محمد خضير :
(إلى روح حسين عبد اللطيف)
1
كلما فرشتُ سجادتي وقت صلاة الفجر، انبسطت أمامي مفازة صفراء، بل مطماة انسحبت عنها مياه الفيضان، وظهر الرجل المبرقع جالساً تحت الشجرة الفارعة، في الركن الأعلى الأيمن من السجادة. تقابل شجرة الركن الأيمن شجرة مماثلة في الركن الأعلى الأيسر، وبين الشجرتين مسافة واسعة، إلا أن المبرقع كان يتحرك أحياناً ليتفيأ ظل الشجرة اليسرى، وبعد أن يستقر في مكانه في أحد الركنين، يلقي بمسبحته بين ساقيه المتربعتين ويناديني سائلاً: “أي الأشكال تُرى رسمت مسبحتي؟”
أجيبه فوراً: “أعرف هذا الشكل، ترسم المسبحةُ سرب نمال”.
يقول: “لا، أنت لا تعرف. بل يتراءى لك ذلك. فأنت لم تعش عصر الطوفان الثاني، عندما انحسرت المياه، وظهرت الأشكال”.
نُحتت حبات المسبحة من شجرة النارجيل، ذلك النوع الذي تنبت منه شجرتا السجادة، في ركنيها العلويين، الأيمن والأيسر. يرفع الرجل رأسه عن مسبحته ويقول: “وهل تعرف بقية الأشكال؟”.
أجيب: “أظنني رأيت بضعة أشكال مما ألقيتَ أمامي”.
يقول وهو يجمع حبات مسبحته بقبضته: “في المسبحة تسعة وتسعون شكلاً، ولم يُتح لك أن ترى منها أكثر من بضعة أشكال. وحين تبلغ المائة من عمرك ستُحمل كلها إلى القبر وتُدفن معك. ستُطوى السجادة وتختفي الأشكال. لم تشاهد إلا قليلاً إلا أن جسدك سيُلفّ بها وينتهي الأمر”.
أعرف ذلك أيضاً، فنفسي مشتاقة إلى هتاف الأجل الذي يعقبه انطواء السجادة، مع القول المبرم: “وقُضي الأمر”. لم أجادل المبرقع بما أُبطِن خشية انقطاعه عني قبل اكتمال الأشكال التسعة والتسعين المضمرة في مسبحته.
2
أراقب حركة اليدين اللتين تلقيان بالمسبحة. الكفّ اليمنى تدليها من عقدتها، والكفّ اليسرى تتلقف خرزاتها من الأسفل. ألاحظ خشونة الكف اليمنى، المجعدة بالعقد، وأميزها عن الكف اليسرى، الناعمة الرخوة. اليمنى نافرة العروق، مخدوشة الأصابع، من كثرة التسبيح. اليد العليا المستعملة بجبروت وغضب. أقارنها بيدي اليومية المتخبطة، المجرَّحة، يد الكتابة والنسخ الطويل وتقليب الصفحات، فينتابني الخوف والجزع.
في ذلك الفجر البعيد، شكلت المسبحةُ تسعة أشكال متتالية، سألني المبرقع عن معانيها فاستبهمت عليّ. قال إنها أشكال الحركة والوقفة، الشهقة والجرعة، البرهة والهنيهة، السلسلة والقيد. أما الشكل التاسع فهو شكل السُلّم، الذي تعامدت فيه الخرزات بين الكفين العليا والسفلى.
ثم أضاف: “عبادة الله طريقة في التفكير، وليست معرفة نهائية. ستحتاج، أيها الشاعر، إلى معرفة هذه الأشكال لكي تصل أعلى درجات السلّم”.
3
ظهر الرجل المبرقع في ركن السجادة الأيمن، ولمّا أبلغ عامي السبعين، وتربّع تحت شجرة النارجيل، راسماً بمسبحته قطرة الصمغ التي حبست نملة الأجل في داخلها. قال إن هذا الشكل يمثل الدرجة الأخيرة من سلّم المسبحة، أو الحلقة التاسعة والتسعين من السلسلة. ثم أضاف: “إني أريكهما قبل أن تبصر أشكال الحركات والوقفات، والهنيهات والبرهات، والشهقات والجرعات، التي تعترض طريق صعودك، ذلك لأن هذا الشكل الكهرمانيّ خاتمة تسبيحات الهتاف المؤجل “وسيروا في الأرض” عندما تشتاق إليه نفسك”.
