يسير الفكر في الجسد الملتزم كسريان الدم في الشرايين فيشكل جزءاً اساسياً من حياته وهو الفاتح للبصيرة والمؤدي إلى عوالم الرقي والمثل العليا.
الفكر الملتزم هو فكر التصدي وهو عكس الفكر الانهزامي واللاهث وراء المنافع المادية أو السلطوية فكذلك سامي العامري دفعه فكر المتجلي في كتاباته إلى عوالم الغربة فكما يقول الكتابة ملكه ترافق الكاتب حتى الممات قد يكسب من خلالها الجاه والمال أو تسبب له القتل أو تجبره على الفرار.
لقد اختار سامي العامري الطريق الثاني فلم يجنِ القصور والحصون من خلال ادب سلطوي كغيره من الصعاليك بل نال من نوائب الدهر مايلين الحديد إلا انه بقي صامداً سلاحه أدبه وثقافته التي سخرها من أجل المبدأ وحول هموم الكتابة وهواجس الفكر ومعاناة الأديب
– سيل كبير من الكتابات على مواقع الانترنت وعلى صفحات الجرائد والمجلات بعض منها متشابه وأخريات مختلفة، منها مفيد ومنها ضار، ولكن يبقى السؤال، ما الذي يحتاجه القارئ العراقي؟
– العراق بلد عريق ومتنوع على مستوياته القومية والدينية والإثنية ومتنوعٌ أيضاً في تكوينه الجغرافي الفريد ومن أسرار جماله وقوته تنوعُهُ وهذا للأسف ما لم يلتفت اليه النظام الدكتاتوري السابق بحكم بلادته بل على العكس اعتبرَهُ مصدر تهديدٍ لما كان يزعمه من توجه عربي وحدوي كان كاذباً ومزايداً أراد منه تثبيت سلطته وسلطة عشيرته عبر اللعب على القضية الفلسطينية وغيرها فأوشكت هذه الحملة الشوفينية المقيتة أن تحدث شرخاً نفسياً وإحباطاً داخل الإنسان العراقي عموماً واذا أردنا الحق فأغلب أشكال الحكم السالفة لم يفتها كذلك أن تكشف عن طائفية تارة وعنصرية قومية وعدم تسامح ديني تارة أخرى لكن بالمقابل رأينا الفئات المثقفة في مجتمعنا انتبهت إلى خطورة تفاعل هذا الجانب ووصوله إلى المساس بالثوابت الوطنية والتلاحم وأسس الوحدة بين أبناء الوطن الواحد، خاصة وقد منع النظام المتخلف السابق كل سبل التواصل مع العالم الخارجي جمالياً ومعرفياً وإنسانياً ولم يترك لنا سوى الإصدارات الغثة لوزارة ثقافته أو إعلامهِ، مع بعض الإستثناءات القليلة في حقل الترجمة – ربما- وحاول ما زال بعض المتمسحين بالعقيدة الدينية السمحاء من تكفيريين وسلفيين وإرهابيين مثلاً أن يكملوا (مسيرة) من سبقوهم وبطريقة مخجلةٍ كأنْ تتم ملاحقة وقتل النساء غير المحجبات أو تفجير مقاهي الإنترنت وغيرها ومن هذا المنطلق البسيط والسريع – وهذا رأي شخصي– أعتقد أن ما يحتاجه القاريء العراقي أولاً وخاصةً جيل ما بعد سلسلة الحروب الإرتجالية هو الإستمرار في ربطه الخلاق بروح العصر وبكل منجزاته والتوكيد على جانب التنوع لدى شعبه ورُقيِّ معانيه الحضارية وإظهارها كما هي ساطعة متألقة ساهمت في صنعها كل تكوينات أهل العراق وأطيافه وهذا المسعى النبيل هو فضاء رحب، والأدب– ومن ضمنه الشعر – هو أسمى أدوات التعبير عن هذا الفضاء والتحليق فيه إذْ لديه القدرة على أن يتمثله عميقاً ويحوّله إلى أغنية وبكل اللغات الرافدينية.
– الكتابة مـَلـَكة ترافق الكاتب حتى الممات قد يكسب من خلالها الجاه والمال، وقد تسبب له القتل أو تجبره على الفرار عابراً الأنهار والبحار يعيش مكـُتوياً بنار الغربة والفراق، ما نسبة الفائدة والضرر الذي لحق بكم بسبب الكتابة؟
– حقيقةً بدأ ميلي إلى التعبير في وقت حرج للغاية فبسبب الحرب العبثية مع إيران، في بداياتها ، أصبتُ بانتكاسة نفسية وكنت لمّا أزل طالباً في معهد الإدارة وشاباً في مقتبل العمر تلاحقني رموز البعث كما تلاحق سواي للإلتحاق بالجبهة عن طريق ما يسمى بالجيش الشعبي.
فوجدت نفسي مرغماً على تأجيل الدراسة لمدة عام فلم ينفع فصار لزاماً علي الإلتحاق بالجيش والمشاركة فعلياً في قتل مَن هم مثلي على الجبهة الأخرى من بسطاء الإيرانيين والذين لا يعرفون أيضاً لماذا يقاتلون!!
