمام الصيدلية…” تلك الأمكنة تبدو طبيعية وواضحة وهي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتراتبية الحدث. وفيما يتعلق بالزمان القصصي فهو يختلف اختلافاً كبيراً ولم يبدو واضحاً بالشكل الزماني المعروف وبدا مختزلاً في كثير من القصص، وتتضح الانتقالات الزمنية عبر السطور وربما يختزل سطر واحد سنوات طويلة من زمن الحدث ففي قصة هدف “السنوات تمضي بخفة، وقد رسم الشعر نفسه على ملامح الفتى…” وفي قصة طبيب “خمس سنوات تمر على تلك الخطبة التي لم تتم” وفي قصة وطن “وتعدو السنوات مسرعة” وفي قصة رسالة “مر العام الدراسي بسرعة كبيرة” وفي قصة حاجة “تمر السنوات وتظل صورة العامل وملامحه تغزوه بين حين وآخر..” وفي قصة صمود “تمر الاعوام متسارعة، وتصبح الشابة الغضة جدة في منزلها..” وكذا الحال في بقية القصص التي استخدمت فيها القاصة الاسترجاع او ما يسمى في لغة السينما “فلاش باك”.
نهايات
تمتاز قصص المجموعة بنهايات مدهشة وصادمة وغير متوقعة وفي اغلب الأحيان نهايات مأساوية أو وعظية وهي نهايات مفتوحة يمكن أن تكون مشرعة على أكثر من نافذة الأمر الذي يزيدها اتقاداً أكثر من أن تكون نهايات مغلقة تخمد جذوتها مع آخر حرف فيها، فالقاصة تنسج نهايات قصصها بتأنٍ وتحيك مفرداتها بتناغم مثير، ففي العتبة الأولى “مذكرات قاتلة” تنهي قصصها بحوار تارة واعلان تارة اخرى او بحادث غير متوقع بفعل شمعة أو كذبة ابريل او رصاصة او سيجارة او زجاجة خمر او حبال مشنقة او بفنجان قهوة مسموم او قنبلة ناسفة او خطة محكمة! تلك النهايات المأساوية امتازت بها قصص المجموعة الأولى فيما امتازت العتبة الثانية “مذكرات موظفة استقبال” بترابطها وتبدو كأنها قصة واحدة كونها حكاية مترابطة لشخصية واحدة في مواقف مختلفة وأضفت عليها القاصة لمسات إنثوية عززت من قربها للمتلقي “كنت أغوص في بحيرة خجل تذيبني رويداً رويداً..ص60″ و”كنت انصهر احراجاً لأن كل ما حصل في حضرة الجميع،انفجرت باكية كطفل صغير… ص65″ و” شعرت انني انضج بسرعة وانظر للاشياء بمنظور اخر يختلف تماماًعن منظور الفتاة المدللة..ص67″ و”عدلت جلستي،حاولت استرجاع رقة صوتي…ص84″ وكنت احاول خداع نفسي انني سعيدة بما حصل ولكن الواقع ان السعادة اقتحمت قلبي عندما رسم عقلي يافطة شركتهم المعروفة…ص85″ و”اقترب فارس الاحلام اكثر فاكثر، وذلك الشاب الهزيل المزعج يحاول الحديث معي…ص87″ و”اصبح وزني لا يمثل شيئا في قوانين الحساب. ص92″ و”ارتديت اجمل ملابسي،تانقت اكثر من كل يوم، وعلى الرغم من السهر الطويل، الا ان وجهي كان يضج اشراقا، معادلة لا تفهمها سوى الفتيات المخطوبات حديثا…ص94″.. وفي العتبة الثالثة، وهي العتبة الاكبر ما بين العتبات الثلاث، والمعنونة “مذكرات وطن” تختم القاصة النشوان قصصها وعددها 15 قصة مستخدمة ما يمكن تسميته بالتطهير سواء النفس او الأرض، تعبيراً عن ندم شخوص القص او تفانيهم واخلاصهم “زوجته تشاركه الجنون، لتخبره مرارا ان هذا التراب يستحق التضحية.. نداء خفي ص131″ و”نحن فخورون بجدنا الاسير ووالدي الشهيد، نحن نحبك نحبك مهما حصل وما قد يحصل.. هاجس ص153″ كن نفسك يا بني واحذر امنياتك..طبيب ص170″ و” انها ارض طيبة ، والارض الطيبة تمنحك اضعاف ما تقدم يا عزيزي.. زراعة ص209″.
