من بين الشبهات التي تدور حول مجمل أعمال الشاعر العراقي أديب كمال الدين أنه بدأ مع عالم الواقع و انتهى به الأمر إلى دوائر و هموم الذات، و أنه كان غريبا في المرحلتين ، فقد تعامل مع الأشياء ( و هي نثر العالم في الخطاب الشعري ) ( 1 ) ، ثم مع الصورة و الانطباعات التي تتركها في الذهن . و هذا يعني ضمنا أنه استعمل مفردات من غبار و عبارات من لدائن ، و بتعبير الشاعر نفسه كان يتحرك ( بخطوات من سكون ) كما ورد في ديوان الأشياء ( 2).
و إن شئت التوضيح : لم يكن الشاعر يرفد جملته القصيرة ( في البداية ) و الطويلة التي تحتمل عددا لا نهائيا من المترادفات و الطباق و غيرهما من المحسنات ( في شجرة الحروف و ما بعدها ) بما يسميه النقاد بالعاطفة ، الوجدان ، الضمير ، أو بيت نار الحساسية الشعرية الأصيلة.
في كل حال ، إن بيت الشعر في أية قصيدة لأديب كمال الدين لا يخلو من هذا الدينامو الأساسي ، البذرة الوجدانية التي تحاصر العقل بعدد من المعاني ، حتى لا تترك أمام العين من فرصة للإبصار ، ليس لأنها عين ضريرة ، و لكن لأن عالم الأشياء الضئيل و الخانق و الضيق دائما يتسع باشقاقات ليس لها مدلول دنيوي ، و ليست هي بعوز لرصيد من ديالكتيك الواقع ، و إنما هي في حالة صعود أو معراج من مقام أدنى ( و هو المدلول ) إلى مقام أعلى ( وهو المعنى ) ( 3 ).
و بهذا الخصوص تتحول القصيدة إلى أنشودة مفتوحة على الطبيعة و الحياة من طرف ، و على الذات من طرف آخر.
و هنا ، و هذا هو الغريب في الأمر ، إن الحدود أو التخوم لا تنمحي. و نحن باستمرار نتابع المعاني و هي تعبر بالاتجاهين مثل تيار متناوب ، يضيء على التزامن :
1 – الأساطير الطبيعية لبلاد ما بين النهرين ، بكل ما تنطوي عليه من حزن و موت و فناء ، ثم جفاف كوني ، هو في حالة حرب أزلية مع مفهومنا للخصوبة و للعماء المائي و للفيضان.
2 – و أساطير الذات ، و ربما لنكون أشد تواضعا ، التجارب الذاتية والتي لها طابع شمولي و جدلي ، و توقيع ذات دامية منهمكة في نضال عسير ، كا أنها تمر في مرحلة اشتباك مع عناصرها الأولى ، النفس و الأفكار و الجسد.
أخيرا، أعتقد أن أديب كمال الدين شاعر مخلص لتقاليد أفراد الجيل الوسيط في العراق ( 4 ). لقد كان يبحث عن صوته الخاص و المتفرد و هو يشق طريقه الصعب بين تراث البياتي ، بكل ما يحمله من علامات شكلية على تصوف موضوعي ، تصوف غير غنوصي ، غير عرفاني ، و متأصل برومنسيات الإيديولوجيا القهرية. ثم تراث السياب ، الابن البار لمدينة البصرة ، و الذي حمل على ظهره أعباء تحديث الشعر العربي بالانطلاق من هموم ساسية لها خلفيات مع وجدان مأزوم و معصوب ، وجدان مريض يعبر عن المستقبل الداعي لحداثة ترفضها شروط مجتمعاتها.
لا شك أن الأجراس ، في قصائد أديب كمال الدين الأخيرة ، تقرع . إنها تعلن الحرب الطاحنة ضد ماضها من كل النوحي .. الشكل و المضمون ، المفردات و الإيقاع ، ثم النسق و المعنى. و هذا بحد ذاته هو نقطة انعطاف تحتاج لمزيد من التأمل و مزيد من التقدير.
————————————————
هوامش :
1 – انظر مقالة مشاريع جديدة لخزعل الماجدي المنشورة في الطليعة الأدبية ، نيسان ، 1979 ، ص 117 . و فيها يقول : إن أديب كمال الدين ينشغل كليا بعالمه الخاص به و الذي يبدو متدفقا كثير التفاصيل ، و قليل العناية بصنعته الشعرية ، إذ سرعان ما تندفع القصيدة عنده إلى استطرادات كاملة….إلخ.
2 – المرجع السابق نفسه. ص 138 .
3 – انظر قصيدة موت المعنى لأديب كمال الدين ، صحيفة المثقف الإلكترونية ، الخميس 1 كانون الثاني ، 2009 .