وهكذا فمن التخفي في بيتنا ببغداد إلى بعض بيوت الأصدقاء الرافضين للحرب كذلك إلى الإلتحاق (نادماً) بلغة السلطة السابقة، إلى السجون إلى الإهانات إلى الجبهة في بنجوين وقاطع العمارة، ووسط كل هذه الرحلة من المرارة واللامعقول كنت أحاول التعبير وطبيعي كانت لغتي وقتذاك ( مفعمة ) بالقرف! وكنت أكتب لنفسي وأري ما أكتبُ بعضَ الأصدقاء في مدينتي فحسب حيث لا إمكانية للنشر بالطبع سوى عدة مرات في مجلات خليجية كانت تصل العراق من بينها كما أتذكر مجلتي اليقظة والظفرة ولكن التحول الجاد إلى حمل القلم كسلاح لإستعادة إنسانيتي التي استرخصتها العقلية السياسية لنظام تلك المرحلة، بدأ منذ دخولي إيران كلاجيء بداية عام 1984 فهناك استطعتُ شمَّ بعض هواءٍ من الحرية وعقد نوع من الهدنة المشروطة مع كوابيس الحرب! وتعرفتُ إلى العديد من الطاقات الإبداعية العراقية شعراً وأدباً وفناً تشكيلياً وفكراً ومن أغلب تكوينات المجتمع العراقي، هذه الطاقات التي أصبح العديد منها في بلدان المنافي لاحقاً من الفنارات التي تعكس الإطمئنان إلى الثقافة العراقية والعربية ولا يزال لها حضوره الثقافي المؤثر رغم الغبن الجليّ الذي لحق بها من قبل وسطنا الثقافي،
أمّا الضرر الذي لحق بي في المغترب خاصة هنا في المانيا فهو في الواقع أكثر من ضرر وهو أساساً من جراء التكتلات الغارقة في الأنانية الضيقة بل والطريفة ورائدهم في ذلك هو الغيرة! حيث البعض منهم يعتقدون بأن نجاح أحد ما في ميدان معرفي أو ثقافي أو فني يعني انحسار دورهم هم! وعليه أعطيك مثالاً بسيطاً فقد عشتُ من حيث البداية سنوات طويلة هنا في المانيا حياةَ صعلكةٍ كرد فعل نفسي تلقائي على سنوات الحرب والإذلال وخلال تلك السنوات البوهيمية حاولتُ مرات عديدة مد خيوط تواصل مع من كانوا معروفين بشكلٍ ما ومحسوبين على الثقافة ومن سبقوني في الإغتراب وكنت في كل مرة لا أجد منهم سوى التجاهل أو إطلاق الوعود بالإهتمام وفي المحصلة لا شيء سوى سماعي عن قراءات وندوات وتمويلِ مهرجانات وصدور كتب ومجلات، وكل هذا يتم داخل ثلة محددة ظلت تكرر نفسها بسريةٍ وترتدي نفس الملابس وتأكل نفس الأطعمة وتعطس وتشهق وتنهق في وقت واحد، ولا تسمح بـ (دخيل) آتٍ بصراخ وحبٍّ غير معهودين فمَن لم يفهمني منهم – وهم الغالبية – تركني وشأني ومَن انتبهَ إلى طبيعة كتاباتي خاف على (عرشه) المدعوم إعلامياً وإخوانياً فحزمتُ كرامتي وعدت إلى حيث كنت ومازلت مع البسطاء من الناس وأنجزت عدة مؤلفات في الشعر والقصة والنقد الأدبي وبعض قضايا الفكر ، مع ديوان شعر بالألمانية ولم تزل هذه الكتب غير مطبوعة وكلهم يعرفون بذلك ولكن معاذ الله أن يسألوا عنها أو يشيروا اليها ورغم ذلك كنت أنشر بين الحين والآخر في بعض صحف المعارضة التي تصدر في لندن والولايات المتحدة ودمشق وبعض المجلات الأدبية العراقية والعربية.
– ما المساحة الفكرية التي تفصل بين مثقفي وكتاب الداخل عن الخارج، وما مدى قرب وبعد كل منهما من وعن الواقع، ولماذا؟
– في البدء علي أن أحيِّي من الصميم كل الطاقات الإبداعية الكبيرة في الداخل والتي حالت سنوات الحروب والحصار والظلامية والإرهاب والعوز دون أن تأخذ دورها الطبيعي في الظهور والتفاعل وبعد ذلك أشير إلى أني مشغول بالتفرد في الإبداع والعطاء ويستهويني تعقُّبُهُ أمّا الأسماء التي أصبحت بحكم الماكنة الإعلامية معروفة فهذه جعجعة لا تخدع مَن هم مثلي ولهذا أقول يظلَّ الشاعر أو الأديب أو المثقف الأصيل في المغترب كما في الداخل مسكوناً بجرح الوطن يحاول لمَّ ضفتيه إلى بعضهما أملاً بإيقاف النزيف أو بتخفيف غرابة تدفقه.
لذا ففي رأيي أن مثقفَ الداخل ومثقف الخارج هما توأمان لا يتمايزان إلاّ في بعض الملامح وأمّا الحديث عن تأثير ثقافة البلد الذي يعيش فيه المثقف الحقيقي المغترب فهو في الغالب تأثير من حيث طريقة المعالجة لا الرؤية فالذي يحنُّ إلى نخلة جنوبية أو إلى ناي راعٍ في جبال كوردستان وهو في مغتربه فهو يمارس فعل صلاةٍ لا تختلف جوهرياً عن حنين المثقف في الداخل إلى حرية وسلام روحي وفعلي له ولربوع وطنه، كلاهما يغنّي، كلاهما يقلق، كلاهما يتألم ، وبالتالي كلاهما يبدع مع فارق هو ربما فسحة معيَّنة من الحرية في التعبير والنشر هنا رغم أن تجربتي الشخصية تقول: حتى هذه السمة أو الإمتياز هو في حقيقته ظل مشروطاً في الكثير من الأحيان فانت ككاتب مثلاً تريد أن تنشر، تريد قارئاً ولهذا نعود إلى نفس الدائرة المغلقة ألا وهي محرر المجلة والصحيفة وتعصُّبهُ لنصوص أصدقائه من جهة، وعقلية البورصة أو السوق لدى الكثير من أصحاب دور النشر من جهة أخرى ، وحتى مجموعتي الشعرية الأولى (السكسفون المُجَنَّح) وهي الوحيدة المطبوعة ، جاءت مصحوبةً بالعديد من الأخطاء الطباعية ولكني صححتها وأفكر بإعادة طباعتها مرة ثانية.
أما بعد دخول الأنترنت بهذه الكثافة إلى حياتنا فرغم شيوع الفوضى والأسى المترافقين معه فإنك على الأقل استطعتَ نشر الكثير مما كنت ترغب بنشره دون خوف من رقيب متخلف أو ناقد متزلف!
وبالمِثْل كسبتَ أصدقاء رائعين كُثراً.
