طه حسن :
يعرف الفيلسوف بالابتسامة المشرقة والفراسة الصائبة… . سأل الفيلسوف أجيرا عن ظروف العمل بالشركة. لم يكن “عبد الصبار” متحفظا في الحديث إليه. أجاب بإسهاب عن مظاهر بيرو- قراطيتها ومعالم إفلاسها وعن علاقة الأجراء بهذه البيرو- قراطية… . اكتفى الفيلسوف بالإنصات صائما عن التعليق والتعقيب. كان يعلم ما لا يعلمه البيروقراطيون أنفسهم. كان أدرى بأسبابها وأسرارها وغاياتها أكثر من صانعيها. ختم عبد الصبار حديثه قائلا: “إن البيرو- قراطية تفعل في صحوها ما يفعله الوطواط في نومه”. ضحك الفيلسوف وضحك عبد الصبار… . وجه له هذا الأخير دعوة لزيارة الشركة وتناول وجبة غذاء معا. لم يرفض الفيلسوف الدعوة. لم يحدد أجلا لذلك. حضرت فرصة قدومه إلى الدارالبيضاء لغرض علمي. دخل إلى مقر الشركة. كان يرتدي قميصا صيفيا. لكن الدخول إلى مطعم الشركة يستلزم ارتداء “كوستيم” وربطة عنق. تركه عبد الصبار بقاعة الاستقبال حيث أجرى مقابلته الأولى لتشغيله وعاين فرائص المستخدم النادل ترتعد عند طلب الشاي. صادف أحد زملائه الذي يشقى بأدنى درجة إدارية. استلم منه بذلة باليه وربطة عنق بسيطة. ارتدى الفيلسوف البذلة كأنها صممت له. اعتذر عبد الصبار للفيلسوف الذي ابتسم لتواضع الفيلسوف. قال لعبد الصبار: “اشكر زميلك شكرا جزيلا”. بينما هو يحدث عبد الصبار على طاولة الغذاء عن انطباعه الأول حين دخوله إلى الشركة، جاءهما المسؤول “قابيل”. استأذنهما في الجلوس. حاول عبد الصبار صرفه بحركة مرفق يده اليسرى. بدون أن ينتبه قابيل، أومأ الفيلسوف لعبد الصبار بالسماح له بالجلوس. قال: “تفضل سيدي، مرحبا”. بعد دقائق معدودة، وجه قابيل الكلام إلى الفيلسوف متسائلا:
– أعتقد أني أعرفك…، سبق لي أن شاهدتك…، لم أتذكر أين…
عقب الفيلسوف:
– غير مستبعد.
أضاف قابيل:
– ربما…، الجرائد أو الشاشة الصغيرة !
أجاب:
– ممكن. إني أشتغل بالتدريس في الجامعة وبالبحث العلمي.
رد قابيل:
– هذا شيء مشرف، إني مهندس رئيس مصلحة بالشركة…، أهتم قدر الإمكان بالفكر والثقافة والإبداع…
استمرا في الحديث طويلا إلى غاية الانتهاء من تناول وجبة الغذاء. انبهر قابيل حينما اكتشف أنه يجالس قامة فكرية كبيرة… .أخبر الأشخاص الموجودين بالمطعم. تقدموا كلهم للسلام على الفيلسوف… . سأل قابيل الفيلسوف عن المهام العالقة بكتاباته مستقبلا، ثم طلب منه قائلا:
– أرجو منك أن تهيىء لنا محاضرة في موضوع من اهتماماتك الفكرية.
وعده قائلا:
– إن شاء الله.
أضاف قابيل في معرض حديثه وهو واثق من نفسه:
– إننا هنا في الشركة ننصر المستخدمين على أنفسهم وعلى أفعالهم. نطردهم من العمل عند ارتكابهم لأخطاء جسيمة، أو نصدر قرارات تأديبية إذا كانت الأخطاء بسيطة، مثلا: توقيف لمدة محددة مع اقتطاع الأجرة المتعلقة بفترة التوقيف…
سكت الفيلسوف برهة. أسهب قابيل في التوضيح والتبرير من جهة، والإشادة بالعقوبات ومفعولها من جهة أخرى. قال: “هكذا يستفيدون ويتثقفون …”. ثم واصل العقوبات بمفهوم الجودة، وأطنب في الحديث عنهما بإعجاب… . بقي الفيلسوف يصيخ السمع حتى أنهى كلامه. ثم عقب قائلا:
– شريطة أن لا يكون هناك ظلم وظالم ومظلوم.
التفت عبد الصبار بسرعة إلى قابيل والغضب الرمادي باد على محياه. استدار نحو الفيلسوف الذي ارتسم على جبينه إبداع ملؤه إشكالات. بادر الفيلسوف باقتراح موضوع قائلا:
– هناك موضوع يستشكل “العلاقة بين المقاولة والثقافة والأخلاق”. أما فيما يخص المهام العالقة بكتاباتي ستنصب ما حييت إن شاء الله على قضايا الأمة العربية والإسلامية.
انصرف قابيل شاكرا للفيلسوف هذا اللقاء، توجه الفيلسوف نحو القاعة حيث خلع البذلة وربطة العنق. استوقف عبد الصبار ملاحظا:
– رغم حفاوتهم بي، لست أدري لماذا لم يستقبلني أحد منهم في مكتبه… !
أجاب عبد الصبار:
– إن مكاتبهم وقاعاتهم هي بيوت الأدواء ومطاعم التحرشات ومطابخ القرارات. لن يستقبلوك هناك أبدا خوفا من الفراسة الفلسفية.
ابتسم الفيلسوف حكمة. عاد إلى مختبره الفلسفي. فرح من هو أدنى درجة إدارية قائلا: لقد تجددت روحي وبذلتي… مافتئت الفلسفة تجدد عقولنا وقلوبنا ولباسنا في زمن بيروقراطية مفلسة…