مستويات السرد
تختلف العتبات الثلاث للمجموعة القصصية “همس القمر في مذكرات العمر” من حيث استخدام اسلوب السرد ومستوياته، ففي العتبة الأولى “مذكرات قاتلة” وعدد القصص فيها 11 قصة استخدمت السرد بضمير الغائب في ثلاث قصص فيما استخدمت ضمير المتكلم بثماني قصص، وهي قصة “اغتصاب” حيث يكون السرد بضمير الأنا “انه اليوم الاول الذي اصحو بدونها” و”هذا حالي وحال كل من افتقد امه” وكذلك في نص “احتفال” والذي تبدأه بجملة “كانت تلك الافكار تراودني عن عزمي” و”كنت حبيساً وحيداً لا امارس حياتي كما يجب أن تكون” وفي نص “اهمال” تقول”كنت وحيدة دوما في تلك الغرفة الفاخرة” وفي نص تباهي تبدأ قصتها “وقع في عشقي منذ النظرة الاولى” فيما استخدمت السرد بضمير الغائب في قصة ” مزحة” حيث تقول “كان يرى طفله الصغير وهو ينطق كلماته الاولى” وفي قصة انتقام “لا تزال عيناها تتجولان بالانحاء” وفي القصة الثالثة احتراف “كان ينظر لها بحب وهي تقبض كفها الصغير بشدة على يده”، أما في العتبة الثانية “مذكرات موظفة استقبال” فجميع القصص الواردة فيها وعددها 12 قصة استخدمت القاصة ضمير المتكلم ولم تخرج عن هذا حيث بدأتها بقصة “الايام الاولى” “لا اعلم ما الذي خطر ببالي ودفعني ان اقبل العمل في مكان كهذا؟!” وتنهيها بقصة “المدير الجديد” وهي تقول”كل يوم اصحو وادخل من الباب نفسه، بنفس الخطوات،وألقي السلام على نفس الاشخاص بنفس الترتيب غالباً، اجلس في مكاني والتفت، اجدني قد اضفت لعمري ثلاث سنوات اخرى دون ان اشعر”..اما في العتبة الأخيرة “مذكرات وطن” فقد جاءت جميع القصص وعددها 15 قصة بضمير الغائب/المروي عنه، ولم تخرج عن هذا الاطار كما في قصة “الطواش” حيث تبدأ القصة بوصف قصير “قطع من الجريد أمامه، تحتضنها كفاه بعناية، بقطعة خشب مدببة بدأ يصنع فتحات متجاورة..” وفي قصة “سعة” يبدأ السرد “استيقظ صباحا، باكرا جدا اكثر من كل يوم، على بعد خطوتين من سريره توقف في دورة المياه..”
خاتمة
يمكن القول ان المجموعة القصصية “همس القمر في مذكرات العمر” تنبئ عن مقدرة قصصية وتجربة جديرة بالوقوف عندها خاصة وهي تنتقي من الواقع ما يمكن ان يصلح نصوصاً تفاعلية مع الاشارة الى مقدرة القاصة على الاختزال بشكل لا يؤثر على وحدات النص، فجاءت النصوص منسابة بغير تكلف ما منحها القدرة على بث شحنات القراءة بكل ما تحتويه من لذة النص للمتلقي الذي يبحث عن ذلك.
—————–
هوامش:
(1) يسمي جاك دريدا العنوان ثريا النص ذكر ذلك القاص العراقي محمود عبد الوهاب في كتابه (ثريا النص، مدخل لدراسة العنوان الأدبي/ من اصدارات الموسوعة الصغيرة رقم 396 بغداد 1995).
(2) المصدر نفسه.
(3) في إجابة للكاتب امبرتو ايكو عن عنوان روايته اسم الوردة.
(4) حسن بحراوي: بنية الشكل الروائي، (الفضاء – الزمن – الشخصية)، ط1، المركز الثقافي العربي، 1990، بيروت، ص 117.