– الكاتب قد يكون أكثر من غيره يتفاعل مع الظروف مؤثراً ومتأثراً سلباً وإيجاباً، ماذا يعني لديكم سقوط الكاتب وخيانته لقلمه؟
– الكاتب الحقيقي لا يسقط واذا سمعنا عن كُتّابٍ أنهم سقطوا فهذه يعني أنهم ليسوا كتاباً حقيقيين فالذي يسقط أمام مغريات المال والجاه المزيف هو كاتب مزيف ونحن نرى من وقتٍ لآخر أن هموم (القضية) ما تزال تتحفنا بالبهلوانيين ولكن قد تزلُّ قدم الكاتب النزيه المخلص يوماً بسبب عجالة في الرأي أو اندفاع أو تعاطف مع فكرة طرأت في الأفق الفكري أو بسبب ضبابية مشهد سياسي وغيرها ولهذا فهو سرعان ما يصحو فيرمي ببقايا الثمالة ويتناول قهوة مركزة (سادة) ليواصل ما كان عليه. أمّا الخيانة حسب تعبيركم ، تلك المصحوبة بالتبرير فهي صنو الفضيحة فهناك من لا يستطيعون استشراف الغد لإنعدام موهبتهم أو تواضع بصيرتهم لذا فهم اذا اقدموا على فعلٍ ما فهنا لا تهمهم غير نتائجه السريعة فإن لم يجنوها انقلبوا على فعلهم أو لنقُلْ (مبادئهم) كما هو شأن مَن أمتطوا موجات الأحزاب بعد سقوط النظام وحتى قبله، فهؤلاء هم شعراء واجهات أو كتاب واجهات وهم يصلحون للإعلانات المؤسساتية وليس للإبداع والثقافة الحية وتحضرني العديد من الأمثلة ولكن لا جدوى من الإشارة اليها اليوم.
الضمير، القضية، الظرف، لكل واحدة دور في دفع الكاتب إلى الكتابة، أي واحدة لعبت دوراً أكثر معك في الحياة، وهل صادفك يوماً خانتك الكلمات؟
– انا إنسان على مستوى المعيشة بسيط تماماً فلا تكاد تحس بالفارق بين سامي العامري في العراق عام 1980 وبين سامي الذي يعيش في المانيا منذ ما يقرب من ربع قرن وقد جربتُ أن أغيّر جلدي عدة مرات !!
لانّ البساطة كثيراً ما أوقعتني في مطبات منها أن المقابل وتحديداً من يحسب نفسه منتسباً للثقافة ممن حولي ينظر إلى هذه البساطة والتلقائية كضعفٍ مني لهذا فقد يفكر أن يعاملني من دون حذرٍ جديرٍ انا به كإنسان ملتصق بمأساة الحياة وأسئلة الوجود والمصير ومعاني الحب والجمال وما يتصل بها والتي تتقاطع جوهرياً مع مظاهر التنعم والترف والتكلف، ولكن عبثاً فلا يمكن أن أغيّر جلدي، لا يمكن ولا يحق لكاتبٍ مثلي همُّهُ الأولُ الشعرُ، إلاّ أن يبقى مخلصاً للبساطة، للكلمة الحزينة بعمق والحميمة كتلاوة أيزيدية صباحية حفظتها كثيراً ورددتها كثيراً في ساعات حنيني لله.
وتلك الكلمة الحارة العزيزة علي – البساطة- هي بدورها لم تجد لها منطلَقاً إلا من نوافذ ضمير مرهف أحمله وعليه فالضمير كان المحرض الأول للتعبير بدءاً من وخزة الذنب الناتجة عن آثام اقترفتها في صباي وكذلك في شبابي وصعوداً إلى الفضاء الأوسع فضاء الوطن برؤيتي له وهو يتمزق إلى قضايا الإنسان عامةً.
إذن فهو الضمير هذا الناقوس الذي لا تكف أصداؤه عن التأرجح والتردد فيَّ وفوقي وحولي وأما عن خيانة الكلمة أو عنادها فهذا أمر واقع وكثيراً ما يحصل، والمتنبي وهو صاحب التعبير الشهير: أنام ملء جفوني عن شواردها… يقول باستغرابٍ مستنكراً عدم قدرته على التفاعل مع محيطه:
أصخرةٌ انا؟ ما لي لا تحركني
هذي المُدامُ ولا هذي الأغاريدُ؟
لهذا فقد كبوتُ عدة مرات وحزنت على هذا لفترةٍ ولكني لحسن الحظ تعلمتُ منه ونسبته إلى الماضي وانتهى… ولكن العجز من منظور آخر يبقى عجزاً مجنوناً ينطوي على لذة غامضة لأنه مقترن بالإستفزاز، ولا يفتر مَوّالهُ! إلا بعد اكتشاف مصدر الفتور أو الصخور الأعماقية وإفساح المجال لينابيع أعمق منها لكي تتدفق فتدفع الصخور جانباً أو تغمرها في موجٍ واثق طافح زاهٍ.
– من هم أكثر من كتبت لأجلهم وخاطبتهم ولماذا، وماذا كانت النتائج؟
– لعلي أقول هنا شيئاً ضرورياً وهو شهادة للتأريخ انا عصامي وأصدقائي كانوا دائماً بعيدين عني، فحياتي هي الوحدة بكل مجدها وقدسيتها وحزنها وجنونها الجميل ومع هذا فقد تأثرت في حياتي وخاصة في ثمانينيات القرن الماضي بالأديب المرهف نصيف فلك ثم الفنان التشكيلي والشاعر البديع باسم الرسام وهو كوردي فيلي وهذان من طهران ثم الشاعر والأديب الفذ حميد العقابي والشاعر هفهاف الروح جمال مصطفى وهما أيضاً عراقيان مقيمان في الدنمارك وكل هؤلاء مثلي عاشوا محنة الهرب إلى إيران وقسوة الشروط الحياتية للاّجيء هناك أما فيما يتعلق بالقراءة أو نوعية القراءة، قراءتي فتبرق في خاطري الآن مقولة لمكيسم غوركي (أعطني الكتب التي تجعلني لا أعرف الراحة بعد قراءتها). فإعجابي متنوع ومنه إعجابي بالغناء الصوفي لجبران وبروح النكتة اللاذعة لدى الماغوط وبكونيات البريكان وذكاء فوزي كريم والعديد غيرهم غير أني عاشق غريب للموروث الشعري العربي ومُطَّلع بشكل لا بأس به على الثقافة الألمانية والعالمية شعراً وأدباً وفكراً وفناً. وحول سؤالكم عمن خاطبتهم أكثر فأقول:
من المؤكد عندما يريد الشاعر أن يكتب فيتمنى السكينة الروحية أولاً كشرط للكتابة العميقة وهذا الشرط لا أجده إلاّ في محيط الحب وللحب عندي معنىً عرفانيٌّ فهو الحبيب والوطن والله والأرض والمصير وعليه أن أستمع إلى صوت حبيبتي في التلفون مثلاً فهو عندي دافع للكتابة لانَّ هذا الصوت العذب الصافي حمل معه أصوات الغيب وقيثارة الكون التي أصغي اليها في حضور الإلهام لهذا فانا كثيراً ما أحسُّ بأني راضٍ عما أكتب عندما أخاطب الحبيبة خاصة وهي من وطني بل هي الوطن والوطن هي.
