حسين السنيد:
قدمه اليمنى كانت تنزف باثر اصابة اطلاقة نارية , و قد لف حول الجرح قميصه الممزق , وجهه ويديه مليئة بآثار الكدمات والدم المتجمد .. هرب بآخر رمقه من كمين للقوات الحكومية,قتلو اثنين من رفاقه وفرو بعضهم باتجاه الصحراءحاملين بين يديهم ماتبقى من اعمارهم. و هو هرب باتجاه الحرم الحسيني , عسى ان ينجو ..
تعثرت قدمه اليسرى و ارتطمت جبهته بالارض الحارة ,شقت جبهته وبدء الدم يسيل ليملئ محاجره,لجئ الى زاوية ورمى نفسه على الارض خلف عربة قديمة..يشعر بعطش شديد وشفاهه المتفطرة لم تتوقف من تلاوة بعض الآيات القرآنية.
اشتد القصف واصوات الرصاص لا تنقطع وبدأت الارض ترتجف خوفا ..اثناء مروره ببعض الشوارع كان قد رأى اعمدة الدخان تتصاعد من قبة حرم الحسين المقصوفة. يسمع صوت نحيب النساء و صرخات الاطفال من اتجاه الحرم.
– اااااه ,كربلاء مرة اخرى ,ايعقل يا حسين ان تذبح مرة اخرى؟ ايعقل ان يستباح حرمك مرة اخرى؟ سينتصر يزيد؟
اصوات اطلاق النار تقترب وتصبح اكثر حدة , نظر الى السماء , بدت له حمراء , حمراء كالدم.. جيش يزيد يقترب, انتهت المعركة,فلا عباس ولا علي اكبر هنا ,والهاشميون قتلو جميعا و الخيم تحترق.تشوشت عيناه, تمدد كالميت واسلم الروح.
قبل ان يغمض عيونه وفي اللحظة الاخيرة , رأي باب بيت بالاتجاه اآخر من الشارع انفتحت و امرأة ظهرت تومي اليه بيدها.
نادت المرأة : تعال … تعال…
فتح عيونه ليتأكد , هل هذا خيال؟
بقت المرأة تنظر اليه من باب بيتها النصف مفتوح , ازاح الموت عن صدره و حاول ان يجر نفسه على الارض , جر نفسه بكل ما يملك من قوة وكان يتحرك بمسافات قليلة وخيط الدم من قدمه يترك اثرا على الارض.
وصل لمنتصف الشارع ..كان القصف المدفعي يرج المنطقة في كل لحظة ,واصوات الرصاص قريبة جدا و كانها بين اذنيه.
المرأة كانت ماتزال واقفة ,تترقبه بعيون قلقة ,في عيونها نظرة امومة و تشجعه بايمائات يديها .. سحل نفسه السحلة الاخيرة . بدأ النزف يشتد , لم يعد يحس باقدامه , الموت شل اقدامه اولا .. يأس من كل شي ,فامامه طريق طويل ,ربما عشرة امتار او اكثر . جثى الموت على صدره .. ارتخت عضلاته وحس بثقل الموت يجري في شرايينه..يأس من الحياة التي هربت من يديه .. اغمض عيونه ,فالحسين قد قتل…
بعد عشرين عاما …
اليوم : عاشوراء
المكان : كربلاء
كانت كربلاء مليئة بالعشاق الزاحفين اليها من كل فج عميق ,المواكب المعزية لايمكن عدها ,تاتي بكل اشكالها و من كل مكان .
قبة الحسين شامخة منيرة ,كالشمس التي تلثم الارض..المنائر كاعمدة نور ترتفع و تبدو لا نهاية لها.
وقف رجل بين الجموع ,رجل بقدم عرجاء ,يلطم الصدر بخفة و عيونه غرقت بالدمع حتى بللت خديه.
استرجع ذلك اليوم ,قبل عشرون عاما …. هنا وقعت .. هنا نزفت .. هنا بكيت .. وهنا ادخلتني تلك المرأة لبيتها لتنقذني من الموت .
عذرا يا حسين .. فأنت لم تقتل ابدا ,انتصرت يا شهيد , انتصرت مرة اخرى.
جاء حشد من الشباب هاتفين (( يا شهيدا اين منك الشهدا .. لم نجد شخصك الا اوحدا ))
مسح الرجل الاعرج دموعه , وضاع بين جموع الملايين.