4 – كما أرى إن الشعر في العراق، بعد الرواد الكبار، ينقسم إلى جيل مؤسس و في مقدمته يأتي السياب و البياتي و نازك الملائكة ، ثم أفراد الجيل الأول و منهم سعدي يوسف و علي جعفر العلاق ، إلخ ، وبعد ذلك الجيل الوسيط و من بينهم سلام كاظم و فاروق يوسف و صاحب خليل إبراهيم و أسعد الجبوري ، ثم الجيل الحالي و في مقدمة هؤلاء كمال سبتي ، يحيى السماوي ، و فائز العراقي ، و موسى أحمد ، إلخ…
و إن شئت التوضيح : لم يكن الشاعر يرفد جملته القصيرة ( في البداية ) و الطويلة التي تحتمل عددا لا نهائيا من المترادفات و الطباق و غيرهما من المحسنات ( في شجرة الحروف و ما بعدها ) بما يسميه النقاد بالعاطفة ، الوجدان ، الضمير ، أو بيت نار الحساسية الشعرية الأصيلة.
في كل حال ، إن بيت الشعر في أية قصيدة لأديب كمال الدين لا يخلو من هذا الدينامو الأساسي ، البذرة الوجدانية التي تحاصر العقل بعدد من المعاني ، حتى لا تترك أمام العين من فرصة للإبصار ، ليس لأنها عين ضريرة ، و لكن لأن عالم الأشياء الضئيل و الخانق و الضيق دائما يتسع باشقاقات ليس لها مدلول دنيوي ، و ليست هي بعوز لرصيد من ديالكتيك الواقع ، و إنما هي في حالة صعود أو معراج من مقام أدنى ( و هو المدلول ) إلى مقام أعلى ( وهو المعنى ) ( 3 ).
و بهذا الخصوص تتحول القصيدة إلى أنشودة مفتوحة على الطبيعة و الحياة من طرف ، و على الذات من طرف آخر.
و هنا ، و هذا هو الغريب في الأمر ، إن الحدود أو التخوم لا تنمحي. و نحن باستمرار نتابع المعاني و هي تعبر بالاتجاهين مثل تيار متناوب ، يضيء على التزامن :
1 – الأساطير الطبيعية لبلاد ما بين النهرين ، بكل ما تنطوي عليه من حزن و موت و فناء ، ثم جفاف كوني ، هو في حالة حرب أزلية مع مفهومنا للخصوبة و للعماء المائي و للفيضان.
2 – و أساطير الذات ، و ربما لنكون أشد تواضعا ، التجارب الذاتية والتي لها طابع شمولي و جدلي ، و توقيع ذات دامية منهمكة في نضال عسير ، كا أنها تمر في مرحلة اشتباك مع عناصرها الأولى ، النفس و الأفكار و الجسد.
أخيرا، أعتقد أن أديب كمال الدين شاعر مخلص لتقاليد أفراد الجيل الوسيط في العراق ( 4 ). لقد كان يبحث عن صوته الخاص و المتفرد و هو يشق طريقه الصعب بين تراث البياتي ، بكل ما يحمله من علامات شكلية على تصوف موضوعي ، تصوف غير غنوصي ، غير عرفاني ، و متأصل برومنسيات الإيديولوجيا القهرية. ثم تراث السياب ، الابن البار لمدينة البصرة ، و الذي حمل على ظهره أعباء تحديث الشعر العربي بالانطلاق من هموم ساسية لها خلفيات مع وجدان مأزوم و معصوب ، وجدان مريض يعبر عن المستقبل الداعي لحداثة ترفضها شروط مجتمعاتها.
لا شك أن الأجراس ، في قصائد أديب كمال الدين الأخيرة ، تقرع . إنها تعلن الحرب الطاحنة ضد ماضها من كل النوحي .. الشكل و المضمون ، المفردات و الإيقاع ، ثم النسق و المعنى. و هذا بحد ذاته هو نقطة انعطاف تحتاج لمزيد من التأمل و مزيد من التقدير.
————————————————
هوامش :
1 – انظر مقالة مشاريع جديدة لخزعل الماجدي المنشورة في الطليعة الأدبية ، نيسان ، 1979 ، ص 117 . و فيها يقول : إن أديب كمال الدين ينشغل كليا بعالمه الخاص به و الذي يبدو متدفقا كثير التفاصيل ، و قليل العناية بصنعته الشعرية ، إذ سرعان ما تندفع القصيدة عنده إلى استطرادات كاملة….إلخ.
2 – المرجع السابق نفسه. ص 138 .
3 – انظر قصيدة موت المعنى لأديب كمال الدين ، صحيفة المثقف الإلكترونية ، الخميس 1 كانون الثاني ، 2009 .
4 – كما أرى إن الشعر في العراق، بعد الرواد الكبار، ينقسم إلى جيل مؤسس و في مقدمته يأتي السياب و البياتي و نازك الملائكة ، ثم أفراد الجيل الأول و منهم سعدي يوسف و علي جعفر العلاق ، إلخ ، وبعد ذلك الجيل الوسيط و من بينهم سلام كاظم و فاروق يوسف و صاحب خليل إبراهيم و أسعد الجبوري ، ثم الجيل الحالي و في مقدمة هؤلاء كمال سبتي ، يحيى السماوي ، و فائز العراقي ، و موسى أحمد ، إلخ…
تموز 2009