وبصدد سؤالكم اللافت عن النتائج فأودُّ هنا أن أنوه إلى حقيقة معروفة تأريخياً وهي أن العرب قديما كانوا عندما يظهر شاعر بين ظهرانيهم فإنهم يبتهجون كثيراً لأنهم يعدونه لسان قبيلتهم والمدافع عن أنسابها والذي يتغنى مُفاخراً بانتصاراتها ويهجو أعداءها لذلك فهم ينحرون الذبائح في هذه المناسبة ولكن الذي نراه اليوم هو أن السلطات العربية تنحر الشاعر نفسه في هذه المناسبة!! ويبتهج ويبارك لها فعلتها هذه. الكثيرُ من المتطفلين على الشعر والثقافة فعصرهم الذهبي يبزغ مع ذبح الشاعر الحقيقي والمثقف الحقيقي.فالعصر الذي نحيا فيه يتيح للصحفي كذلك أن يطرح نفسه شاعراً مثلاً وعندما أقول الصحفي فإني أقولها وانا أتألم فتأريخ الصحافة العراقية تأريخ وضيءٌ ومليء بالجمال بل والشجن.
أما صحفيو اليوم فكثيرٌ منهم أشبه بالمراهقين وغير الناضجين لا فكرياً ولا عاطفياً ومع ذلك يحملون هوية إتحاد الأدباء!
وقد أشرتُ مؤخراً إلى هذا وغيره في قصائدي الأخيرة المنشورة في عدد من المواقع كقصيدة (أستميحك ورداً) و(رأس الفتنة انا!) ومجموعة (مهرجانات سرية!) ومقالي النقدي الأخير (شهرة الكاتب بوصفها فضيحةً لا مجداً!).
وقد بدا واضحاً في هذه الكتابات مرة أخرى أن بساطتي لا تعني بأية حالٍ أنني يمكن أن أُستغبى فقد مهدتُ لهذه المقالة النقدية بمقالة أخرى سبقتها وهي (قصيدة النثر وبوادر انتحارها!) نشرتها بداية هذا العام فانا حقيقةً غيور على الشعر على الثقافة الأصيلة.
– قلما نجد كاتباً يعلق ساخراً على الأوضاع في هذه الفترة، هل ترى الكتابات الساخرة موهبة أم قدرة أعلى وإمكانية أوسع لدى البعض أم هي حالات تفرض نفسها في بعض الأحيان. وما رأيكم بالأدب الساخر؟
– نستطيع أن نعتبر الكتابات الساخرة قدرة أعلى كما قلتم، ودون شكٍّ المرمى الرئيس للسخرية في الأدب هو ليس تلطيف المزاج فهذا قد يأتي ختاماً وإنما السخرية هذه هي موقف من الحياة ونحن مثلاً أحببنا الجاحظ لعدة أمورٍ أظهرُها روحُه الساخرة حتى من نفسه، فهو ناقد وسهامه الساخرة نافذة ومؤذية وكذلك ابن المقفع وعديدون آخرون في التراث العربي والشرقي وهذه الكوميديا السوداء هي أيضاً أحد أسلحة الإنسان الدفاعية في صراعه من أجل البقاء! انا أتذكر الآن على عجلٍ برناردشو عالمياً وأبا نؤاس بعبثه ولا مبالاته الظريفة بما يقوله الناس عنه وما يقوله دينهم! والأمر نفسه في عصرنا مع الراحل الماغوط ونقده الإجتماعي والسياسي لواقع عربي خصبٍ بالمفارقات وكذلك زكريا تامر وغيرهما. لقد نشأتُ في بيئة كان أغلب أقراني فيها أصحاب نكتة ومقالب شديدة الإضحاك، لذا فبدهيٌّ أن تستهويني روح الإنسان الأريحي خفيف الظل كثيراً، وأتذكر الآن أيضاً لقطة سريعة فقد بعث لي أحد معارفي اللطيفين من الشعراء رسالة إيميل يسألني فيها من بين ما يسألني عن صحتي فكتبتُ له: انا بخير… ثم استدركتُ ملاطفاً فقلت: وأين هو الخير؟ في صلعتي؟ ربما، إذْ أنها بدأت تتسع بحيث كلما سرتُ خطوةً إلى الأمام أجدها تسير خطوةً إلى الخلف !فردَّ على كلامي هذا وكان هو مثلي لديه صلعة صغيرة: (اذا كانت صلعتك تمشي وراءك فإنَّ صلعتي بدأت تزحف إلى الأمام وتأكل الأخضر واليابس!!).أؤمن بأن إيصال الفكرة الناقدة إلى المجتمع كترميز تهكمي يجعل لهذه الفكرة الأثر الفعال أو اذا هي صيغت همساً كاريكاتيرياً وخاصةً في الشأن السياسي سيكون لها وقعها الحسن في النفس وتؤثر أكثر مما لو صيغت بإسلوب جادٍّ بل السخرية الملتزمة بقضايا الناس والمجتمع هي عين الجد.
– هل خطر في بالك أن لم تكن كاتباً كيف كان لك أن تعبر عما في خلدك من رأي وأحاسيس وحب وغضب؟
– لو لم أكن كاتباً لكنتُ كاتباً ، لو لم أكن شاعراً لكنتًُ شاعراً هذا قدرٌ ربانيٌّ فيه الكثير من الدلال.
وأعتقد أن الكتابة هي التي تعمق أحاسيس الكاتب بجعلها الكاتب إنساناً متأملاً حالماً أكثر، متسائلاً أكثر، مرهفاً أكثر، ولهذا لو لم تكن الكتابة لما أخذت آراء الفرد ومشاعره من حب وغضب تلك الوجهة الفلسفية. الكتابة مسؤولية بقدر ما هي حب صميمي.