4
من قعر الحفرة المظلمة تتلاوح أجنحة وتصطفق، نازلة صاعدة، مفردة مجتمعة، تتلاوح بحبات السلسلة ترسم أشكال ما قبل الزلزلة، وكنت أصيح بصوت مخنوق: “أيْ ربّي، تعب العبد من جرّ السلسلة في حياته، فكيف من جرّها في مماته؟”.
يأتي شكل الوقفة بأمر: قف قف قف قف قف.
يليه شكل الشهقة بأمر: صه صه صه صه صه.
ثم شكل الجرعة بأمر: نه نه نه نه نه.
وكنت أرى عدة أيد فوق الحفرة تتجاذب الأشكال المتقاطرة من حبات المسبحة، وتكتم الصيحة المتعجبة.
5
المرة الأولى التي شاهدتُ فيها سلّماً عدد درجاته تسع وتسعون كان سلّماً مسنداً إلى جدار مقبرة، يلقي بظله على الطلاء الكلسي للجدار كحبات مسبحة. ثم صار هذا السلّم المتروك في ركن الأبدية الكالح أداتي في ارتقاء السطوح والأبراج، النوافذ والشرفات، الأعمدة والأسوار. كما نقلته على كتفي هنا وهناك في الطرقات والحارات، وهو السلّم الذي استعملته في اقتطاف طغراء “الهايكو” من أشجار حديقة الصمغ.
أسندتُ السلّم إلى جدار حفرتي المظلمة وارتقيت درجاته طيلة ليال وليال، حتى التقيت النملة التي قطعت آلاف الفراسخ لتمسك بها قطرة صمغ في جوفها الكهرمانيّ. استويتُ في حديقة الصمغ ورحت أبحث بين الحشرات والديدان المتحجرة في قطرات الصمغ المتساقطة منذ قرون عن النملة التي شكلتها مسبحة الرجل المبرقع على سجادتي.
عثرت على النملة ملقاة تحت شجرة داخل الجسم الشفاف، سابحة في طغراء ملتفة على نفسها كجوهر شعري لاتيني المقاطع. وفيما أنا أقلب النظر في الأحجورة الصمغية الشفافة، سمعت صوتاً مخنوقاً ينبجس من باطنها: “لا تعجب إن خاطبتك نملة كانت أخت لها قد خاطبت سليمان الملك. جئتك بسؤال من بابلو نيرودا، كما جاءت أختي سليمان باسم الله الرحمن الرحيم.. وحين نمتُ البارحة بانتظارك سقطت قطرة صمغ من الشجرة واحتجزتني بداخلها”.
حملتُ قطرة الصمغ وعدت إلى حفرتي، ولمّا فرشت سجادتي سألتُ المبرقع أن يفك أسر النملة، فقال: “لن تخرج إليك، فادخل عليها وشاركها رحم أبديتها الصمغية، والتفّ وإياها في طغراء سؤالها الشعري”.
دبّت النملة على جلدة إصبعي فرقيتُ وسريتُ، وخفّت ضجة الأصوات المنقولة من سؤال نيرودا، حمحمة الخيول وتلاطم الأمواج وسقوط المطر على الغابات. هدأت صومعة الصمغ ونمتُ مع النملة على سرير من الديباج، وتدلى الهايكو كقنديل معلق في صدر السرير أو كقطرة صمغ كهرمانية على غصن شجرة وقت إدماعها.
6
أجبت على سؤال بابلو نيرودا الملفوف في قطرة الصمغ:
“أتيت من وراء البحر
والآن، إلى أين لو نبذني البحر؟”
بهذا الهايكو الذي دبّ على بشرة إصبعي كنملة سليمان الحكيم:
“من التراب
وإلى التراب، نعود”
7
ما كدتُ أصرف من وقتي في حديقة الصمغ سبعين حولاً، جنيتُ خلالها عدداً قليلاً من قطرات الهايكو المعلقة في خريف الأشجار المستوية فوق حفرتي، حتى انقطع الرجل المبرقع عن زيارة سجادتي، والاستواء أمامي بمسبحته التي يلقيها أمام ناظري وقت الفجر.
تجرعتُ كؤوساً صغيرة من عصير الشعر الكهرماني اللون، جرعة بعد جرعة، غير واثق من تناهي أشكال المسبحة، جاثياً على ركبتيّ، محبوساً في زاويتي، مسنداً سلّمي إلى جانبي، وقد بعدت عن مسمعي ضجة الأسئلة والأجوبة، وغابت عن ناظري دموع أشجار الخريف بما تحمل من أنباء التنازع والصراع للبقاء على وجه الأرض، والإلحاف في طلب القوت والمال والبنين، وما عدت أتذكر سوى هسيس النمل يردد قولي: “ربّ أبعد هذه الكاس عني”.
جريدة الصباح
4/8/2014