أأمل أن أقدّم دائماً ما يفرح القاريء ويضيف له المفيد الممتع.
الفكر الملتزم هو فكر التصدي وهو عكس الفكر الانهزامي واللاهث وراء المنافع المادية أو السلطوية فكذلك سامي العامري دفعه فكر المتجلي في كتاباته إلى عوالم الغربة فكما يقول الكتابة ملكه ترافق الكاتب حتى الممات قد يكسب من خلالها الجاه والمال أو تسبب له القتل أو تجبره على الفرار.
لقد اختار سامي العامري الطريق الثاني فلم يجنِ القصور والحصون من خلال ادب سلطوي كغيره من الصعاليك بل نال من نوائب الدهر مايلين الحديد إلا انه بقي صامداً سلاحه أدبه وثقافته التي سخرها من أجل المبدأ وحول هموم الكتابة وهواجس الفكر ومعاناة الأديب
– سيل كبير من الكتابات على مواقع الانترنت وعلى صفحات الجرائد والمجلات بعض منها متشابه وأخريات مختلفة، منها مفيد ومنها ضار، ولكن يبقى السؤال، ما الذي يحتاجه القارئ العراقي؟
– العراق بلد عريق ومتنوع على مستوياته القومية والدينية والإثنية ومتنوعٌ أيضاً في تكوينه الجغرافي الفريد ومن أسرار جماله وقوته تنوعُهُ وهذا للأسف ما لم يلتفت اليه النظام الدكتاتوري السابق بحكم بلادته بل على العكس اعتبرَهُ مصدر تهديدٍ لما كان يزعمه من توجه عربي وحدوي كان كاذباً ومزايداً أراد منه تثبيت سلطته وسلطة عشيرته عبر اللعب على القضية الفلسطينية وغيرها فأوشكت هذه الحملة الشوفينية المقيتة أن تحدث شرخاً نفسياً وإحباطاً داخل الإنسان العراقي عموماً واذا أردنا الحق فأغلب أشكال الحكم السالفة لم يفتها كذلك أن تكشف عن طائفية تارة وعنصرية قومية وعدم تسامح ديني تارة أخرى لكن بالمقابل رأينا الفئات المثقفة في مجتمعنا انتبهت إلى خطورة تفاعل هذا الجانب ووصوله إلى المساس بالثوابت الوطنية والتلاحم وأسس الوحدة بين أبناء الوطن الواحد، خاصة وقد منع النظام المتخلف السابق كل سبل التواصل مع العالم الخارجي جمالياً ومعرفياً وإنسانياً ولم يترك لنا سوى الإصدارات الغثة لوزارة ثقافته أو إعلامهِ، مع بعض الإستثناءات القليلة في حقل الترجمة – ربما- وحاول ما زال بعض المتمسحين بالعقيدة الدينية السمحاء من تكفيريين وسلفيين وإرهابيين مثلاً أن يكملوا (مسيرة) من سبقوهم وبطريقة مخجلةٍ كأنْ تتم ملاحقة وقتل النساء غير المحجبات أو تفجير مقاهي الإنترنت وغيرها ومن هذا المنطلق البسيط والسريع – وهذا رأي شخصي– أعتقد أن ما يحتاجه القاريء العراقي أولاً وخاصةً جيل ما بعد سلسلة الحروب الإرتجالية هو الإستمرار في ربطه الخلاق بروح العصر وبكل منجزاته والتوكيد على جانب التنوع لدى شعبه ورُقيِّ معانيه الحضارية وإظهارها كما هي ساطعة متألقة ساهمت في صنعها كل تكوينات أهل العراق وأطيافه وهذا المسعى النبيل هو فضاء رحب، والأدب– ومن ضمنه الشعر – هو أسمى أدوات التعبير عن هذا الفضاء والتحليق فيه إذْ لديه القدرة على أن يتمثله عميقاً ويحوّله إلى أغنية وبكل اللغات الرافدينية.
– الكتابة مـَلـَكة ترافق الكاتب حتى الممات قد يكسب من خلالها الجاه والمال، وقد تسبب له القتل أو تجبره على الفرار عابراً الأنهار والبحار يعيش مكـُتوياً بنار الغربة والفراق، ما نسبة الفائدة والضرر الذي لحق بكم بسبب الكتابة؟
– حقيقةً بدأ ميلي إلى التعبير في وقت حرج للغاية فبسبب الحرب العبثية مع إيران، في بداياتها ، أصبتُ بانتكاسة نفسية وكنت لمّا أزل طالباً في معهد الإدارة وشاباً في مقتبل العمر تلاحقني رموز البعث كما تلاحق سواي للإلتحاق بالجبهة عن طريق ما يسمى بالجيش الشعبي.
فوجدت نفسي مرغماً على تأجيل الدراسة لمدة عام فلم ينفع فصار لزاماً علي الإلتحاق بالجيش والمشاركة فعلياً في قتل مَن هم مثلي على الجبهة الأخرى من بسطاء الإيرانيين والذين لا يعرفون أيضاً لماذا يقاتلون!!
وهكذا فمن التخفي في بيتنا ببغداد إلى بعض بيوت الأصدقاء الرافضين للحرب كذلك إلى الإلتحاق (نادماً) بلغة السلطة السابقة، إلى السجون إلى الإهانات إلى الجبهة في بنجوين وقاطع العمارة، ووسط كل هذه الرحلة من المرارة واللامعقول كنت أحاول التعبير وطبيعي كانت لغتي وقتذاك ( مفعمة ) بالقرف! وكنت أكتب لنفسي وأري ما أكتبُ بعضَ الأصدقاء في مدينتي فحسب حيث لا إمكانية للنشر بالطبع سوى عدة مرات في مجلات خليجية كانت تصل العراق من بينها كما أتذكر مجلتي اليقظة والظفرة ولكن التحول الجاد إلى حمل القلم كسلاح لإستعادة إنسانيتي التي استرخصتها العقلية السياسية لنظام تلك المرحلة، بدأ منذ دخولي إيران كلاجيء بداية عام 1984 فهناك استطعتُ شمَّ بعض هواءٍ من الحرية وعقد نوع من الهدنة المشروطة مع كوابيس الحرب! وتعرفتُ إلى العديد من الطاقات الإبداعية العراقية شعراً وأدباً وفناً تشكيلياً وفكراً ومن أغلب تكوينات المجتمع العراقي، هذه الطاقات التي أصبح العديد منها في بلدان المنافي لاحقاً من الفنارات التي تعكس الإطمئنان إلى الثقافة العراقية والعربية ولا يزال لها حضوره الثقافي المؤثر رغم الغبن الجليّ الذي لحق بها من قبل وسطنا الثقافي،
أمّا الضرر الذي لحق بي في المغترب خاصة هنا في المانيا فهو في الواقع أكثر من ضرر وهو أساساً من جراء التكتلات الغارقة في الأنانية الضيقة بل والطريفة ورائدهم في ذلك هو الغيرة! حيث البعض منهم يعتقدون بأن نجاح أحد ما في ميدان معرفي أو ثقافي أو فني يعني انحسار دورهم هم! وعليه أعطيك مثالاً بسيطاً فقد عشتُ من حيث البداية سنوات طويلة هنا في المانيا حياةَ صعلكةٍ كرد فعل نفسي تلقائي على سنوات الحرب والإذلال وخلال تلك السنوات البوهيمية حاولتُ مرات عديدة مد خيوط تواصل مع من كانوا معروفين بشكلٍ ما ومحسوبين على الثقافة ومن سبقوني في الإغتراب وكنت في كل مرة لا أجد منهم سوى التجاهل أو إطلاق الوعود بالإهتمام وفي المحصلة لا شيء سوى سماعي عن قراءات وندوات وتمويلِ مهرجانات وصدور كتب ومجلات، وكل هذا يتم داخل ثلة محددة ظلت تكرر نفسها بسريةٍ وترتدي نفس الملابس وتأكل نفس الأطعمة وتعطس وتشهق وتنهق في وقت واحد، ولا تسمح بـ (دخيل) آتٍ بصراخ وحبٍّ غير معهودين فمَن لم يفهمني منهم – وهم الغالبية – تركني وشأني ومَن انتبهَ إلى طبيعة كتاباتي خاف على (عرشه) المدعوم إعلامياً وإخوانياً فحزمتُ كرامتي وعدت إلى حيث كنت ومازلت مع البسطاء من الناس وأنجزت عدة مؤلفات في الشعر والقصة والنقد الأدبي وبعض قضايا الفكر ، مع ديوان شعر بالألمانية ولم تزل هذه الكتب غير مطبوعة وكلهم يعرفون بذلك ولكن معاذ الله أن يسألوا عنها أو يشيروا اليها ورغم ذلك كنت أنشر بين الحين والآخر في بعض صحف المعارضة التي تصدر في لندن والولايات المتحدة ودمشق وبعض المجلات الأدبية العراقية والعربية.
– ما المساحة الفكرية التي تفصل بين مثقفي وكتاب الداخل عن الخارج، وما مدى قرب وبعد كل منهما من وعن الواقع، ولماذا؟
– في البدء علي أن أحيِّي من الصميم كل الطاقات الإبداعية الكبيرة في الداخل والتي حالت سنوات الحروب والحصار والظلامية والإرهاب والعوز دون أن تأخذ دورها الطبيعي في الظهور والتفاعل وبعد ذلك أشير إلى أني مشغول بالتفرد في الإبداع والعطاء ويستهويني تعقُّبُهُ أمّا الأسماء التي أصبحت بحكم الماكنة الإعلامية معروفة فهذه جعجعة لا تخدع مَن هم مثلي ولهذا أقول يظلَّ الشاعر أو الأديب أو المثقف الأصيل في المغترب كما في الداخل مسكوناً بجرح الوطن يحاول لمَّ ضفتيه إلى بعضهما أملاً بإيقاف النزيف أو بتخفيف غرابة تدفقه.
لذا ففي رأيي أن مثقفَ الداخل ومثقف الخارج هما توأمان لا يتمايزان إلاّ في بعض الملامح وأمّا الحديث عن تأثير ثقافة البلد الذي يعيش فيه المثقف الحقيقي المغترب فهو في الغالب تأثير من حيث طريقة المعالجة لا الرؤية فالذي يحنُّ إلى نخلة جنوبية أو إلى ناي راعٍ في جبال كوردستان وهو في مغتربه فهو يمارس فعل صلاةٍ لا تختلف جوهرياً عن حنين المثقف في الداخل إلى حرية وسلام روحي وفعلي له ولربوع وطنه، كلاهما يغنّي، كلاهما يقلق، كلاهما يتألم ، وبالتالي كلاهما يبدع مع فارق هو ربما فسحة معيَّنة من الحرية في التعبير والنشر هنا رغم أن تجربتي الشخصية تقول: حتى هذه السمة أو الإمتياز هو في حقيقته ظل مشروطاً في الكثير من الأحيان فانت ككاتب مثلاً تريد أن تنشر، تريد قارئاً ولهذا نعود إلى نفس الدائرة المغلقة ألا وهي محرر المجلة والصحيفة وتعصُّبهُ لنصوص أصدقائه من جهة، وعقلية البورصة أو السوق لدى الكثير من أصحاب دور النشر من جهة أخرى ، وحتى مجموعتي الشعرية الأولى (السكسفون المُجَنَّح) وهي الوحيدة المطبوعة ، جاءت مصحوبةً بالعديد من الأخطاء الطباعية ولكني صححتها وأفكر بإعادة طباعتها مرة ثانية.
أما بعد دخول الأنترنت بهذه الكثافة إلى حياتنا فرغم شيوع الفوضى والأسى المترافقين معه فإنك على الأقل استطعتَ نشر الكثير مما كنت ترغب بنشره دون خوف من رقيب متخلف أو ناقد متزلف!
وبالمِثْل كسبتَ أصدقاء رائعين كُثراً.
– الكاتب قد يكون أكثر من غيره يتفاعل مع الظروف مؤثراً ومتأثراً سلباً وإيجاباً، ماذا يعني لديكم سقوط الكاتب وخيانته لقلمه؟
– الكاتب الحقيقي لا يسقط واذا سمعنا عن كُتّابٍ أنهم سقطوا فهذه يعني أنهم ليسوا كتاباً حقيقيين فالذي يسقط أمام مغريات المال والجاه المزيف هو كاتب مزيف ونحن نرى من وقتٍ لآخر أن هموم (القضية) ما تزال تتحفنا بالبهلوانيين ولكن قد تزلُّ قدم الكاتب النزيه المخلص يوماً بسبب عجالة في الرأي أو اندفاع أو تعاطف مع فكرة طرأت في الأفق الفكري أو بسبب ضبابية مشهد سياسي وغيرها ولهذا فهو سرعان ما يصحو فيرمي ببقايا الثمالة ويتناول قهوة مركزة (سادة) ليواصل ما كان عليه. أمّا الخيانة حسب تعبيركم ، تلك المصحوبة بالتبرير فهي صنو الفضيحة فهناك من لا يستطيعون استشراف الغد لإنعدام موهبتهم أو تواضع بصيرتهم لذا فهم اذا اقدموا على فعلٍ ما فهنا لا تهمهم غير نتائجه السريعة فإن لم يجنوها انقلبوا على فعلهم أو لنقُلْ (مبادئهم) كما هو شأن مَن أمتطوا موجات الأحزاب بعد سقوط النظام وحتى قبله، فهؤلاء هم شعراء واجهات أو كتاب واجهات وهم يصلحون للإعلانات المؤسساتية وليس للإبداع والثقافة الحية وتحضرني العديد من الأمثلة ولكن لا جدوى من الإشارة اليها اليوم.
الضمير، القضية، الظرف، لكل واحدة دور في دفع الكاتب إلى الكتابة، أي واحدة لعبت دوراً أكثر معك في الحياة، وهل صادفك يوماً خانتك الكلمات؟
– انا إنسان على مستوى المعيشة بسيط تماماً فلا تكاد تحس بالفارق بين سامي العامري في العراق عام 1980 وبين سامي الذي يعيش في المانيا منذ ما يقرب من ربع قرن وقد جربتُ أن أغيّر جلدي عدة مرات !!
لانّ البساطة كثيراً ما أوقعتني في مطبات منها أن المقابل وتحديداً من يحسب نفسه منتسباً للثقافة ممن حولي ينظر إلى هذه البساطة والتلقائية كضعفٍ مني لهذا فقد يفكر أن يعاملني من دون حذرٍ جديرٍ انا به كإنسان ملتصق بمأساة الحياة وأسئلة الوجود والمصير ومعاني الحب والجمال وما يتصل بها والتي تتقاطع جوهرياً مع مظاهر التنعم والترف والتكلف، ولكن عبثاً فلا يمكن أن أغيّر جلدي، لا يمكن ولا يحق لكاتبٍ مثلي همُّهُ الأولُ الشعرُ، إلاّ أن يبقى مخلصاً للبساطة، للكلمة الحزينة بعمق والحميمة كتلاوة أيزيدية صباحية حفظتها كثيراً ورددتها كثيراً في ساعات حنيني لله.
وتلك الكلمة الحارة العزيزة علي – البساطة- هي بدورها لم تجد لها منطلَقاً إلا من نوافذ ضمير مرهف أحمله وعليه فالضمير كان المحرض الأول للتعبير بدءاً من وخزة الذنب الناتجة عن آثام اقترفتها في صباي وكذلك في شبابي وصعوداً إلى الفضاء الأوسع فضاء الوطن برؤيتي له وهو يتمزق إلى قضايا الإنسان عامةً.
إذن فهو الضمير هذا الناقوس الذي لا تكف أصداؤه عن التأرجح والتردد فيَّ وفوقي وحولي وأما عن خيانة الكلمة أو عنادها فهذا أمر واقع وكثيراً ما يحصل، والمتنبي وهو صاحب التعبير الشهير: أنام ملء جفوني عن شواردها… يقول باستغرابٍ مستنكراً عدم قدرته على التفاعل مع محيطه:
أصخرةٌ انا؟ ما لي لا تحركني
هذي المُدامُ ولا هذي الأغاريدُ؟
لهذا فقد كبوتُ عدة مرات وحزنت على هذا لفترةٍ ولكني لحسن الحظ تعلمتُ منه ونسبته إلى الماضي وانتهى… ولكن العجز من منظور آخر يبقى عجزاً مجنوناً ينطوي على لذة غامضة لأنه مقترن بالإستفزاز، ولا يفتر مَوّالهُ! إلا بعد اكتشاف مصدر الفتور أو الصخور الأعماقية وإفساح المجال لينابيع أعمق منها لكي تتدفق فتدفع الصخور جانباً أو تغمرها في موجٍ واثق طافح زاهٍ.
– من هم أكثر من كتبت لأجلهم وخاطبتهم ولماذا، وماذا كانت النتائج؟
– لعلي أقول هنا شيئاً ضرورياً وهو شهادة للتأريخ انا عصامي وأصدقائي كانوا دائماً بعيدين عني، فحياتي هي الوحدة بكل مجدها وقدسيتها وحزنها وجنونها الجميل ومع هذا فقد تأثرت في حياتي وخاصة في ثمانينيات القرن الماضي بالأديب المرهف نصيف فلك ثم الفنان التشكيلي والشاعر البديع باسم الرسام وهو كوردي فيلي وهذان من طهران ثم الشاعر والأديب الفذ حميد العقابي والشاعر هفهاف الروح جمال مصطفى وهما أيضاً عراقيان مقيمان في الدنمارك وكل هؤلاء مثلي عاشوا محنة الهرب إلى إيران وقسوة الشروط الحياتية للاّجيء هناك أما فيما يتعلق بالقراءة أو نوعية القراءة، قراءتي فتبرق في خاطري الآن مقولة لمكيسم غوركي (أعطني الكتب التي تجعلني لا أعرف الراحة بعد قراءتها). فإعجابي متنوع ومنه إعجابي بالغناء الصوفي لجبران وبروح النكتة اللاذعة لدى الماغوط وبكونيات البريكان وذكاء فوزي كريم والعديد غيرهم غير أني عاشق غريب للموروث الشعري العربي ومُطَّلع بشكل لا بأس به على الثقافة الألمانية والعالمية شعراً وأدباً وفكراً وفناً. وحول سؤالكم عمن خاطبتهم أكثر فأقول:
من المؤكد عندما يريد الشاعر أن يكتب فيتمنى السكينة الروحية أولاً كشرط للكتابة العميقة وهذا الشرط لا أجده إلاّ في محيط الحب وللحب عندي معنىً عرفانيٌّ فهو الحبيب والوطن والله والأرض والمصير وعليه أن أستمع إلى صوت حبيبتي في التلفون مثلاً فهو عندي دافع للكتابة لانَّ هذا الصوت العذب الصافي حمل معه أصوات الغيب وقيثارة الكون التي أصغي اليها في حضور الإلهام لهذا فانا كثيراً ما أحسُّ بأني راضٍ عما أكتب عندما أخاطب الحبيبة خاصة وهي من وطني بل هي الوطن والوطن هي.
وبصدد سؤالكم اللافت عن النتائج فأودُّ هنا أن أنوه إلى حقيقة معروفة تأريخياً وهي أن العرب قديما كانوا عندما يظهر شاعر بين ظهرانيهم فإنهم يبتهجون كثيراً لأنهم يعدونه لسان قبيلتهم والمدافع عن أنسابها والذي يتغنى مُفاخراً بانتصاراتها ويهجو أعداءها لذلك فهم ينحرون الذبائح في هذه المناسبة ولكن الذي نراه اليوم هو أن السلطات العربية تنحر الشاعر نفسه في هذه المناسبة!! ويبتهج ويبارك لها فعلتها هذه. الكثيرُ من المتطفلين على الشعر والثقافة فعصرهم الذهبي يبزغ مع ذبح الشاعر الحقيقي والمثقف الحقيقي.فالعصر الذي نحيا فيه يتيح للصحفي كذلك أن يطرح نفسه شاعراً مثلاً وعندما أقول الصحفي فإني أقولها وانا أتألم فتأريخ الصحافة العراقية تأريخ وضيءٌ ومليء بالجمال بل والشجن.
أما صحفيو اليوم فكثيرٌ منهم أشبه بالمراهقين وغير الناضجين لا فكرياً ولا عاطفياً ومع ذلك يحملون هوية إتحاد الأدباء!
وقد أشرتُ مؤخراً إلى هذا وغيره في قصائدي الأخيرة المنشورة في عدد من المواقع كقصيدة (أستميحك ورداً) و(رأس الفتنة انا!) ومجموعة (مهرجانات سرية!) ومقالي النقدي الأخير (شهرة الكاتب بوصفها فضيحةً لا مجداً!).
وقد بدا واضحاً في هذه الكتابات مرة أخرى أن بساطتي لا تعني بأية حالٍ أنني يمكن أن أُستغبى فقد مهدتُ لهذه المقالة النقدية بمقالة أخرى سبقتها وهي (قصيدة النثر وبوادر انتحارها!) نشرتها بداية هذا العام فانا حقيقةً غيور على الشعر على الثقافة الأصيلة.
– قلما نجد كاتباً يعلق ساخراً على الأوضاع في هذه الفترة، هل ترى الكتابات الساخرة موهبة أم قدرة أعلى وإمكانية أوسع لدى البعض أم هي حالات تفرض نفسها في بعض الأحيان. وما رأيكم بالأدب الساخر؟
– نستطيع أن نعتبر الكتابات الساخرة قدرة أعلى كما قلتم، ودون شكٍّ المرمى الرئيس للسخرية في الأدب هو ليس تلطيف المزاج فهذا قد يأتي ختاماً وإنما السخرية هذه هي موقف من الحياة ونحن مثلاً أحببنا الجاحظ لعدة أمورٍ أظهرُها روحُه الساخرة حتى من نفسه، فهو ناقد وسهامه الساخرة نافذة ومؤذية وكذلك ابن المقفع وعديدون آخرون في التراث العربي والشرقي وهذه الكوميديا السوداء هي أيضاً أحد أسلحة الإنسان الدفاعية في صراعه من أجل البقاء! انا أتذكر الآن على عجلٍ برناردشو عالمياً وأبا نؤاس بعبثه ولا مبالاته الظريفة بما يقوله الناس عنه وما يقوله دينهم! والأمر نفسه في عصرنا مع الراحل الماغوط ونقده الإجتماعي والسياسي لواقع عربي خصبٍ بالمفارقات وكذلك زكريا تامر وغيرهما. لقد نشأتُ في بيئة كان أغلب أقراني فيها أصحاب نكتة ومقالب شديدة الإضحاك، لذا فبدهيٌّ أن تستهويني روح الإنسان الأريحي خفيف الظل كثيراً، وأتذكر الآن أيضاً لقطة سريعة فقد بعث لي أحد معارفي اللطيفين من الشعراء رسالة إيميل يسألني فيها من بين ما يسألني عن صحتي فكتبتُ له: انا بخير… ثم استدركتُ ملاطفاً فقلت: وأين هو الخير؟ في صلعتي؟ ربما، إذْ أنها بدأت تتسع بحيث كلما سرتُ خطوةً إلى الأمام أجدها تسير خطوةً إلى الخلف !فردَّ على كلامي هذا وكان هو مثلي لديه صلعة صغيرة: (اذا كانت صلعتك تمشي وراءك فإنَّ صلعتي بدأت تزحف إلى الأمام وتأكل الأخضر واليابس!!).أؤمن بأن إيصال الفكرة الناقدة إلى المجتمع كترميز تهكمي يجعل لهذه الفكرة الأثر الفعال أو اذا هي صيغت همساً كاريكاتيرياً وخاصةً في الشأن السياسي سيكون لها وقعها الحسن في النفس وتؤثر أكثر مما لو صيغت بإسلوب جادٍّ بل السخرية الملتزمة بقضايا الناس والمجتمع هي عين الجد.
– هل خطر في بالك أن لم تكن كاتباً كيف كان لك أن تعبر عما في خلدك من رأي وأحاسيس وحب وغضب؟
– لو لم أكن كاتباً لكنتُ كاتباً ، لو لم أكن شاعراً لكنتًُ شاعراً هذا قدرٌ ربانيٌّ فيه الكثير من الدلال.
وأعتقد أن الكتابة هي التي تعمق أحاسيس الكاتب بجعلها الكاتب إنساناً متأملاً حالماً أكثر، متسائلاً أكثر، مرهفاً أكثر، ولهذا لو لم تكن الكتابة لما أخذت آراء الفرد ومشاعره من حب وغضب تلك الوجهة الفلسفية. الكتابة مسؤولية بقدر ما هي حب صميمي.
أأمل أن أقدّم دائماً ما يفرح القاريء ويضيف له المفيد الممتع.